بضع أسابيع تفصل بين تاريخ صدور كتاب "سؤال العنف بين الائتمانية والحوارية"، واطلاع الرأي العام على تصريحات صادرة عن مسؤول أمني كبير في الدولة، عبارة عن دعوة مفتوحة إلى المفكرين المغاربة لكي يساهموا في الشق النظري/ المعرفي من المواجهة المفتوحة ضد خطاب العنف والتطرف. مؤلف الكتاب هو الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن، وصدر على هامش فعاليات معرض الدارالبيضاء للكتاب والنشر، عن المؤسسة العربية للفكر والإبداع، مقرها بيروت. (جاء العمل في 215 صفحة من الحجم المتوسط، ط 1، 2017)؛ أما صاحب التصريح، فهو عبد الحق الخيام، رئيس المكتب المركزي للأبحاث القضائية، الذي صرّح مؤخراً، في ندوة الجهوية والسياسات الأمنية، بمقر مجلس جهة طنجة – تطوان - الحسيمة، بطنجة، أن المفكرين المغاربة لا زالوا "غائبين عن عمل المجتمع المدني"، قائلاً بالحرف: "نحن نعالج الظاهرة من الناحية الأمنية لكنها ظاهرة تنبني على إيديولوجية، والأيديولوجية يجب مواجهتها من طرف المفكرين، الذين يجب أن يعودوا إلى الرسالة المنوطة بهم، وهي محاربة جميع الأفكار المتطرفة وتزرع الكراهية في نفوس شبابنا"، مطالباً "المفكرين المغاربة بالمساهمة في محاربة جميع أنواع الجرائم وبالدرجة الأولى تلك المتعلق بالإرهاب والتطرف الديني". لو صدر كتاب "سؤال العنف"، بعد تاريخ تصريحات المسؤول الأمني، لكان هيناً اختزال العمل في سياق التفاعل النظري مع مسؤولية المفكر في مواجهة العنف من جهة؛ والتفاعل النظري لنفس القلم مع دعوة المسؤول الأمني، والحال أن العمل صدر قبل تاريخ التصريحات سالفة الذكر، وهذه إشارة لا بد منها بخصوص سحب البساط عن بعض الاعتراضات التي قد تربط بشكل مؤامراتي بين صدور العمل ودعوة المسؤول الأمني، مع أنها دعوة مرجوة، بمعنى حتى لو صدرت عن صناع القرار الأمني، فإنها أشبه باعتراف، ولو متأخر، بدور المفكر في مواجهة هذه الظواهر؛ ولكن في زمن هيمنة "ثقافة المؤامرة"، يُصبح متوقعاً صدور مثل هذه القراءات والتأويلات. على صعيد آخر، نحسب أن مضامين هذا العمل، ليست مفيدة فقط للمجال التداولي المغربي، ولكنها مفيدة لجميع المجالات التداولية المعنية بمواجهة التطرف والعنف والإرهاب، سواء كانت مجالات تداولية إسلامية أو غربية؛ بل نعتقد أن مضامين الباب الأول من العمل، والمُخصّص لتفكيك خطاب العنف، لم نقرأ لها مثيلاً في ما صدر من قراءات تفكيكية للظاهرة، بما في ذلك ما صدر عن العديد من المفكرين والباحثين، بله ما يصدر عن المؤسسات الدينية المحلية والإقليمية، وهي مؤسسات تتحمل مسؤولية أخلاقية وعلمية في انتشار وامتداد خطاب العنف، لاعتبارات عدة، أهمها قصور عملها على أفق فقهي/ معرفي ضيق، وهو الأفق الذي يُغذي من حيث لا يدري خطاب العنف، مادام عاجزاً عن سحب البساط عن مُسلمات ومقدمات هذا الخطاب، في شقها الفقهي [الشرعي] أو الفكري [المعرفي]، وهذه إشارة سيُفصل فيها المؤلف في هذا العمل، ومردها نهل الكتاب من "الفلسفة الائتمانية"، التي تُفرق مثلاً، بين "الفقه الائتماري" و"الفقه الائتماني"، كما اشتغل