يُحسب لطه عبد الرحمن التحرير عدة حقول معرفية، ونعتقد أن أهم تصنيف لأعماله حتى حدود تحرير هذه الكلمات، جاء في مقدمة كتاب "سؤال المنهج"، وحرّره الباحث رضوان مرحوم، باعتباره أحد أبرز مُتتبعي أعمال طه، مفاده أن صاحب "العمل الديني وتجديد العقل"، حرّر في مجال "مناهج المنطق" ومجال "تكامل التراث" ومجال "فقه الفلسفة"، وأخيراً مجال "النقد الأخلاقي وفلسفة الدين"، وقد ذكر الزميل رضوان لائحة من الأعمال التي تصنف في خانة هذا المجال أو ذلك. وفي ذات السياق، أطْلِقت على طه عبد الرحمن العديد من الألقاب، من قبيل أنه "رائد الدرس المنطقي"، "فيلسوف الأخلاق"،"ناقد الحداثة من منظور أخلاقي"، مُسطر مشروع "الفلسفة الائتمانية"، أو "المُجدد في فلسفة الدين"، وبالتحديد بعد صدور كتابه "روح الدين"، والتقييم هنا لرضوان السيد والسيد ولد اباه، حيث اعتبر رضوان السيد مثلاً، أن كتاب "روح الدين"، "فضلاً عن راهنيته [فإنه] مؤسّس لفلسفة الدين في عالم المسلمين الحديث والمعاصر". (رضوان السيد، "روح الدين" لطه عبد الرحمن والقراءة الأخرى.. العلائق وإشكالياتها بين الدين والشأن العام، الشرق الأوسط، عدد 4 سبتمبر 2012). والحال أنه سواء تعلق باجتهاد الباحث رضوان مرحوم الخاص بتصنيف مُجمل هذه الأعمال، أو التدقيق في هذه الألقاب، لا نقرأ أي إحالة على اجتهادات طه ذات صلة بالفلسفة السياسية، أو قل، مَن بوسعه الحديث عن طه عبد الرحمن باعتباره صاحب أطروحة في الفلسفة السياسية؟ واضح أن الإجابة على هذا السؤال، تتطلب السفر مُجددأ في مُجمل أعماله، منذ كتابه "اللغة والفلسفة" حتى كتابه الأخير "شرود ما بعد الدهرانية"، وكتابه القادم في غضون الأشهر القادمة بحول الله، بعنوان: "دين الحياء: من الفقه الائتماري إلى الفقه الائتماني". صحيح أننا عاينا بعض الإشارات ذات الصلة بالمواقف السياسية، كما نقرأ مثلاً في كتابه "العمل الديني وتجديد العقل"، أو مواقف نقدية ضد أحداث سياسية في كتابه "الحق العربي في الاختلاف الإسلامي"، من قبيل توقفه التأملي عند أحداث 11 سبتمبر 2001، أو انخراطه النقدي في تفكيك بيان المثقفين الأمريكيين الشهير، والذي بَرَّر شن الإدارة الأمريكية الحرب على المسؤولين عن تفجيرات نيويورك وواشنطن، وصدر كما هو معلوم في فبراير 2002 عن "معهد القيم" بولاية نيويورك (Institut for American Values)، وجاء البيان تحت عنوان "لماذا نخوض الحرب؟" أو "على أي أساس نقاتل؟" What We are Fighting For ?، وغيرها من الإشارات، ولكن نحسبُ أن اجتهاد طه عبد الرحمن في باب "الفلسفة السياسية" جاء مُفصلاً ومركباً في كتابه "روح الدين: من ضيق العَلمانية إلى سَعة الائتمانية"، والذي سبق أن نشرنا عرضاً أولياً يتطرق لأهم مضامينه. (صدر عن المركز الثقافي العربي، بيروتالدارالبيضاء، ط 1، 2012، في حدود 526 صفحة) [أنقر الرابط التالي: www.hespress.com/orbites/47413.html أشرنا حينها إلى أن المؤلف يعرض وجهة نظره في مفاهيم العَلمانية والديانية (إحالة على المشاريع الدينية الحركية في نسختها الإسلامية) والائتمانية، واعتبرنا أيضاً أن العمل ينتقد اجتهادات مُجمل الفكرانيات [الإيديولوجيات] سالفة الذكر وغيرها، بما في ذلك المرجعيات السنية والشيعية، وتحديداً تفاعل هذه المرجعيات والفكرانيات مع