لا أكتب إلا حين تتراقص الخيالات تحت ناظريّ. أتخيل الأفكار صورا تتحرك. وعلى شاشة مخيلتي، أتابع أفكاري وقد استحالت كائنات من لحم ودم تصنع ماجريات حياتها مستقلة عني. حينذاك، أعمد إلى القلم فأصور الظلال المتراقصة على الورق. ذاكرة بصرية، يقول المختصون. لكن الأمر أعمق من ذلك وأدق. الكتابة، بهذا المعنى، حاجة نفسية عميقة، لا أقول لتحقيق "التسامي"، مثلما يعتقد النفسانيون، ولكنها حاجة أصيلة في نفوس المبدعين، لعلها وجدت قبل أن تخط الأيادي الحروف الأولى على الورق. إن الخطوة الأولى على درب الكتابة: أن "يرى" المبدع ما يكتب، أنى كان الجنس الأدبي أو الحقل المعرفي الذي يبدع من داخله. وهذه الخطوة سباقة عن كل ما عداها من قراءات وتمرينات. وهي الباب الذي يدخل منه المبدعون، وإلا فلا مدخل لهم في هذه الصنعة ولن يشموا رائحتها. والحقيقة أنني لم أضع قط تصورا قبليا لأي من مكتوباتي. إنما أتابع الصور المتحركة في خيالي وأنظِمها في نسق (خيالي هو الآخر)، فإذا هي تنسرب بين يدي كلمات متدفقات. ولا تسل، بعد ذلك، عن متعة اكتشاف النص ودهشة اللقاء الأول معه وانسيابية الصور المتولدة فيه وإيقاعية الموسيقى الداخلية بين سطوره، كأنما هي يدي "من" تكتب، لا أنا. وقد كتبت، قبل هذا اليوم: "أكتب متى ما دعتني حاجتي الفطرية إلى الكتابة، غير آبه بتنميق العبارات، ولا بزخرفة الجمل. إنما هي يدي من تكتب، وانتهى السؤال. قل إنه فعل آلي يتحرك تلقائيا. أراقبه من بعيد، فلا أتدخل بالتنقيح ولا بالزيادة أو النقصان. مراهق يرسم السهام تخترق القلوب! بل قل إنها قربة مملوءة كلاما، أثقبها فإذا هي تسيل بالكلمات. هكذا، بلا تعقيد ولا تزويق ولا سعي كاذب إلى الإبهار". غير أن هذا الأسلوب، وإن كان شديد الإغراء، تعتريه مزالق ومحاذير. أولها أن تصبح الكتابة فعلا "مزاجيا". أعني أنه ما لم يكن المزاج رائقا والشهية مفتوحة والخيالات تتراقص، فلن تخط حرفا. وهو عقاب قاس يشبه وضع "الحرمان" لدى المدمنين، بل قد يكون أنكى. ثم إن الكلمات قد تستعصي. والرغبة المشتعلة قد تخمد. وليس متاحا للمرء في كل يوم أن يتوحد مع ذاته وينقب في أعماقه عن الصور والكلمات. وتلك مزالق، وغيرها كثير، تعيق المبدع عن الانتظام في الكتابة، فما بالك بالنشر ومتاعبه. ويرحم الله نجيب محفوظ فقد عانى في بداية حياته الأدبية شيئا كهذا، لكنه عرف كيف يستدعي "نشوة الكتابة" في أوقات يحددها بدقة كل يوم. عرف الرجل – وكيف لا يعرف وهو من هو – كيف ينظم ساعات الكتابة في يومه دون أن يتسلل الروتين إليها ودون أن يفقد القدرة على السفر بعيدا بخياله.. إلى حيث لا أرض ولا سماء !