على التعريف بهذه المفاهيم وغيرها، في ثلاثية "دين الحياء" التي صدرت في مطلع هذه السنة. (أنظر الرابط التالي الذي يستعرض بعض معالم الثلاثية) تفرعت محاور أحدث أعمال فيلسوف الأخلاق الأبرز في مجالنا التداولي، على تمهيد عنوانه: "الفلسفة والعنف" (من ص 9 إلى ص 27)، متبوعاً بقسمين اثنين، وملحق، عبارة عن ضُميمة سبق أن حرّرها مباشرة بعد اعتداءات 16 ماي 2003 سيئة الذكر، تلك التي عصفت بالدارالبيضاء، وتطرقت المقالة لمفهوم الانقتال (من ص 211 إلى ص 215)، وهو المفهوم الذي استخدمه المؤلف عوض الحديث عن مفهوم "الإرهابي" أو "الانتحاري" أو "الاستشهادي". تفكيك مشاريع العنف، أو ما أصبح يُصطلح عليه في الآونة الأخيرة بمشاريع "التطرف العنيف"، هو محور القسم الأول، تحت عنوان: "واقع العنف: كيف نفهمه؟ وكيف نرفعه؟، (من ص 29 إلى ص 164) بينما تضمن القسم الثاني، وقفة نقدية تفاعلية جديدة لطه عبد الرحمن مع أحد رموز الفضاء الفلسفي الغربي، إيمانويل ليفيناس. (من ص 165 إلى ص 210). قبل استعراض بعض الإشارات التي تضمنها هذا العمل، حري بنا التنبيه إلى أن "سؤال العنف"، يُعتبر هو الآخر، تطبيقاً لمضامين "النظرية الائتمانية"، أو قل "الفلسفة الائتمانية" سالفة الذكر، وذلك بعد التطبيقات الأولى التي اطلع عليها قراء أعمال المؤلف في الجزء الثاني والجزء الثالث من ثلاثية "دين الحياء". يجب الإشارة أيضاً إلى أن القسم الأول، جاء في صيغة حوار مطول أجرته المؤسسة التي نشرت العمل مع المؤلف، والإحالة على الأستاذ عبد العزيز القاسم، مدير المؤسسة، وشريكه الأستاذ سليمان الصيخان، وهما فاعلان ثقافيان من المشرق، يُعتبران من أهم مُتتبعي أعمال طه عبد الرحمن في السعودية والخليج العربي، وليس صدفة أن تكون الأعمال الأخيرة لطه عبد الرحمن، منذ كتابه "سؤال المنهج" [2015]، تصدرها "المؤسسة العربية للفكر والإبداع"، ومعها أعمال موازية لباحثين من المنطقة، تروم تقريب مشروع طه عبد الرحمن للمتتبعين. حُبّ التسلط واستبداد الإنسان في مطلع تمهيد الكتاب، يتوقف المؤلف عند أهم أسباب لجوء المسلم إلى العنف، ولخص ذلك في "حُب التسلط الذي استبد بالإنسان" (ص 11)، أو قل "حُب التسيّد"، كما نقرأ في كتابه "روح الدين"، الذي يُعتبر أولى لبنات نظرية "الفلسفة الائتمانية"، ولذلك أشرنا إلى أن "سؤال العنف" يأتي في سياق تطبيقات هذه النظرية، ولذلك أيضاً، يوظف طه عبد الرحمن في هذا الكتاب بعض تطبيقات هذه "الفلسفة الائتمانية"، متوسلاً في ذلك بمفاهيم ومعانٍ ضاربة جذورها في روح الثقافة الإسلامية والتجربة الإنسانية، وقد أطلق على هذا الواقع الذي ينتشر فيه العنف اسم العالم القابيلي (نسبة إلى قابيل ابن آدم عليه السلام)؛ أما العالم المثالي الذي يخلو من العنف، فأطلق عليه اسم "العالم الهابيلي (نسبة إلى هابيل)، وينضبط العالم القابيلي بقانونين اثنين: أحدهما قانون الإحاطة، وصيغته كالتالي: "كل شيء سياسي"، أو قل "كل شيء سيادي"، مادام جوهر السياسة هو طلب السيادة، والمقصود بذلك أنه يمكن أن يتسيد على كل شيء، إن بالفعل أو