جدلية أو قل ثنائية لازالت تؤرق عقلنا الإسلامي الجمعي في مجالنا التداولي منذ زمن "الفتنة الكبرى"، أي ثنائية الدين والسياسة. وليس صدفة أن يُخصص رضوان السيد، باعتباره أحد الأسماء العلمية التي اشتغلت أكثر على هذه الثنائية، ثلاثة مقالات للكتاب، بعضها كان تعريفياً وبعضها الآخر كان نقدياً. ونحسبها من أهم ما صدر حول الكتاب، دون الحديث عن إحالاته على الكتاب في أعمال أخرى، وخاصة دراساته في مجلة "التفاهم" الفكرية، حيث توقف ملياً عند تميز الكتاب في خانة إصدارات "فلسفة الدين"، دون أن يتحدث عن "الفلسفة السياسية"، ولكنه أحال على المفهوم دون الإشارة إليه صراحة، عندما اعتبر أن الكتاب "يأتي في ثلاثة سياقات: سياق المجادلة والصراع مع العلمانية الغربية (والفرنسية على الخصوص)، وسياق المواجهة المستمرة مع البيئات الفكرية والثقافية في العقود الخمسة الماضية في المغارب (المغرب وتونس)، وسياق ثالث مرتبط بالتجارب والتطورات التي حدثت مع الدين في الغرب في العقود الأربعة الأخيرة، حيث استعاد الدين في جوهره أو فكرته الأصلية اعتباره لدى الفلاسفة الجدد أو أهل فلسفات التأويل". ورغم إشارتنا حينها أيضاً إلى أن مقاربة المؤلف للعلاقة بين الدين والسياسة، جاءت مُتميزة عن المقاربات السابقة، إلا أننا لم ننتبه إلى أن العمل يستعرض العديد من الاجتهادات ذات الصلة بالفلسفة السياسية دون سواها، ويكفي قراءة لائحة المراجع المعتمدة، ونذكر منها الأسماء التالية مثلاً، قبل التوقف عند النماذج في تفاعل الطهائي مع اجتهادات بعض هذه الأعلام: حنا أردنت، ميشيل فوكو، يورغن هابرماس، طوماس هوبز، إيتيان دو لا بويسي، برناس لويس، جون ستيورات ميل، مونتيسكيو، شانتال موف، جون راولز، جان جاك روسو، برتراند راسل، كارل شميت، أليكسي دو توكفيل، وواضح أننا إزاء نماذج من أعلام محسوبة على المجال التداولي الغربي؛ بالنسبة للأسماء والمراجع المحسوبة على المجال التداولي الإسلامي، فنذكر منها مثلاً: الراغب الأصفهاني، عبد الرحمن بن خلدون، محمد عابد الجابري، فهمي جدعان، وائل حلاق، الخميني، رضوان السيد، محمد عمارة، علي عبد الرازق، برهان غليون، سليم العوا، يوسف القرضاوي، عبد الرحمن الكواكبي، أحمد الموصللي ومراجع أخرى. يُبدي طه أيضاً مواقف نقدية من عدة أنماط من السلطوية، دون اللجوء إلى هذا المصطلح، مفضلاً استعمال مصطلح التسيّد، ولا يتحدث هنا عن تسيد الفكرانيات سالفة الذكر، كما جاء ذلك مُفصلاً في عدة فصول من الكتاب، وخاصة الفصل الخامس، وعنوانه: "العمل التزكوي ونهاية التسيّد"، مع توقفه عند أصناف هذا التسيّد [تسيّد الدولة وتسيّد الشعب وتسيّد الفرد] وأوصافه، وأيضاً في مضامين الفصل الثامن وخاتمة الكتاب، وإنما توقف كثيراً عند مأزق تسيّد الفرد، ويفيد عنده بالتحديد "تعبد الذات"، معتبراً أنه "على قدر درجته في التسيّد، يكون التغييب، وعلى قدر درجته في التغييب، يكون هذا التعبّد". من المفاهيم التي يوظفها طه عبد الرحمن في العمل، ذات الصلة ب"الفلسفة السياسية"، مفهوم "الإزعاج" [أو قل "قول الحقيقة" اتجاه السلطة]، ومن مهام المثقف بتعريف أعلام الماضي والحاضر، قول الحقيقة اتجاه السلطة، حيث توقف المؤلف عند "إزعاج الدولة"، والذي برأيه "يتخذ صورة تحرير المجتمع من فاحش تسيّدها"، مضيفاً