"فقد سبق أن اتصلت بي بعض الأحزاب واقترحت علي أن أكون الثاني أو الثالث في اللائحة التي لا أعرف عنها شيئا، وقالت لي بأنك وجه معروف " فخر الدين الرجحي (الأحداث المغربية). وللأسف الشديد هذه هي الحقيقة ، حيث تزرع الأحزاب سماسرتها داخل المجتمع للتنقيب عن "الوجوه المعروفة" وليس على المواطن المثقف الذي يعمل في صمت ، لكن بجد . هدف الأحزاب من بحثها على الوجوه هو ضمان فوز المرشح للانتخابات وضمان أكبر عدد من المقاعد النيابية.وسواء أكان صاحب الوجه المعروف أميا أو شبه متعلم فهذه أمور ثانوية ، والمطلوب منه فقط قدرته على الإمضاء ولو بحروف مشوهة ، لأن الذي سيدرس المشاريع ويصادق عليها في البرلمان أو الجماعة ،حتما سيكون غيره . صاحب الوجه المعروف مطالب فقط بالحضور وتسخين الطرح عند كل اجتماع بنكتة جديدة أو بالتصفيق أو القهقهة. أليس بالنكتة وتقرقيب الناب أصبح العديد من الأميين من المشاهير ، كما أصبحوا رؤساء جماعات حضرية وقروية ، ثم دفعهم صيت الشهرة إلى محاولة تعلم القراءة والكتابة من جديد ، ومحاولة اجتياز امتحان الشهادة الابتدائية؟. كلنا كنا شهودا غير معلنين على كارثة إهدار زمن الحداثة والتحديث ، وسواء أشاركنا أو لم نشارك في اختيار من كانوا يمثلوننا تحت قبتي البرلمان ، وفي الحكومات المتوالية . وعيبنا أننا -كمغاربة – ومنذ الاستقلال إلى اليوم ،لم نختر طريقة عيشنا أحرارا ، ولا طريقة حياتنا أخيارا، ولم نخطط برامجنا الإصلاحية ولا الإنمائية لوحدنا وبكل حرية ، وإنما رسمنا ماضينا وحاضرنا ومستقبلا على معطيات وتجارب ونظريات غيرنا من الأمم والمنظمات والصناديق . فحوّلنا تربية الإنسان ،من مغربي أصيل وفحل ابن فحل إلى كائن تتلاعب به المتاهات، لا هو بالشرقي ولا هو بالغربي ، وأغفلنا التربية على أساس المبادئ واتبعنا التربية ‘لى أساس قوالب مستوردة . فأصبحنا كالغراب الذي لم يتعلم مشية الحمامة ولم يحافظ على مشيته. وأحيانا نكره واقعنا رغم جاذبيته و نحس "بنوستالجيا " إلى الماضي الحافل بالحب والتسامح " والنية " والغفلة والقناعة والتواضع والتسامح والعطاء ، لأن حاضرنا – أمامه مستقبلنا الذي لا يبشر بخير فيما يخص الحرارة الإنسانية البريئة- رغم التقدم التكنولوجي والمال والإغراءات يسرق منا الطمأنينة على أنفسنا وعلى أطفالنا من كثرة انحرافاته وقساوته . دون شك نحن فرحون بمستوى أطفالنا الفكري والانفعالي (امجبدين) ولكننا مصدومون من استسلامنا أمامهم دون أن ندرك لماذا ؟ وكيف؟ فمن الصعب جدا أن يتحدث المرء عن صراع أجيال - بيننا وبينهم- كما كان بيننا وبين آبائنا، حول كيف نلبس وكيف نتكلم وكيف نناقش ،وكيف نتعامل مع الأكبر والأصغر منا، وكيف نحب، وكيف نتزوج، وكيف نربي فكان آباؤنا بحق المحك وأهل الحق الذي علينا اتباعه. فحل محله صراع مبني على المصالح والتوازنات بيننا وبين أطفالنا ،غالبا ما يفضي إلى توافقات (بكبد هش) كي نخف عنهم ما يخضعون له من ضغط نفسي بسبب ضبابية مستقبلهم ، إذ كل شيء ممكن ، ولا شيء مضمون بالنسبة إليهم . هذا التناقض هو ما يخلق بداخل أبنائنا صراعا من نوع آخر ، وهو ما يجعلنا نتعاطف معهم ونحول صراع الأجيال بيننا وبينهم إلى " تكامل" وفي أسوأ الظروف إلى "انسحاب"، حيث نرفع الراية البيضاء ، ونحن نردد " ازمانكم أولدي الله يشوف من حالكم ". فمنذ عشرين فبراير ، يخوض شباب مظاهرات من أجل الإصلاح كل يوم أحد تقريبا ، ورغم ذلك لم نلاحظ أي تدخل للآباء للضغط على أبنائهم المتظاهرين للكف عن التظاهر ومعاكسة السلطات، وكما كان ينصحنا آباؤنا ، لأن " صراع الأجيال " لم يعد ممكنا ،وحيث كان اللآباء يحاولون أن تكون لهم الكلمة الفصل وأملهم أن ينجح أبناؤهم وألا يسقطوا في مشاكل خاصة مع السلطات . أما اليوم وكأننا دخلنا العولمة من بابها الواسع فتوحدت ثقافتنا مع ثقافة العالم ، ولم يعد هناك شيء نخاف منه أو عليه .