بالقوة، وقد يكون هذا الشيء إما مادياً أو غير مادي؛ والثاني، قانون الشمول، وصيغته كالتالي: "كل واحد سياسي"، أو قل "كل واحد سيادي"، والمراد أن كل فرد يمكن أن يتسيَّد على غيره، إن بالفعل أو بالقوة، سواء كان هذا الغير قريباً أو بعيداً. (ص 13). وفي مقابل ذلك، ينضبط العالم الهابيلي بالقانونين التاليين: أحدهما قانون عدم الإحاطة ("ليس كل شيء سياسياً"، أو قل "ليس كل شيء سيادياً)؛ والثاني قانون عدم الشمول ("ليس كل واحد سياسياً" أو قل "ليس كل واحد سيادياً") (ص 16). عجز العلماء وعجز صناع القرار افتتح طه اللقاء الحواري بالتوقف عند مفهوم أسال الكثير من مداد الساحة الإقليمية والعالمية، أي مفهوم "الصحوة الإسلامية"، من خلال إشارة تُحيلنا على مصير أعماله السابقة والحالية أيضاً، أي التجاهل أو الحصار، مع أن بعضها تضمن عدة مفاتيح كان تأملها عند من يهمهم الأمر، كفيلاً لتجاوز عدة أعطاب وظواهر نعاينها اليوم. فقد أكد المؤلف أنه حذر من تبعات العنف في مضامين أحد أعماله المرجعية التي تُصنف في خانة "فلسفة الدين"، والحديث عن كتابه الذي يحمل عنوان: "العمل الديني وتجديد العقل" والصادر في غضون سنة 1987، وتضمن العمل وقفات نقدية صريحة مع مفهوم "الصحوة الإسلامية"، بسبب "الأخطاء التي تقع فيها، مستعجلة الوصول إلى السلطة"، وها نحن [يُضيف طه] نرى اليوم أن هذه "الصحوة" شابها من الأخطاء ما أخرج بعض أهلها إلى القسوة وممارسة العنف". (ص 32) في مضامين ثلاثية "دين الحياء"، يُفرق طه عبد الرحمن بين "الفقه الائتماري" والفقه الائتماني"، ومن استوعب الفوارق بين الفقهين، سيستوعب ما قصده "سؤال العنف" عندما اعتبر مؤلفه أن عجز العلماء لا علاقة له بقصور في العلم، أو أن عجز الولاة [صناع القرار] لا علاقة بقصور في القوة، وإنما مرده "تمسك العلماء والولاة في التعامل مع العنيف بالنموذج التقليدي في فهم الدين، فلا يشعر، حينها، بالفرق بينه وبينهم في هذا الفهم، حتى يُبالي بما يقولون ويؤولون، ولا يرى لهم فضلاً عليه، حتى يقتنع بآرائهم ويعمل بنصائحهم". (ص 69). هذا "النموذج التقليدي لفهم الدين" عند طه عبد الرحمن، هو ما اصطلح عليه في معالم النظرية الائتمانية ب"الفقه الائتماري"، أو "النموذج الأمري في صورته التقليدية"، والمراد به النموذج الذي يُقدم الاهتمام بعنصر الأوامر في جانبها القانوني، لا في جانبها الأخلاقي، على سواها من عناصر الإصلاح الكثيرة التي تتضمنها النصوص الدينية، ومن يرغب في التفصيل أكثر في الفوارق بين الفقهين، لا مفر له من التوقف ملياً عند مضامين الجزء الأول من "دين الحياء". وهكذا، لمزيد تفصيل في تبعات الفقه الائتماري الذي تعج به الأدبيات الدينية في مجالنا التداولي الإسلامي، اعتبر طه عبد الرحمن أن الذي حصل بالنسبة للنموذج الأمري، هو أن "التشدد في العمل به استمر لزمن طويل، حتى بعد تغيُّر الأحوال واضمحلال الأسباب التي دعت إلى هذا التشدد في بعض المواطن، بل تواصل الكلام عن هذه الأسباب كما لو كانت لا تزال قائمة بين أظهر الناس، تسويغاً للاستمرار في التشدد الأمري