كثر النقاش وتخوفات غير الأتراك، من مشروع تعديلات الدستور التركي، أكثر من الأتراك أنفسهم، الذين صوتت أغلبيتهم لصالح التعديل ؛ أغلبية كثلة ناخبة مثقفة ومتعلمة وتعيش حياة سياسية حقيقية بثقافة أوروبية متحررة؛ وتناسلت التحليلات تنبئ بدولة اردوغانية دكتاتورية. والحقيقة أنني أرى في خطوة التعديلات مرحلة وسط في بناء الديمقراطية الحديثة بتركيا،تستجيب لأهم معايير فلسفة الاختيار الجماهيري الواعي، بعيدا عن آليات الانقياد سواء الديني أو السياسي، وذلك من خلال نقط منها: أولا: أن تركيا على مدار قرابة 100 سنة كانت تعيش تحت وطأة تحكم مؤسسة العسكر بفلسفة أتاتورك، خارج الوصاية والرقابة السياسية، فالعسكر كان هو تركيا وحكام تركيا هم العسكر، وكان رئيس الدولة ضعيف أمام المؤسسة العسكرية القادرة على بسط هيمنتها على الحكومة صاحبة الصلاحيات، بمقتضى الدستور وتواثب الدولة الاتاتوركية. أقول، بان اردغان نجح بقوة في كبح طغيان الجيش والمدرسة السياسية الموالية له سواء العلمانية أو الإسلامية، وهو أهم خطوة كانت إلى وقت قريب عصية على الساسة الأتراك، بل ويصعب حتى التكهن أو التفكير في خوض غمارها، ورجع الجيش بقوة التلاحم الشعبي إلى ثكناته ليمارس مهمته الطبيعية في حماية حوزة الوطن من الاعتداء الخارجي ومن الانقلاب الداخلي على الشرعية. ثانيا: طبيعي جدا في استكمال بناء دولة متحررة من سلطة الجيش ومداخل تحكمه أن يعقب ذلك تعديل للوثيقة الدستورية لقطع كل سبل العودة لما قبل الرجوع للثكنات واستقالة الجيش سياسيا، فكانت المقترحات التعديلية، تشير صراحة إلى تبعية الجيش لرئيس الدولة باعتباره القائد العام، كما الحال في اغلب النظم في العالم... وهنا يكمن تخلص المؤسسة السياسية نهائيا من حرية الحياة العسكرية التي شكلت موروثا من زمن تشكيل تركيا بداية القرن الماضي. ثالثا: تضمن مقترح التعديلات قيم الشفافية وتشبيب الحياة السياسية وربط المسؤولية بالمحاسبة؛ ذلك انه سيتم تخفيض سن الترشيح للانتخابات التشريعية إلى 18 سنة،وهو دلالة على الرغبة في إعادة إنتاج نخب سياسية شابة قد تعوض بسرعة نخب شاخت في اعتبار ثوابت وهمية لم تستطع أن تقوم معها لتركيا عقودا من الزمن قائمة، علما أن أغلب ديمقراطيات العالم تتجه جديا نحو تشبيب الحياة السياسية، وبناء وتأمين مستقبلها عبر طاقات شابة قادرة على التدبير الحقيقي للشأن الداخلي للدولة وتسيير موارده وطاقاته وخيراته، دونما الحاجة لاستنفاذ طاقاتها في البحث عن شركاء الخارج من أجل تبوء مكانة بالداخل، كما هو حال أغلب البلاد العربية الإسلامية، وان الانتخابات التشريعية والرئاسية تجرى مرة واحدة وينصب الرئيس باعتبار الأغلبية، ويمارس صلاحياته تحت رقابة ومساءلة ومتابعة السلطة التشريعية باعتباره سلطة تنفيذية حقيقية، تتحمل كامل المسؤولية بشكل شخصي، وليس كأغلب أنظمتنا العربية، حيث يكون للرئيس كومبارسات سياسيين يقومون بمهام بالنيابة ليحاسبوا ويظل رئيس الدولة مقدسا لا يخطئ، ليستمر خارج دائرة المحاسبة. رابعا: وتضمنت المقترحات، منح رئيس الدولة / رئيس السلطة التنفيذية ؛ وككل الديمقراطيات في العالم والنظم؛ حق سن مراسيم بقوة تنفيذية، وربطها بشرط عدم المساس بالقانون، وهي