أن "الإزعاج الذي يُحرّر المجتمع ليس هو انتزاع السلطة، وإنما إحياء الفرد بإعادة صياغته على وفق مطالب التعبد لله وحده" (روح الدين، ص 305)؛ بل يذهب طه عبد الرحمن بعيداً في تفعيل مقتضى هذا المفهوم على أرض الواقع، في ما يُشبه توقعات طاهائية بمآلات أحداث "الفوضى الخلاقة" السائدة في المنطقة العربية خلال السنين الأخيرة، والتي اصطلح عليها بأحداث "الربيع العربي"، مع التذكير بأن الكتاب صدر في غضون مطلع 2012، أي سنة بالضبط بعد اندلاع هذه الأحداث، ولكن المضامين الكبرى أو قل الكلية للعمل، اشتغل عليها المؤلف طيلة ثلاث سنوات قبل اندلاع هذه الأحداث، وتطلبت منه التفرغ لتحرير العمل. نتحدث هنا عن تفرعات ثلاث لأنماط المقاومات ضد التسيّد (السلطوية)، وهي المقاومة بالسلطان، المقاومة بالبرهان، وأخيراً، المقاومة بالوجدان؛ مُعتبراً أنه إذا كانت الأولى (أي مقاومة التسيّد بالسلطان) تتخذ صوراً ثلاثاً للوصول إلى الحكم، وهي الثورة والتمرد والانقلاب، وإذا كانت الثانية (المقاومة بالبرهان)، تتخذ، لتولي الحكم، صورة الانتخاب، فإن المقاومة بالوجدان، تتخذ صورة خاصة يُسميها الإزعاج، بما يُفيد أنه لا يتبنى ولا يُروج لخيارات المقاومة بالسلطان أو المقاومة بالبرهان، وإنما يتبنى خيار الإزعاج الروحي الذي يُعرفه كالتالي: "نقل من حال أدون إلى حال أعلى". (روح الدِّين، ص 296). نأتي لبعض النماذج التطبيقية التي تندرج في مقام "الاشتباك المعرفي" مع لائحة من الأعلام في المجال التداولي الغربي، ونتوقف عند اسميين اثنين، وهما شانتال موف [Chantal Mouffe] ويورغن هابرماس [Jürgen Habermas]. أ نبدأ بشانتال موقف، وهي مُنظرة سياسية بلجيكية، أو فيلسوفة حسب مجلة "فلسفة" الفرنسية التي استضافتها في مناسبتين على الأقل خلال الأشهر الأخيرة، كانت الأولى في شهر فبراير 2016، للحديث عن وهم [يوتوبيا] السّلْم الاجتماعي باعتباره الهدف الأسمى للفعل السياسي، وكانت المناسبة الثانية في شهر مايو 2016 للحديث عن واقع الصراعات السياسية داخل المنظومة الديمقراطية، كما استضافتها يومية "لوموند" الفرنسية في عدد 20 أبريل 2016 عبر حوار مطول، لاستعراض وجهة نظرها في موضوع شعبوية اليسار في فرنسا. خصّصَ طه عبد الرحمن لشانتال موقف عشر صفحات من المناقشة في مضامين الفصل الثالث من الكتاب، [تحت عنوان: "العمل السياسي وممارسة التغييب"] وهو أهم فصول الكتاب المرتبطة بموضوع المقالة، وهو أيضاً أطول فصول الكتاب [من ص 91 إلى ص 179]، ونحسبُ أن جوهر اجتهاد طه عبد الرحمن "الفلسفة السياسية"، يكمن في هذا الفصل على الخصوص. وما دمنا نتحدث عن "اشتباك معرفي" في الفلسفة السياسية، ليس صدفة أن يفتتح طه عبد الرحمن مناقشته لبعض أطروحات شانتال موف، كما جاءت في كتابين اثنين، وهما كتاب "في السياسي" [On the Political] وكتاب "الديمقراطية التشاورية أو التعددية التنازعية" [Deliberative Democracy or Agonistic Pluralism]. ب يحفل الفصل الثالث أيضاً بتقييم وتقويم لأطروحة "نظرية العقل التواصلي" [The Theory of Communicative Action] للفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، وجاء ذاك موزعاً على 25 صفحة من الكتاب، من ص 152 إلى ص 179، حيث اشتغل على قراءة مفهوم "الاستدلال" الذي يشتغل به/ عليه