عليهم، فأصبح الفرد يُمارس التشدد الوهمي، حتى تحول الأمر من الاهتمام بتصحيح الأعمال إلى الاهتمام بالأشكال والظواهر والجزئيات التي لا طائل تحتها"، (ص 70) وواضح من المعني في هذا السياق، سواء تعلق الأمر بتيارات أو جماعات أو مؤسسات. ليس هذا وحسب، فقد اتضح أن هذا النموذج الأمري "لم يبق محصوراً في إطار التعامل مع النصوص الشرعية، وإنما أثر في مختلف مناحي الحياة ووجوه التعامل بين الأفراد داخل المجتمع، بدءاً بعلاقة الأخ بأخيه وانتهاءً بعلاقة المسؤول بالمواطن؛ فلا ترى إلا آمراً ومأموراً، حتى في الأعمال العادية، ومعلوم أن العلاقة الأمرية علاقة تسلطية بامتياز، إذ لا تدَع للمأمور خياراً، ولا حواراً"، وبناءً عليه، ف"لا تفيد مواجهة العنيف بهذا النموذج الأمري، لأنه نشأ في أحضانه وتشبع بأمريته؛ ولا شك أن جيله أرسخ قدماً في هذه الأمرية من الأجيال التي سبقته، لأن كل جيل لاحق أضاف إلى أمرية الجيل السابق درجة، بحكم التراكم؛ وهكذا، تكون الحالة الأمرية قد بلغت مع العنيف المعاصر أوْجَها، لذلك يتعين على العلماء، في نُصحهم له، أن يتصدوا لهذه الحالة الأمرية وليس التوسل ولا الظهور بها، لأن التصدي حقيق بأن يُحدث بينهم وبينه التفاوت الضروري الذي يُشعره بأنهم أهل لنصحه، وأنهم يعلمون ما لا يعلم، وأن فقههم يعلو على فقهه". (ص 71). ويُسمي طه عبد الرحمن النموذج الذي يتأسس على هاتين الأولويتين الجديدتين في فهم الدين، من باب تجاوز أُفُق "النموذج التقليدي لفهم الدين"، والحديث عن أولوية القيم الأخلاقية وأولوية معرفة الله، باسم "النموذج الشاهدي"، نسبة إلى مفهوم "الشاهدية"، ومعلوم أن مفهوم "الشاهدية" [الإلهية] من المفاهيم المحورية في "النظرية الائتمانية"، ويُفيد، كما نقرأ في كتابه "شرود ما بعد الدهرانية"، "صفة الشهادة التي يتجلى بها الحق سبحانه وتعالى على عباده، شاهداً لأفعالهم وأقوالهم، وشاهداً عليها بالحسن أو السوء، فالشهادة الإلهية، إذن، تجمع بين العلم والحكم أو المشاهدة الإلهية عبارة عن مراقبة ومحاكمة". ("شرود ما بعد الدهرانية، ص 16، أما التفصيل فيه، فنعاينه في الجزء الأول من "دين الحياء"). الجهل الزائد للمتدين العنيف يؤاخذ طه عبد الرحمن على الفاعل الديني العنيف [أو "الجهادي" بالاصطلاح البحثي المتداول أكثر]، الكثير من "الجهل الزائد"، ويتجلى ذلك في "كونه يعتقد أن قوته التي تورثه المشروعية تقوم في عنفه، وهذا الاعتقال باطل؛ فهناك مداخل للتغيير أو الإصلاح غير مدخل السلطة كالمداخل الاجتماعي يمكن أن يحصِّل، من جهتها، على القوة التي يحتاجها والتي تَمدُّه بالمشروعية". (ص 119)، مؤاخذاً عليه أيضاً، تبني اعتقاد فاسد مفاده أن "التغيير الذي يجب في حقه هو من جنس التغيير الذي يقوم به النظام؛ فالواجب في حق الخارج عن السلطة هو التغيير في العمق وهو الذي يُورثه القوة ويَصرف عنه صبغة العنف؛ والتغيير العميق عبارة عن التغيير الذي يُجدّد أخلاقية الإنسان، بينما التغيير الذي يقوم به النظام هو التغيير في السطح، والتغيير السطحي عبارة عن التغيير الذي يُجدد شرعية