فنشأ بيننا وبين أبنائنا ما يشبه التكامل بل" المجاراة العكسية" ، فأصبحت الأم تجاري ابنتها وابنها والأب يجاري الجميع . حدث هذا والمغرب لم يصادق بعد على إمكانية مقاضاة الابن لأبيه أو لأمه في حالة تعرضه للعنف . حتما سيكون حالنا وقتها أقبح من حالنا اليوم ، حينئذ لن نحس بالنوستالجيا وإنما " بالغربة" العاطفية. أما فيما يخص غربة الذات فهي أولى من التهميش وصدق من قال ( اقبر غريب ولا شكارة خاوية)، هذا والغرباء في أوطانهم بالملايين يحملون مشاكلهم وعذابهم يوميا على أكتافهم وفي صمت ، بعدما يئسوا من"توبة" من سرقوا حقهم وعرقهم باسم أكثر من مصطلح .فهل يمكن أن يتحقق التغيير الذي ينادي به الشباب بعدما وقع الفأس في الرأس ؟ وبعدما أصبحت الرشوة في كل الإدارات عادة حميدة ، وسرقة المال العام شجاعة ونبل ، وشراء ضمائر الناخبين شطارة وتقرب ؟ من أين علينا أن نشرع في التغيير ؟ أتغيير الحكومة ونواب الأمة يكفي ، أم علينا تغيير الجميع من أول القائمة إلى المقدمين ،وكي يستقيم أمرنا مرة واحدة؟ أم نكتفي بمصادرة حق كل من تلاعب بوظيفته وأكل حق الآخرين ؟فمن احتك منا يوما ما بإدارة ما ، يعلم حق العلم بعض أسرارها وأسرار العديدين (من الشعب) الذين حققوا أغراضهم بطرق غير أخلاقية فساهموا في تفشي الفساد باحتيالهم على القوانين وتقديم إغراءات ورشاوى للغير . وليس خاف على الجميع أن الفساد كالتيار الكهربائي لن ينجو من صعقاته من موظفي الدولة ومستخدمي القطاع الخاص إلا من رحم ربي . لكن لما تصبح محاربة الفساد رغبة جماهيرية مبنية على أسس ثقافية يسهل تحقيقها ، ولأن الكل متفق وعازم ألا يُفْسِد بعد اليوم وقتها سيتحقق التغيير والإصلاح بسرعة البرق. إنما عندما ينادي الشباب بإسقاط الفساد والاستبداد، أَفْهَمُ بأنه على السلطة أن تحارب الفساد قبل أن يحاربه غيرها بطريقته الخاصة ، لأن لها الآليات والأدوات لتخوض تلك الحرب الضروس على موظفيها لإجبارهم على تطليق كل أنواع الفساد طلاقا مفتوحا، فهل فكرت في ذلك؟. فالتغيير لن يكون تغييرا إلا إذا أحس به كل مواطن في حياته وفي تحركاته وسكناته كلما دخل أية إدارة مغربية ، فمن تم تبدأ كرامة الإنسان المغربي. وكم هو جميل أن يبارك العالم الدستور الجديد فذلك يثلج الصدور ، لكن الأجمل أن تواصل السلطة مسلسل الإصلاح بإرسال إشارات قوية من خلال العفو على كل من لم تثبت إدانته من السجناء ، ومن خلال ضبط المال العام ، وتقديم الفاسدين الأشداء للعدالة ليقول فيهم القضاء كلمته علانية ، ومن خلال الضرب على أيدي المرتشين والمستغلين النفوذ ، وبفتح سوق العمل أمام كل المؤهلين أصحاب الكفاءة والتعليم الجيد وبالتفكير في إعادة توزيع جانب من أرباح المؤسسات المالية والاقتصادية والصناعية على الفقراء والمهمشين خاصة من أجل اقتناء سكن . و ما يشعر به المواطن اليوم، أنه هو وأبناؤه في قارب واحد ، معرضون لكل أشكال التفقير خارج دولة الحق والقانون التي لن تحقق إلا بسواعد وعقول وإرادة مغربية أصيلة واقعية ومنصفة ، لذلك يلاحظ هذا التلاحم والتزاحم بين الآباء والأبناء في المظاهرات والاحتجاجات ، بعد طي صفحة صراع الأجيال(بينهما)وفتح صفحة التوافق من أجل تغيير الواقع -الذي هما معا من ضحاياه - على أساس معادلات وقواعد لعبة جديدة الهدف منها : عيش كريم ومواطنة كاملة.