عادة ما تقرر فيما بين دورات المجالس التشريعية، وتكون غالبا تنظيمية أو مالية تفرضها حالات الاستعجال لاستمرار المرفق العام للدولة. الجميل في المقترح، انه بالرغم من الرقابة القضائية على المراسيم الرئاسية، فقد اقر المقترح آلية الإلغاء الفوري للمرسوم مباشرة بعد تنظيم مجال النفاذ بقانون صادر عن السلطة التشريعية، مما يدل على رغبة أكيدة في تحمل الحكومة عبء استمرار المرافق الحيوية للدولة دون معيقات فلسفة الاستقلال التام للسلط ، التي أصبحت متجاوزة دوليا أمام طغيان فلسفة ومبدأ التداخل. خامسا: لئن كانت تركيا قد رضخت لحكم العسكر قرابة 100 سنة، فإنه يتصور أن يسير حزب أو تكتل دواليب الحكم لسنوات، بقدر تحقيقه الرخاء للناخب التركي، فجاء مقترح التعديل يحدد أمد تولي منصب رئيس الدولة في ولايتين كأقصى حد، وهو شيء جد إيجابي، ليس فقط في مفهوم التداول على السلطة بين الأحزاب السياسية، وإنما أيضا في خلق مفهوم سياسي جديد وهو التداول على المناصب في نفس الحزب أو التكتل الحاكم، وهو أمر لا يمكن معه الركون إلى تفسيره بالرغبة في الاحتكار الشخصي للسلطة، علما أن الاحتكار الحزبي لهذه الأخيرة بناء على صناديق اقتراع شفافة ومؤسسات ذات مصداقية تحمي الشرعية، هو غاية سياسية مشروعة وطموح يبعث على إرادة التنمية الحقيقة والتجديد المتواصل في طريق بناء مجتمع الرخاء. سادسا: ولبيان عدم طغيان هاجس التحكم أيضا، فقد جعلت ملامح الدستور مرنا من حيث مدخل التعديل وذلك بتحديد نسبة الأغلبية البرلمانية اللازمة في 60%، وهو شيء يجعل الدستور التركي واقعيا ومستقبليا، وغير جامد يفرغ المستقبل من إرادة الفعل والتطور نحو الأحسن، طالما كانت الوثيقة التأسيسية للدولة جد واضعة ومعلنة لمبادئ الدولة بشكل غير قابل للتراجع. سابعا: اعتقد جازما بان مسار التغيير الأنيق بتركيا، من مرحلة تحييد العسكر إلى مرحلة تحرير الوثيقة الدستورية التي ولدت يوم ولدت ممنوحة بقوة سلاح العسكر الحاكم سنة 1923، ستخطو خطوة مهمة جدا نحو خطوة ثالثة أكثر عمقا في بناء مقومات جديدة لتركيا قوية منسجمة وديمقراطية بانية في المجتمع الدولي، في تاريخ واضح في إستراتيجية حزب العدالة والتنمية التركي، وهي سنة 2023، وليست فكرة اردوغان وحده. إن المتتبع والخبير في نظريات التغيير سيقف لا محالة بان المجتمع التركي اليوم استعاد إرادته وحريته، وان انتخابات 2019 ستكون حاسمة في استرجاعه هويته الكاملة، التي شوشت عليا الآلة القمعية وانحرفت مع اتاتورك 1923. لهذه الأسباب: أعتقد بان اغلب القراءات المتوجسة أو المنتقدة لخطوة التعديل الدستوري بتركيا، إما كونها تصريحات سياسية يغذيها التنافس الاديولوجي والفكري وخلفيات المعارضة والأنانية السياسية، أو أنها لم تستوعب بعد أن الشعب التركي ليس بالضرورة واحدا من الشعوب العربية الإسلامية التي ليس لتصويتها اعتبار ولا لاغلبياتها حكم، ولا لمؤسساتها صلاحيات، باستثناء الصلاحيات المطلقة للحاكم... لذلك يتوجسون من اردوغان كما يتصورونه حاكما عربيا. واعتقد جازما، أن تركيا تبني ديمقراطيتها، بشكل يبعث حقيقة على التتبع الدقيق والدراسة الموضوعية. #تركيا_الديمقراطية. *محام بالدارالبيضاء.مدرب حقوق الإنسان.