المواطنة". (ص 120). تأسيساً على مقتضى "العالم القابيلي" و"العالم الهابيلي"، اعتبر المؤلف أن "العنيف، إذا كان لا يستطيع أن يخرج من عنفه إلى القوة، فذلك يرجع إلى كون الجهد الذي بنى عليه عنفه يضاد الجهد الذي تُبنى عليه القوة الجهادية، إذ أن القوة الجهادية، قوة هابيلية، وهي قوة روحية لها صفات ثلاث هي أضداد الصفات التي تكون للعنف القابيلي الذي هو عنف نفسي يوصف به العنيف؛ إحداها أنها قوة ملكوتية في مقابل القوة المُلكية، من باب أن "القوة الملكوتية هي قدرة الروح على بذل أقصى الجهد في التحرر من سلطان الأشياء؛ أما القوة المُلكية فهي قدرة النفس على بذل أقصى الجهد في التسلط على الأشياء بالوجه المشروع"؛ (ص 122) والثانية أنها قوة ابتلائية في مقابل القوة الإهلاكية، من باب أن "القوة الابتلائية هي قدرة الروح على بذل أقصى الجهد في الصبر على الأذى، أما القوة الإهلاكية فهي قدرة النفس على بذل أقصى الجهد في الإيذاء"؛ والثالثة أنها قوة سلامية في مقابل القوة الحربية، من باب أن "القوة السلامية هي قدرة الروح على بذل أقصى الجهد في المؤاخاة، أما القوة الحربية فهي قدرة النفس على بذل أقصى الجهد في المعاداة". (ص 123). في نقد "الجهاديين" الإسلاميون "الجهاديون" أو القتاليون [الانقتاليون بتعبير طه] الذين تورطوا في اعتداءات طالت العديد من دول العالم، معنيون أكثر من غيرهم من الإسلاميين، بقراءة مضامين هذا العمل، ومعهم أيضاً، كل الإسلاميين القتاليين الذين يفكرون في تنفيذ اعتداءات هنا وهناك، ونضيف أيضاً، ولو بدرجة أقل، كل الإسلاميين الذين يرون أنه لا مفر من تبني شتى أشكال العنف، من أجل مواجهة السلطة، أو لا مفر من إحياء "دولة الخلافة"، حيث يتحدث المؤلف هنا عن "الخلافة الأخلاقية" تحديداً، وليس "الخلافة السياسية بمعناها التسيُّدي" [السلطوي]، (ص 83). لا يتحدث طه عبد الرحمن هنا بالمرة، عن "الداعشية" أو "القاعدة"، بل حتى مصطلح "السلفية الجهادية" لا نجد له أثراً، وبالكاد يتحدث عن "القوة الجهادية" (ص 122)، التي تُضاد "القوى الهابيلية" [نسبية إلى هابيل]، وبالتالي، نحن إزاء "قوة قابيلية" [نسبة إلى قابيل]، لديها قابلية حرق الأخضر واليابس لاعتبارات نفسية أساساً، حيث يُفصل في ذلك ملياً، وتحدث مرة واحدة عن "الجهالة" (ص 100)، التي تورطت في هذه الاعتداءات، منتقداً معالمها العقدية والسلوكية، وقد وظف هذا المفهوم انطلاقاً من مقتضى الآية الكريمة التي جاء فيها: "إنه كان ظلوما جهولا" [الأحزاب، 71]. بالنسبة للفاعلين الإسلاميين الذين استهدفوا المساجد وبيوت العبادة، فقد خصهم كتاب "سؤال العنف" بالعديد من الإشارات النقدية، نذكر منها مثلاً، أن الفاعل الإسلامي القتالي الذي يُفجر نفسه في المساجد، لا يسقط في انتهاك حرمة المساجد وحسب، و"لا في مجرد إثبات الذات بهذا الانتهاك، بل فيه تحدّ لذات الإله؛ إذ لا مكان يشهد فيه الشاهدون بألوهيته ووحدانيته مثل بُيوته، ولا مكان ينبغي أن تُنكر فيه الذات إنكارها في هذه البيوت الملكوتية، ومع ذلك، فإن العنيف، وقد بلغت جهوليته منتهاها، يريد