كل شيء بدأ بطائر مهاجر فقد أثره، ويتعلق الأمر بطائر من صنف العقاب الملكي الايبيري، وهو صنف نادر مهدد بالانقراض، حلق من الجارة الشمالية إسبانيا رفقة سرب من فصيلته ولم يعد أبدا إلى موطنه. وبعد بحث أجراه فريق من الخبراء في عالم الطيور بإسبانيا حول سبب غياب هذا الطائر استعان فيه بجهاز تعقب "جي بي إس" كان مثبتا بظهر الطائر، تبين أنه ظل عالقا بمنطقة بجنوب المغرب. تتبع هؤلاء الخبراء إشارة جهاز التعقب ليكتشفوا أنها قادمة من منطقة بوسافن على مستوى واد بوسافن بين جماعتي لبيار والشاطئ الأبيض ضواحي كلميم. "بحكم اهتمامي بعالم الطيور والحياة البرية، اتصل بي أحد من هؤلاء الخبراء الإسبان وطلب مني التحقق من مصير هذا الطائر، وهو صنف أوروبي نادر ومهدد بالانقراض بعدما حددوا مكانه"، يقول علي إيريزي رئيس جمعية أصدقاء الطيور الكاسرة بأكادير، مضيفا: "انتقلت إلى منطقة بوسافن رفقة أعضاء من الجمعية، وبتنسيق أيضا مع مهتمين آخرين من جمعيات شمال المغرب، لتكون المفاجئة أكبر من المتوقع". فبعد البحث بعين المكان الذي تنتصب فيه أعمدة كهربائية ضخمة بمحاذاة وادي بوسافن، تم العثور على العقاب الملكي الايبيري المفقود نافقا تحت عمود كهربائي، وإلى جانبه طيور من فصائل متشابهة، والمفاجأة كانت أكبر حينما وجد فريق البحث بنفس المكان ثلاثة عقبان ملكية ايبيرية نافقة أيضا. هنا وضع فريق البحث فرضية لتفسير سبب ما بدا أنه ظاهرة، "إنها فرضية الصعق الكهربائي الذي بات يشكل تهديدا خطيرا للطيور، وخاصة النادرة بالمنطقة"، يقول إيريزي في تصريح صحافي. لأول مرة يكتشف هذا الفريق أن منطقة بوسافن، الواقعة على بعد 60 كيلومترا من مدينة كلميم، هي فضاء إيكولوجي يجذب الطيور المهاجرة ولاسيما النادرة لوفرة الفرائس والظروف المناخية الملائمة، لكنها في الآن ذاته نقطة جذب الطيور نحو الهلاك والفتك بها لكثرة انتشار الأعمدة الكهربائية. فرضية أكدها محمد يوسف أمخروك ،المدير الإقليمي للمكتب الوطني للكهرباء (قطاع التوزيع) بكلميم، باعتبار أن مصالح هذا القطاع سبق أن عاينت حالات من الطيور النافقة تحت أعمدة كهربائية، ليس بمنطقة بوسافن وحدها وإنما أيضا بمناطق أخرى بالإقليم. فأحيانا ، يضيف أمخروك، ينقطع التيار الكهربائي بشكل مفاجئ وغالبا ما يكون السبب إصابة أحد الطيور بصعقة كهربائية، لأن الطيور بطبعها تهوى الأماكن المرتفعة والعالية جدا، كالأعمدة الكهربائية، وهو ما يجعلها مهددة، في أي لحظة، بالصعق الكهربائي، وخاصة بمحيط وادي بوسافن المعروف بتوافد الطيور إليه من مختلف المناطق. سفيان بنموسى ، المدير الإقليمي للمياه والغابات بإقليم كلميم، لم ينف هو الآخر حوادث الصعق الكهربائي بالمنطقة، بحيث قال ان مصالح المندوبية تقوم بزيارات ميدانية لمختلف المناطق التي سجلت بها حالات نفوق طيور وذلك وفق إجراءات وتدابير تدخل في إطار محاربة داء "أنفلونزا" الطيور عبر المراقبة والمعاينة الميدانية، مؤكدا أنه في إحدى الخرجات الميدانية، أواخر نونبر الماضي على مستوى واد بوسافن، وعلى امتداد 12 كيلومترا، تم العثور على بعض الطيور وهي نافقة نتيجة الصعق الكهربائي، وذلك لكثرة انتشار الأعمدة الكهربائية بالمنطقة. إنها منطقة تنتصب فوقها أعمدة كهربائية وخطوط كثيفة ذات التوتر العالي تفتك بكل طائر لامست أجنحته أحد الأسلاك، فالطيور غير المحظوظة لا تدرك، وهي تفرد أجنحتها استعدادا للتحليق بعد فترة راحة فوق هذه الأسلاك، أنها ستحلق نحو رحلة أبدية، وأحيانا