صدر حديثا للكاتب المغربي السعيد الدريوش، ابن مدينة وزان، مؤلف اختار له عنوان "يوميات معلم في الأرياف"، يعد أول إصدار للأستاذ المشتغل بثانوية ابن زهر بالمديرية الإقليمية لوزارة التربية الوطنية والتكوين المهني بوزان، والباحث بسلك الدكتوراه، بعد فترة اشتغال بجبال المغرب العميق، واظب خلالها على كتابة مجموعة من المقالات بعدد من الجرائد عبر العالم، ووهب حياته للعمل الأدبي الذي ينخرط ضمنه منذ عِقد كامل بغرض نشر الوعي وتلاقح الثقافات. معلم بالفرعيانتامو.. "من سوء حظي أني كنت آخر من التحق بالفرعية الجديدة، آخر المنتقلين إلى معتقل فرعيانتامو. وبناء على هذا العرف الفاسد فإني سأدرس أكثر الأقسام اكتظاظا، وفي حجرة مهترئة قد تهوي مع أولى القطرات، وبزمن مدرسي أقسى وأمر. أما السكن الوظيفي فهو أقرب إلى الإسطبل أو الزريبة، حيطانه متآكلة يتطاير الجير من جنباتها مع كل شهيق وزفير، والحفر التي بداخله كافية لحماية الجيش المغربي بأسره من القصف؛ أما المرحاض وما أدراك ما هو فلا حول ولا قوة إلا بالله.. على العموم هو صالح للخيل والبغال والحمر الأهلية، إلا المعلم الذي كاد أن يكون "عتروسا" في ظل الأوضاع المأساوية القاتلة"، يقول الكاتب ضمن إحدى يومياته. ويفيد كتاب السعيد الدريوش كل متصفح بأن دفتيه تضمّان حكايات ويوميات حقيقية، على مدى 112 صفحة، وقعت لمعلم بإحدى الفرعيات بالمديرية الإقليمية لوزارة التربية الوطنية والتكوين المهني بوزان؛ من غير إشارة إلى اسمها، وبقصر مكان الحكي على فضاء التدريس، ذاك العالم الجميل المفتقد للحواجز والحدود، والذي يتساوى فيه الإنس والجان والدواب، وكذا فضاء السكن الوظيفي والدوار وساحة المدرسة.. وورد على غلاف الكتاب: "يتخطى الأمر العمد إلى نسج قصص، إذ يرحل بنا المؤلف صوب الفرعيانتامو لمواكبة الأحداث التي عاشها المعلم بجوار سكان وتلاميذ منطقة جبالة، وجعلت منه المعلم الملتزم الحالي..هذا العمل يستحضر رحلة رجل تعليم بالسلك الابتدائي اكتشف قسوة عيشة نساء البوادي الموحشة، وعرف بحق حياة القرية..هذا الكتاب إلى الذين أفنوا زهرة شبابهم في أعالي الجبال، يغرسون قيما، وينيرون دروبا، ويشيدون صرحا نبيلا.. إلى نساء ورجال التعليم بالعالم القروي". يصنف يوميات معلم في الأرياف ضمن كتب السيرة الذاتية، وهو مكون من 29 حلقة متفرقة زمنيا وملتئمة مكانيا. وحاول الدريوش من خلال مؤلفه أن يبصم على تشخيص واقع التعليم، مع وضع الأصبع على جرح منظومتها، خاصة واقع الفرعيات والمدارس بجبال المغرب العميق. ويتطرق المؤلف ذاته إلى غياب الضمير لدى المسؤولين الذين يزورون مقر عمله دون أن يقدروا قسوة الحياة ومعاناته في القيام بعمله، رافضا التزام الصمت إزاء ظواهر وسياسات تسرق رغيف الأطفال وتستهتر بمستقبلهم الدراسي. وحرص الكاتب على انتقاء كلماته في كل حلقة من الحلقات ال 29 المكونة للكتاب، عاملا على لفت الانتباه إلى معاناة سكان البادية وواقع المدارس والسكن الوظيفي بفرعيات "أجمل بلد في العالم"، ليندرج هذا الكتاب في نسق النقد البناء عبر دحض سلوكيات وظواهر تؤثر سلبا على أداء "الرسل". وتحكي "اليوميات" واقع التعليم المزري والمأساوي في العالم القروي بطريقة كوميدية ساخرة، من خلال مخاطبة شتى أنواع القراء: القارئ الناقد والقارئ المتذوق ثم القارئ المستهلك، وكذا المسؤولين، محاولا الجمع بين التخييل والواقعية، بين الإمتاع والإقناع، بين التقريري المباشر والتصويري الإيحائي. وأشار الدريوش إلى أن المؤلف الأدبي يشكل نموذجا حيا لتداخل الأجناس الأدبية (القصة والسيرة الذاتية) وزاد: "عمدت فيه إلى جعل كل حدث مستقل عن آخر بعنوان مستقل، في سياق عام فرضته طبيعة التلقي الآني"، معتبرا إياه من نتاج الأدب الإلكتروني، على اعتبار أن نصوصه الأولى نشرت إلكترونيا، ثم بعد ذلك جاءت فكرة تحويله إلى كتاب ورقي بنصوص جديدة لم تنشر بعد. ابن الدّار.. يعتبر كتاب السعيد الدريوش من قلائل المنتجات الورقية التي رصدت اختلالات المنظومة التعليمية.. "آثرت أن أهدي ثمرة هذا الكتاب إلى هؤلاء الرسل، وهو بكل صدق أقل ما يمكن أن يقدم لهن ولهم"، يقول الكاتب الشاب، عملا بأن "أهل مكة أدرى بشعابها".. ومبادرة الأستاذ المشتغل حاليا بثانوية ابن زهر بمدينة وزان بعد فترة اشتغال بفرعيانتامو أماطت اللثام عن مجموعة من الاختلالات المؤثرة التي تعيشها المدرسة العمومية ب"أجمل بلد في العالم"، وتؤرخ لمرحلة مهمة من مسار مهني، وهي مرحلة ما بعد التعيين في العالم القروي، وهو المستشف من خلال العديد من الكلمات المبثوثة في ثنايا "اليوميات". وعن اختياره كتابة "اليوميات" اعتبر الدريوش، في تصريح لهسبريس، العمل تجسيدا لتدوين مرحلة عمرية دقيقة لها أثر بطبيعة الحال، على اعتبار أن الماضي يظل محفورا في الذاكرة بحلوه ومره، وزاد: "كما أنني آثرت أن أقتسم تجربة التدريس بالعالم القروي مع الجميع، كي أبين صعوبة الوضع والواقع المأساوي الذي يعيشه رجال التعليم وكذلك فلذات أكبادنا". وشدد الكاتب ضمن التصريح ذاته على كون المؤلف يختزل تجربة سنوات من العمل في الجبال الشاهقة أراد أن يتقاسمها مع القارئ، ويبرز من خلالها مدى معاناة نساء ورجال التعليم المرابطين في جبال المغرب من أجل رسالة نبيلة، بل ملائكية، ألا وهي تدريس أبناء المغرب العميق.