أن يشهدوا له، قاتلاً واحداً، بَدَل الشهادة بربهم، إلهاً واحداً". (ص 130). هذه البيوت، يُضيف المؤلف، "ليست في ذاتها أمكنة فاسقة ولا كافرة وإنما أمكنة مؤمنة وذاكرة، إذ ظلت جنباتها تمتلئ تلاوة لكتاب الله وتدارساً لأحاديث نبيه وصلوات آناء الليل وأطراف النهار، فكان ينبغي أن تصان ولا تداس، شافعة لفساقها وكفارها المزعومين، حتى يتركوها، على فرض أن هؤلاء الأولياء وُكِل إليهم إزهاق أرواحهم". (ص 131)، ومن يقرأ هذا الإشارة النقدية، قد يستحضر دلالة القواسم المشتركة بين جماعات إسلامية تؤمن ببدعية قراءة القرآن جماعة في المساجد، وجماعات أخرى، تتشارك معها في المرجعية الفقهية والمذهبية، ولكنها لا تتردد في إقناع أتباعها بتفجر هذه المساجد! بالنسبة للبديل الائتماني الذي يرومه العمل، والمؤسّس على مرجعية "الفقه الائتماني" [من الأمانة وليس الأوامر كما هو الحال مع "الفقه الائتماري"]، فلا يخرج عن الانتقال من "أخلاق العنف إلى أخلاق اللطف" ومن "الأخلاق النفسية إلى الأخلاق الروحية "، أو كما نقرأ ملياً، إن "التغيير الذي توجبه الحكمة في التعامل مع العنيف تغييراً لإنسانيته، أي تغييراً لماهيته الأخلاقية، وليس تغييراً لمُواطنيته ذات الصيغة السياسية، إذ يروم هذا التغيير إخراج العنيف من أخلاف العنف إلى أخلاف اللطف، على اعتبار أن العنف عبارة عن جملة من الأخلاق النفسية، وينبغي إحراجه إلى اللطف الذي هو عبارة عن جملة من الأخلاق الروحية". (ص 151). كما وجه المؤلف الدعوة إلى أهل التفكر في سياق إحياء مفهوم الأمانة في الإسلام وتوسيع مجال التفكير فيه، لاعتبارين اثنين: "أحدهما أن المسؤولية بحسب هذا المفهوم ذات أصل ملكوتي، والاعتبار الثاني أن العنيف سطا على هذا المفهوم ومسخ دلالته وضيَّقه إلى أقصى حد بأن جعله دالاً على التسلط ذي البأس الشديد في صورة تسييس لا أخلاقي للخلافة". (ص 154) إشارة أخيرة، تهم نفس المأزق الفقهي الائتماري، والمرجعية الحداثية في آن، حيث يُؤاخذ طه عبد الرحمن على النموذج الأمري التقليدي، تحمله جزء من المسؤولية التي خولت للفاعل الديني العنيف، أن يعتقد أنه سيد على سواه، وبيان ذلك أن "الفقه التقليدي أثر في تعاملات العنيف مع الناس والأشياء، فأصبح لا يعقلها إلا على جهة أنه آمر وغيره مأمور"؛ أما الجزء الآخر من المسؤولية الأخلاقية والمعرفية، فذات صلة ب"مفهوم السيادة الذي غزا العقول منذ فجر الحداثة، عندما أصبحت علاقة الإنسان بنفسه وبالعالم من حوله، تُتصّور على أنهما علاقة السيد بهما، ولم ينج المسلم من التأثر بهذا التصور المنقول، فأضحى، هو الآخر، يرى أنه سيّد نفسه وسيد العالم"، ومن هنا جاء اعتقاد الفاعل الديني الحركي بشكل عام، أن "التغيير لا يكون إلا سيادياً، أي بالاستيلاء على السلطة، أي من الموقع الذي تصدر منه الأمرية العظمى". (ص 154). وإجمالاً، أحصى المؤلف ست صور للتخليق الذي تتولاه الحكمة وهي "الائتمانية" و"العبدية" و"الإنسانية" و"الأخلاقية" و"الأسمائية" و"الاعتراضية" (ص 162)، وهي صور من التخليق تُجسّد ممارسات، لا مُجرد