أخرى تلقى نفس المصير أثناء محاولة تثبيت نفسها استعدادا للوقوف على هذه الأسلاك المميتة. الأمر لم يقف عند صعق هذا العقاب الملكي الإيبيري المبحوث عنه منذ سنة 2015؛ بل إن المنطقة كانت مسرحا لحوادث مماثلة خلفت نفوق حوالي 70 طائرا من سبعة أصناف مختلفة بحسب تقرير نشره، السنة الماضية، الاتحاد العالمي للمحافظة على الطبيعة، وهي حالات لم ينتبه إليها أحد قبل ذلك، ولم تلق الاهتمام اللازم، سواء من قبل المهتمين بعالم الطيور والبيئة أو من المتدخلين، لولا بعثة استكشافية من مركز التعاون من أجل البحر الأبيض المتوسط التابع للاتحاد، كانت قد حلت في يناير من سنة 2016 بمنطقة بوسافن من أجل تفقد جثة العقاب الإيبيري المبحوث عنه، وإعداد دراسة حول الظاهرة عبر المعاينة وجرد الطيور النافقة من عقبان ملكية وأصناف متشابهة، إسبانية أو محلية تعيش بالمغرب وتهاجر إلى هذه المنطقة. وبعد المعاينة والجرد، يقول إيريزي، تم العثور، بالإضافة إلى ثلاثة عقبان ملكية إيبيرية قادمة من منطقة الأندلس بإسبانيا، على حوالي 40 طائرا من نوع عقاب "البونيلي"، وهو صنف يعيش بالمغرب وأيضا بإسبانيا وفرنسا، والعقاب الملكي الذي يعيش بالأطلس الصغير، وطائر الباز وعقبان أخرى، وهي كلها من أصناف نادرة، إضافة إلى العثور على طيور صغيرة الحجم، مرجحا أن تكون أغلب هذه الطيور النافقة بالمنطقة من النوع المحلي وأنواع من بلدان أخرى هاجرت إلى المنطقة ولم يتم رصدها لغياب جهاز تعقب يحدد مساراتها. ومع بروز ظاهرة الصعق الكهربائي، وهو مشكل سائد بالمغرب كما في الخارج، أضحى المهتمون بالشأن البيئي وحماة الحياة البرية جد قلقين على اندثار ما تبقى من طيور نادر، ولذلك يبقى التعريف والتحسيس بالظاهرة أمرا ضروريا، يقول إيريزي، عبر انخراط الجميع من سلطات وقطاعات معنية بالبيئة ومجتمع مدني وساكنة محلية. وأضاف أن جمعيته قامت بمراسلة السلطات المعنية بإقليم كلميم من أجل التحسيس بخطورة الصعق الكهربائي كظاهرة جديدة تتطلب معالجتها وقتا وتضافرا للجهود، وفق حلول نموذجية ومبتكرة، واشتغالا ميدانيا وإعداد برامج علمية، وتوفير الموارد والتكوين، وتبادل الخبرات والتجارب في المجال. كما أن إدراج موضوع الصعق الكهربائي للطيور ضمن برامج حماية البيئة والمحافظة على الجوارح المغربية يبقى أمرا ضروريا، إضافة إلى عقد شراكات مع مؤسسات جامعية والعمل على تشوير الأماكن المعروفة بتجمع الطيور التي تلعب دورا حيويا في خلق توازن في الطبيعة ونظافتها، فضلا عن تحديد النقط السوداء التي تنتشر فيها الاعمدة الكهربائية، ومواكبة الإعلام للموضوع من أجل تسليط الضوء على الظاهرة. ومن بين التدابير المتخذة في هذا المجال مبادرة مصالح قطاع توزيع الكهرباء بكلميم، نهاية السنة الماضية، لإحداث عوازل بالخيوط المثبتة على الأعمدة الكهربائية بالمحيط الذي اعتادت الطيور التجمع فيه، سواء بمنطقة بوسافن أو مناطق أخرى، وهي عوازل تمنع، بحسب أمخروك، مرور أي تماس كهربائي قد يصيب الطيور لحظة وقوفها على هذه الأعمدة أو أثناء استعدادها للتحليق. كما أن هذه العوازل المحدثة بالخيوط الكهربائية تساهم، أيضا، في تضييق حجم المساحة التي اعتادت الطيور الوقوف فيها، حماية لها من الصعق، وهذا الأمر ساهم أيضا في التقليص من حالات انقطاع التيار الكهربائي بكلميم الناجم عن تعرض طائر ما لصعقة كهربائية، فالإقليم ذاته، يضيف أمخروك، شهد منذ يناير الماضي، وإلى الآن، أربع انقطاعات للتيار الكهربائي بسبب هذا الصعق. *و.م.ع