مهنتي الوجود في الكتابة، وحرفتي الكتابة في الوجود، وليس لي بيت ولا عنوان إلا في مملكة هذه الكتابة، و( لقد علمتني مهنتي ألا أحدق إلا في عين الشمس الحارقة، وألا أشرب إلا من عين الحياة الجارية والصافية، وألا أوجد إلا في عين الوجود السامية، وألا أحيا إلا في عين الحياة المتدفقة ماء حيا) هكذا تحدث ذلك المواطن المسرحي في ذلك الوطن الافتراضي، وفي تلك الاحتفالية المسرحية التي تحمل اسم (مقامات بهلوانية) والتي صدرت ضمن الجزء الأول من أعمالي الكاملة، والتي مازلت لحد الآن غير كاملة، والتي لا أتمنى أبدا أن تكتمل قريبا أو .. بعيدا.. وفي هذه الكتابة التي نكتبها دائما، أو تنكتب بنا، هناك سطور كثيرة جدا، بعدد الحالات والمقامات، وبعدد الحركات والسكنات، وبعدد الأفعال والانفعالات، وبعدد المحسوسات والمتخيلات سطور بعضها قبل بعض، أو خلف بعض، وبين هذه السطور المرسومة والظاهرة هناك سطور أخرى خفية، وأعتقد أن قراءة هذه السطور الظاهرة وحدها، دون قراءة ما بينها وما فوقها وما تحتها وما خلفها وما في ضميرها أيضا، لا يمكن أن تكون قراءة حقيقية أبدا، وربما لأجل هذا كنا في حاجة لأن نتعلم أن نقرأ ما بين السطور أيضا. وفي هذه الكتابة أيضا، معاني معلن عنها ومعاني أخرى مسكوت عنها، وفيها جهر وهمس، وفيها خطابية وغنائية، وفيها نفس ملحمي وآخر درامي، وفيها فراغات كثيرة تحتاج لمن يملأها، وفيها اختيارات وجودية وفكرية تحتاج لمن يقتسمها مع الكاتب، وفيها (كذب) جمالي وفني يحتاج لمن يصدقه، وفيها انحرافات كثيرة تحتاج لمن يصححها، وفيها قبح مؤقت يحتاج لمن يجمله، وأعقد أن القدر الأكبر من جمال الناس والأشياء موجود في العيون التي تراها، وموجود في القلوب التي تعشقها، وبغير هذا العشق لا يتأسس في الوجود شيء إلا العدم. وكما أقول دائما، فإنني لا أدعي الفتح المبين، ولا أزعم أنني سوف آتيكم بالكرامات، وما لدي اليوم إلا الكلمات، وهل هناك شيء أخطر من الكلمات؟ ولا شيء في جعبتي وحقيبتي إلا الكلمات والعبارات، أي تلك الجمار الحارقة للذات والمخترقة للأبعاد والمسافات، فأنا لست ساحرا، ولست فقيها، ولست مهرجا، ولست مشعوذا، ولست زعيما، ولست واعظا، ولست متنبئا، ولذلك، فإنني أقول لكم وبخصوص هذه الكلمات والكتابات دائما الكلمة البسيطة والشفافة التالية، رجاء، لا تسألوني إن كانت صائبة أو كانت خاطئة هذه الكلمات، لأن ذلك لا يهمني في شيء، وما يعنيني هو أن تكون صادقة.. نعم، صادقة وكفى، وسأسعى لأن أوصل هذه الكلمات إلى كل الناس، وأن أعول في ترحالي الإبداعي والفكري على رفقة الأقلام الكاتبة وحدها، وأن أقول مع القائلين، وأن أكتب مع الكاتبين الكلمة الصادقة التالية (الأقلام رسل الكرام) وأعتقد أن الأقلام الكاتبة، لا يمكن أن تكون كذلك، إلا إذا كانت لها رسائلها وخطاباتها، وكانت موجهة إلى الناس وإلى الحقيقة والتاريخ، وكانت لها محمولاتها المعرفية والجمالية والأخلاقية أيضا، وكانت لها إضافاتها التي تحقق الفهم والمتعة والمؤانسة، وإنني شخصيا لا يمكن أن أتصور وجود رسول لا يحمل للناس رسالة، ولا يحمل لهم بشارة، ولا يحذرهم، ولا يأتيهم بأجوبة للأسئلة الوجودية والاجتماعية والسياسية الحقيقية المعلقة. وفي ذلك الكتاب الذي أصدرته منذ عشر سنوات، والذي أعطيته اسم (المؤذنون في مالطة) أؤكد على أن ما يقتل الشعوب ليس هي الأزمات الاقتصادية أو المالية أو الاقتصادية العارضة والعابرة، ولكنها تلك الأزمات الوجودية والثقافية والوجدانية الأخرى، والتي هي الأكبر والأخطر، لأنها (تجعل الشعوب الحية تفقد