توجيهات نظرية، لذلك نحسبُ أنها قادرة على إزالة مظاهر عنف العنيف، بل إنها قادرة على إزالة قابلية العنف لديه. الحوار بين المسؤولية والأمانة بالنسبة للقسم الثاني، وعنوانه: "الممارسة الحوارية بين المسؤولية والأمانة"، فكان أشبه بتمرين معرفي تعود عليه قارئ أعمال طه، ويمكن وصف هذا التمرين، أو قل "القاعدة النقدية" بما يُشبه "الاشتباك المعرفي النقدي" مع النصوص الفلسفية المؤسّسة، كما عاينا ذلك في لائحة عريضة من إصدارات مُؤسّس الدرس المنطقي في المجال التداولي المغاربي. يتعلق الأمر هذه المرة، بالاشتباك المعرفي النقدي مع اجتهادات الفيلسوف الفرنسي (من أصل ليتواني) إيمانويل ليفيناس، ذات الصلة بمفهوم الحوار (ومن هنا أسباب نزول العنوان الفرعي للكتاب، أي "الائتمانية والحوارية"، حيث خُصص القسم الأول من الكتاب لنقد مفهوم العنف، انطلاقاً من مبادئ "النظرية الائتمانية"؛ بينما خُصّص القسم الثاني، للعروج على تقييم وتقويم مفهوم الحوار، في سياق تداولي مغاير، انطلاقاً من نفس الأرضية النظرية، ولذلك أشرنا سلفاً، أعلاه، إلى أن كتاب "سؤال العنف"، يُصنف في خانة تطبيقات "النظرية الائتمانية"). جدير بالذكر هنا أيضاً، أن القسم الثاني، هو النص الكامل للمحاضرة التي ألقاها طه عبد الرحمن يوم 3 ماي 2016، بمدينة الجديدة [مسقط رأسه]، على هامش أشغال افتتاح مؤتمر نُظم في موضوع: "إشكالية العلاقة بين الحوار والأخلاق في الفكر المعاصر: مشروع الفيلسوف طه عبد الرحمن نموذجاً"، ونظمه مختبر الترجمة والتواصل والآداب بكلية الآداب والعلوم الإنسانية (جامعة شعيب الدكالي بالجديدة) بالتعاون مع مختبر الترجمة وتكامل المعارف بكلية الآداب والعلوم الإنسانية (جامعة القاضي عياض بمراكش) وفريق البحث في التعليم والترجمة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية (جامعة ابن زهر بأكادير). وجاء عنوان المحاضرة حينها كالتالي: "الممارسة الحوارية بين المسؤولية والأمانة"، وهو بالطبع، عنوان القسم الثاني، وقد سبق أن استعرضنا حينها أهم مضامين المحاضرة. (أنظر الرابط التالي) اعتبر المؤلف بداية أن الممارسة الحوارية ليست مجرد صورة من صور الكلام، وإنما هي الأصل في وجوده، وقد خصّ الدخول في هذه الممارسة باسم مُشتق من نفس المادة اللغوية، وهو "المساءلة"، باعتبارها الحوار الذي تتحدد فيه مسؤولية المحاور، مستعبداً التوقف عند الدلالة السياسية للمفهوم، والذي يواجه فيه المسؤول أسئلة الممثلين للشعب، ومفضلاً في المقابل، التوقف عند الحوار الديني الذي تلقى فيه الإنسان سؤال الإله قبل أن يتلقى سؤال الإنسان، تأسيساً على مصدرين اثنين: أحدهما المصدر التوراتي (من سفر التكوين، 4)، والآخر المصدر القرآني (الأعراف، 172 و173)، ومن هنا أسباب التوقف عند أعمال ليفيناس، لأنه كان متشبعاً بعقيدة دينية ومتضلعاً في التراث التلمودي، بل وضع مؤلفات مرجعية، وخَصَّ طه بالذكر كتابه الشهير "الوجود الكلي والآخر اللامتناهي"، وأيضاً كتابه الآخر "مغايرة الوجود". (ص 170) هذا عن المصدر التلمودي في سؤال الحوار وهو الذي