ظهور لافت يسجّله بنوا آمون، مرشّح الإشتراكيين للإنتخابات الرئاسية الفرنسية المقبلة، وهو السياسي الذي ظل لسنوات بعيدا عن الأضواء، مفضّلا العمل في الظل، قبل أن يكسر هالة الصمت المحدقة به ويقفز فجأة إلى الواجهة. لطالما لقّبه "أفيال" الحزب الإشتراكي الفرنسي ب "بن الصغير" أو "بنوا الصغير"، في إشارة إلى ملامحه الطفولية على الدوام، لكن ذلك "الصغير" قلب جميع التوقعات حين فاز، قبل أشهر، بترشيح الإشتراكيين لخوض السباق الرئاسي المقبل، في وقت كانت فيه معظم استطلاعات الرأي تشير إلى تفوّق رئيس الوزراء السابق، مانويل فالس. صدمة "المناخ والألوان" ولد آمون في 26 يونيو1967 في حي سانت رينان بإقليم فيتيستير على ضفاف نهر إيفيلين وسط فرنسا، لأب كان يعمل مهندساً في ترسانة «دي سي إن» للإنشاءات البحرية، ولأم عملت سكرتيرة بمكتب لإحدى الشركات الفرنسية. قضى 4 سنوات من طفولته في العاصمة السنغالية داكار حيث كان والده يعمل، ودرس هناك من الصف الأول حتى الخامس من المرحلة الإبتدائية، مع طلبة من مختلف العرقيات والإنتماءات، ما شحن ذاكرته الصغيرة ب "ذكريات استثنائية لمحيط متعدد الثقافات"، على حدّ تعبيره في إحدى تصريحاته الإعلامية. وبعودته، مطلع الثمانينات، إلى مدينة بريست الفرنسية، لم تكن الصدمة بالنسبة له مناخية فحسب، حيث انتقل من بلد إفريقي يتّسم بمناخ قاحل إلى آخر أوروبي فائق البرودة والرطوبة، وإنما بدا له أن ما "يثير القلق" بالفعل هو أن المشهد العام في بلده الأصلي كان "أبيضا وأشقرا ومتشابها أكثر من اللازم"، كما يقول. انخرط مبكّرا، وتحديدا في ال 19 من عمره، في عالم السياسة بمشاركته، العام 1986، في مظاهرات طلابية ضد قانون وزير التعليم الأسبق، آلان ديفاكيه، قبل أن ينضم إلى الحزب الاشتراكي بقسم "بريست" التابع للإقليم نفسه، ويصبح عضوا في منتدى الاشتراكيين بالمدينة برئاسة فالس. أبدى الشاب انجذابا خاصا للتيار الروكاري، نسبة إلى رئيس الوزراء الأسبق، ميشيل روكار (1988- 1991)، والقائم على مبدأ التجديد الثقافي لليسار، ثم توجّه إلى جامعة "بريتاني الغربية" حيث حصل على ليسانس التاريخ، ما أهّله للعمل كمنظم في الاتحاد القومي لطلبة فرنسا، قبل أن يترأس منظمة حركة الشباب الاشتراكي. "مشاكس" في الظل المتأمّل في أمون يخلص حتما إلى أن تلك الملامح الهادئة والإبتسامة التي لا تفارقه، علاوة على تقاسيمه التي تمنح انطباعا بأنها خارج تأثير الزمن، لا يمكن أن تستبطن شخصية عنيدة ومتمرّدة ومستميتة في سبيل تحقيق أهدافها. حماسه الذي لا ينضب مكّنه، في بداياته، من الحصول على منصب مساعد برلماني للنائب الروكاري عن إقليم جيروند، بيير برانا، براتب شهري قدره حينذاك ألف فرنك فرنسي. راتب "مغري" بالنسبة لذلك الطالب "المشاكس" كما تصفه بعض وسائل الإعلام الفرنسية، والذي يتقاسم شقته مع 4 من رفاقه الإشتراكيين، ويعود إليها كل مساء محمّلا بأمل لم يفارقه مذ خبر العمل السياسي، وهو ترشح ميشيل روكار لرئاسية 1995. ومع أن آمون لم يكن معروفا حينذاك، إلا أن قيادته لحركة الشباب الإشتراكي الخاضعة لإشراف "الحزب الإشتراكي"، منحته الفرصة لإعادة اكتشاف نفسه سياسيا، كما