حيويتها، وتكفر بالماضي الذي كان، وبالمستقبل الذي سوف يأتي، وتفقد لذة العيش وحلاوة الوجود، وأن تنسى كيف تفكر، وكيف تسأل وتجيب، وكيف تطرق الأبواب الموصدة بعناد وإصرار، وكيف تمارس الغضب المشروع، وتحيا بالتحدي وفيه، وكيف تبني وتهدم، وكيف تعاود البناء والتأسيس، وكيف تحاور الآخرين وتجادلهم، وتفيدهم وتستفيد منهم، وكيف يمكن أن تتمثل العصر بفكره وإبداعه من غير أن تفرط في ذاتها المبدعة، ومن غير أن تقفز إلى العالمية، وأن تطير إليها، وأن تحاول القبض على مظاهرها الهاربة والمنفلتة، وأن يتم ذلك بغير القفز على الذات، وعلى هويتها وخصوصيتها، وعلى محليتها التي لا يمكن أن تتكرر مرتين). إنني لا أعرف كيف أستعرض مسار حياتي، ولكن حياة أفكاري، والتي هي الأهم والأخطر، أعرف كيف أستعرض مسارها، وأعرف كيف أحدد خطوط مسيرتها، وأتذكر كل محطاتها التي كلفتني كثيرا من الشقاء الجميل. إنني أحب الفعل، ولا أحب رد الفعل، وأعشق أن أكون فاعلا ومؤسسا ومبادرا، وأكره أن أكون منفعلا ومتبعا ومعيدا لما قيل ولما كتب من قبل، وأفضل أن أكون خاطئا بأفكاري الخاصة، على أن أكون صائبا بأفكار غيري. يسعدني أن أقول أنا، وأن يسمعني السامعون، ويفرحني أن أكتب أيضا، وأن يفهمني القارئون، وإذا حدث ولم يفهموا، ولا أتمنى ذلك أبدا، واستعصى عليهم الفهم والإدراك، وذلك لسبب من الأسباب، أو لوجود عطب من الأعطاب في جهاز التلقي، فإنني أقول ما يلي، تلك مشكلتهم بلا شك، وليست مشكلتي، فأنا علي أن أؤسس الكتابة الحقيقية، وعلى الآخرين أن يؤسسوا القراءة الحقيقية، وقد يصعب فعل هذه القراءة أحيانا، وقد يصل إلى درجة الاستحالة، وذلك نتيجة لوجود عطب ما، ذاتي أو موضوعي، كما قد يكون العطب في اللحظة التاريخية المسيسة والمحزبة والمؤدلجة أكثر من اللازم، أو قد يكون في الأجواء الاجتماعية والسياسية الملتبسة والمضببة، والتي لا تساعد على الرؤية الواضحة، كما قد يكون في هذه الساعة الحمقاء والمجنونة التي نعيشها اليوم، والتي لا تساعد على الفهم والتفاهم، ولا تساعد على الوصول والتواصل، ولا تساعد عل رؤية الناس والأشياء بشكل حقيقي، والتي تكتفي بقراءة العناوين، وهل تكفي وحدها العناوين؟ وهكذا كانت تلك الاحتفالية التي أسستها وأسستني، أو أعادت تأسيسي، فعلى امتداد ثلث قرن من الزمن، كانت مجرد عنوان فقط، عنوان اكتفى به البعض عن قراءة المتن الفكري والجمالي والأخلاقي والسياسي الحقيقي. وفي (ختام) كتاب من كتبي، والذي هو (كتابات على هامش البيانات) أقول الكلمة التالية (إنني أتوقف عن الكتابة في هذا الكتاب، وألقي بقلمي وورقي ومدادي في لجة أخرى، وذلك بحثا عن ضفاف أخرى بعيدة، ضفاف أشتاق إليها، وأسعى إليها، مع أنني لا أعرفها، وإنني أتمنى أن يكون لها وجود حقيقي، وألا تكون مجرد وهم من الأوهام) إن الإحساس بالوصول يقلقني كثيرا، لذلك ارتضيت لنفسي أن أكون مسافرا دائما، وأن تكون غايتي في الرحيل متعة الرحيل ولذته، وليس أي شيء آخر، تماما كما يزعجني الإحساس الخادع بالشبع والارتواء، والإحساس بالامتلاء، والإحساس بالوصول، والإحساس بالعلم والفهم، والإحساس بالعلو والسمو، والإحساس بالغنى الكلي والمطلق. إنني أعرف أن الآتي هو الأجمل والأكمل دائما، وأن ما عند هذا الآتي، هو أغلى وأجمل وأكمل وأنبل مما هو في هذا الآني، ولذلك كان رهاني عليه، وحده، ولم يكن على أي شيء آخر. إنني أخاف أن أنهزم، لأن الهزيمة يمكن أن تدمرني، وأخاف أن أنتصر أيضا، لأن الانتصار يمكن يملأني بالغرور، وأجمل ما أتمناه هو أن أظل محاربا أبديا في ساحة الوجود..