انتهى بليفيناس للحديث عن حوار "المواجهة"، مقابل حوار "المواثقة" عند طه عبد الرحمن في الشق الخاص بالمصدر القرآني، بتعبير آخر، الإحالة على المصدر التوراتي تُخوّل لطه أن يُسمي المسائلة ب"المواجهة"، وحَدُّها أنها عبارة عن المساءلة التي يتساءل فيها الإنسان عن أداء واجبه، أما الإحالة على المصدر القرآني، فتصب في الحديث عن "المواثقة"، وهي عبارة عن المُسائلة التي يُسأل فيها الإنسان عن الميثاق الذي أُخِذ منه. والحال، يضيف طه، أن التعامل مع الأصل الديني للمساءلة يختلف باختلاف هاتين الصورتين، أي "المواجهة" و"المواثقة"، حيث إن التعامل في سياق المواجهة يتأسّس على التنكر لمقتضيات هذا الأصل الديني، وهذا اصطلح عليه طه عبد الرحمن بالتغييب، بينما يقوم التعامل مع هذا الأصل الديني في سياق المواثقة على تذكر الأصل الديني، وهو ما اصطلح عليه بالتشهيد. وبالنتيجة، خلُصَ طه إلى أن "المواجهة" حوار يُغيب المسؤولية، بينما "المواثقة" حوار يُشهد المسؤولية. توزع القسم الثاني من الكتاب على محوريين اثنين، جاء الأول بعنوان "حوار المواجهة وأخلاق المسؤولية"، وكان عبارة عن تعريف وتفصيل في أعمال إيمانويل ليفيناس، مع الرهان على تمرير ترجمة توصيلية لمفاهيمه، وفي مقدمتها تعريفه للحوار؛ بينما جاء عنوان المحور الثاني كالتالي: "حوار المواثقة وأخلاق الأمانة". في مضامين الباب الأول من القسم الثاني، انطلق طه عبد الرحمن من تعريف ليفيناس للحوار قصد مناقشته، وجاء التعريف كالتالي: "إنه الخطاب الذي يدور بين الناس، وهو وجهاً لوجه"، متسائلين فيما بينهم ومتبادلين الأقوال والاعتراضات والأسئلة والأجوبة، ويُعرف ليفيناس المواجهة بكونها تربط بين طرفين متقابلين تقابلاً، لا اتحاد معه ولا اختزال ولا تنسيق، وهذا الطرفان هما الأنا والآخر. بالنسبة لعناصر النظرية الائتمانية للحوار، كما سَطرها طه عبد الرحمن، فقد كانت مؤسّسة على أربعة أركان: الميثاق، الأمانة، الشهادة والمخالقة، وكلها مفاهيم مُميزة "للنظرية الائتمانية". عموماً، لقد سبق أن توقفنا عند معالم القسم الثاني من الكتاب، ونحسبُ أن مضامين القسم الأول منه، تتطلب طرح لائحة من أسئلة المكاشفة والمصارحة، أقلها السؤال التالي: هل نحن صادقون فعلاً في مواجهة ظاهرة التطرف الإسلامي، وبالتحديد ظاهرة الإرهاب الصادر عن "الجهاديين" أو الإسلاميين القتاليين؟ هذا السؤال ليس موجهاً إلى صناع القرار السياسي والأمني وحسب، ولكنه موجه من باب أولى إلى مُجمل الفاعلين الدينيين، الرسميين والحركيين، وبيان ذلك، أن مضامين القسم الأول من الكتاب، تجسّد اختباراً صريحاً في هذا السياق. هذا العمل إذاً، أشبه بإبراء ذمة للمؤلف، الفيلسوف المُجدد طه عبد الرحمن، من ثلاث مؤسسات في آن: المؤسسة الدينية، حيث يؤاخذ عليها القصور الفقهي والمعرفي في مواجهة الخطاب العنف الديني؛ المؤسسة الثقافية، حيث يؤاخذ عليها القصور النظري في الاشتغال على تفكيك ظاهرة التطرف؛ وأخيراً، المؤسسة الأمنية التي تأخرت في الاستنجاد بأهل العمل المعرفي، في سياق مواجهة العنف باسم الدين.