شحنته بثقة مهّدت له الطريق لطلب الإنفصال عن الحزب، وهو ما رفضه الأخير قبل أن يعلن "وفاة" الحركة وإخماد "التمرّد الناعم" لزعيمها وأعضائها. وبمرور الزمن، راكم الرجل خبرة سياسية أهلته للتدرج في مناصب سياسية كبيرة، حيث بدأ عمله كنائب عن الحزب الاشتراكي في البرلمان الأوروبي، ثم المتحدث الرسمي للحزب في الفترة ما بين عامي 2008 إلى 2012. وفي العام الأخير، انتخب آمون نائبا عن إقليم "إيفيلين" مسقط رأسه، قبل أن يختاره الرئيس فرانسوا أولاند، منذ صعوده إلى الحكم، ليعينه وزيرا مكلفا بالاقتصاد الاجتماعي والتضامن، ثم وزيرا للتعليم، وهو المنصب الذي استمر فيه من أبريل نيسان 2014 حتى أغسطس آب من العام نفسه، قبل أن يستقيل احتجاجا على تخلّي أولاند عن سياسة اليسار التي يعتبر أمون نفسه مدافعا شرسا عنها. برنامج "ثوري" في الليلة نفسها التي أعلن فيها، في يناير الماضي، فوز آمون بالإنتخابات التمهيدية لليسار الفرنسي، اهتز موقع التواصل "تويتر" على وقع هاشتاغ "بلال آمون"، الذي أطلقه اليمين المتطرف في البلاد استنكارا لفوز هذا الاشتراكي الحامل لمواقف ايجابية حيال المهاجرين والمسلمين. رد آمون جاء، في ال 26 من الشهر نفسه، بسيطا لكنه محمّلا بشحنة مضادة للإسلاموفوبيا التي يروج لها التيار المتطرف بقيادة زعيمته مارين لوبان: "بلال بلال بلال؛ فخور جدا بأن يسمّيني اليمين المتطرّف بلال؛ بلال اسم جميل للغاية، أفخر بأن أحمل اسم بلال كما يشرّفني اسمي إيليا وديفيد وبنوا"، في إشارة منه إلى احترام الديانات الثلاث. أما برنامجه، فوصفته بعض وسائل الإعلام الفرنسية ذات التوجّه الداعم لمرشح الاشتراكيين، بأنه "ثوري"، ويشرّع لفكرة بديل سياسي واجتماعي فعال لفرنسا. غير أن أكثر ما تميز به المرشح هو اقتراحه الذي تقدم به خلال الانتخابات التمهيدية، المعروف باسم «الدخل العام غير المشروط»، ويشمل منح جميع الفرنسيين دخلا أساسيا قدره 600 يورو، لمواجهة الثورة الرقمية التي يرى أنها تساهم بشكل متصاعد في تقليص فرص التوظيف. آمون اقترح أيضا إلغاء إصلاح قانون العمل المعروف بقانون الخمري نسبة لوزيرة الشغل الحالية التي تقدمت به، كما وعد أيضا برفع الحد الأدنى للأجور بنسبة 10 %، وبتقنين استهلاك الحشيش إضافة إلى المرور إلى الجمهورية السادسة. لكن، ورغم "ثورية" برنامجه الإنتخابي، ومواقفه الحازمة المتمرّدة على سياسة السلطة التنفيذية في بلاده، خصوصا بين 2004 و2009، وهي الفترة التي كان خلالها نائبا بالبرلمان الأوروبي، إلا أن آمون يكابد اليوم من أجل البقاء ضمن المرشحين الخمس الأوائل الأوفر حظا بالفوز بالدور الأول للإقتراع المقرر في 23 أبريل المقبل. ووفق استطلاع أجرته مؤسسة "بي في آي" للبحوث والاستشارات (محلية)، ونشرت نتائجه أمس الأحد، لم تتجاوز نوايا التصويت لمرشح الاشتراكيين ال 8.5 %، ما يمنحه المرتبة الخامسة خلف مرشح اليمين فرانسوا فيون، ومرشح اليسار الراديكالي، جان لوك ميلونشون (19 % لكل منهما). في المقابل، يتصدر المرشح المستقل، إيمانويل ماكرون، وزعيمة اليمين المتطرف، مارين لوبان، استطلاعات الرأي ب 23 % من نوايا التصويت لكل منهما. *وكالة أنباء الأناضول