هابرماس، مُفضلاً الإتيان ببديل، وهو مفهوم "الشهادة"، ونورد هذه الفقرة التي تلخص بعض معالم هذا "الاشتباك المعرفي" بين مفهوم الشهادة عند طه عبد الرحمن ومفهوم الاستدلال عند يورغن هابرماس، وجاء فيها: "الشهادة أنسب لغرض هابرماس من الاستدلال؛ إذ أنه أراد أن يجعل من المناقشة، باعتبارها علاقة تواصلية متميزة، عماد "الديمقراطية"، وأفضلَ طريق لإقامة العدالة والوصول إلى الصحة؛ فإذن كل ما كان أقرب للمناقشة من حيث أخذُها بأسباب العلاقة والعدالة والصحة الداخلية كان أنسب للممارسة "الديمقراطية"؛ وقد ثبتَ أن تحقُّق هذه الأسباب الخاصة بالمناقشة أظهر في الشهادة منها في الاستدلال، إذ هي أقدر منها على توثيق العلاقة وتحقيق العدالة وتوريث الصحة الداخلية، فيلزم أن تكن أنسب منها ل"الديمقراطية" (روح الدين، ص 168). رُبّ معترض عن كون الفكرانيات الدينية والمادية (أو الديانية والعَلمانية)، المعنية بالصراع على الإمساك بزمام السلطة الزمنية الحاكمة، لم تشتغل أو توظف إيجاباً أو سلباً بعض هذه الإشارات الفلسفية السياسية، من باب خدمة مشروعها المجتمعي والسياسي بله الفكراني؛ والحال أن مُجمل هذه الفكرانيات تعرضت للنقد العِلمي في مضامين هذا الكتاب، وبالتالي وجدت نفسها في ورطة منطقية لو ارتأت توظيف بعض هذه المضامين، سواء في إطار تمرير مواقف نقدية ضد السلطة أو ضد الفكرانيات المنافسة، وتكمن هذه الورطة أو قل المفارقة في أن أي توظيف لبعض الإشارات الواردة في الكتاب، يُمكن أن يُقابل بنقد مضاد من داخل نفس المنظومة التي صدرت منها هذه الإشارات، أي كتاب "روح الدين"، وهذه إحدى المفارقات التي تفسر أهم أسباب صرف هذه الفكرانيات النظر عن الاحتفاء بلْه الترويج للعمل، من فرط هذه الإشارات، وسوف نترك مضامين حوالي 500 صفحة حافلة بهذه الإشارات، لكي نتوقف عند إشارة واحدة فقط ذات صلة بهذه المعضلة: في خاتمة الكتاب، يخلُص طه عبد الرحمن إلى "العَلماني يُمارس التسلط على الخَلْق، متقيداً، من حيث المبدأ، في استعمال الوازع السلطاني، بالقيود والضوابط الوضعية" (ص 503). التفصيل في هذه الإشارة النقدية، قد يوظفه الفاعل الدياني في معرض المواجهة العلمية ضد المرجعية الفكرانية العَلمانية، لولا أننا نقرأ في نفس الفقرة، تتمة تصب في الاتجاه المُضاد، حيث يُضيف صاحب "روح الدين" أن "الدياني [الإسلامي الحركي]، يُمارس التسلط على الخَلْق، متقيداً، من حيث المبدأ، في استعمال الوازع السلطاني، بالأحكام الفقهية". لقد صدر الكتاب في غضون مطلع 2012، ونحن اليوم في منتصف 2016، وبالكاد صدرت بعض القراءات حين صدوره، ولا شيء تقريباً اليوم، باستثناء بعض الإشارات في هذه الدراسة أو تلك، مع تسجيل مفارقة تداولية في هذا الصدد، مفادها أن متابعة وتفكيك مضامين هذا الكتاب في المجال التداولي الغربي تتم بشكل نوعي وأكبر بكثير مقارنة مع ذات المتابعة في مجالنا التداولي، والأدهى أنها تتم في غفلة من أي متابعة بحثية بْله إعلامية في مجالنا التداولي، حيث لا زال الاعتراف باجتهادات ناقد صاحب "شرود ما بعد الدهرانية" متواضعاً لأسباب ليس هذا مقام التفصيل فيها. كانت هذه قراءة أولية، نحسبها مقدمة للحديث عن أسُس اجتهادات طه الرحمن في حقل "الفلسفة السياسية"، على أمل التفصيل والتدقيق لاحقاً بحول الله.