كان وحده، يدفع عربته مثل أي (طالب معاشو)، يحرر طرف ديال الخبز من عرق جبينه، غير أنه أحس ب(الحكرة) جراء صفعة وجهتها له بوليسية متهورة، فأضرم -رحمه الله- النار في جسده بأحد شوارع مدينة صغيرة إسمها سيدي بوزيد بتونس، وبعدها اندلعت نيران ثورة الشعب التونسي الذي ذاق أبناؤه لمدة طويلة مرارة الإهانة من طرف بوليس منعدم الضمير، يشبه العديد منهم شخصية (حاتم أمين) في فيلم (هي فوضى) للراحل الرائع يوسف شاهين، الذي أبرز في هذه "التحفة السينمائي" الفساد المتمثل في القمع المباشر والرشوة والمحسوبية والسيطرة الغاشمة للسلطة والكبت الجنسي والعقد النفسية لبعض رجال الأمن (رجال بالإسم فقط). توالت مشاهد، هذا الفيلم السينمائي بسرعة البرق في ذهني، فضلا عن ذلك المشهد الصادم والخالد لإضرام محمد البوعزيزي، النار في جسده وسط شارع وسط مدينته الصغيرة، (قُُلت توالت تلك المشاهد) وأنا أسمع كيف اعتدى بعض (رجال) الشرطة على شاب تم إيقافه على خلفية قضية أنكر علاقته بها بالبت والمطلق، ولتبرير ضربهم له تم تذييل محضر الاستماع إليه بعبارة (لطم رأسه بجدار سيارة النجدة)، ليخلي البوليس ساحته من تهمة ممارسة التعنيف في حق مواطن بسيط. وقع هذا، في مدينة صغيرة، تُشبه كثيرا مدينة سيدي بوزيد التونسية، مدينة لاتبعد عن العاصمة الإدارية للمملكة سوى بحوالي 100 كلم، إسمها سيدي سليمان، كانت تسمى باريس الصغرى في الماضي، ( تحولت مؤخرا إلى عمالة، ياحسرة)، وتتوالى من حين لآخر شكاوى بعض (السليمانيين) بسبب تعرضهم للإهانة والحكرة من طرف بعض عناصر البوليس، سواء أثناء مسطرة البحث كما حدث مع الحالة المذكورة، أوكما حدث قبل أسابيع قللية (9 ماي 2011) حيث تم صفع تلميذة (خ.م) أمام مفوضية الشرطة من طرف مسؤول أمني (ع)، ناهيك عن المعاناة المريرة للمواطنين الراغبين في الحصول على وثائقهم الإدارية( سير، وآجي). مثل هذه التصرفات، تدعو للتساؤل عن مدى إدراك بعض المسؤولين الأمنيين، سيما في بعض المدن الصغيرة للمرحلة التي دشنها خطاب 9 مارس، وبعده دستور 2011 الذي شدد على حفظ كرامة المواطن المغربي، مهما كانت وضعيته سواء ظنينا أومشتبها فيه، فالأصل هو براءة الذمة إلى أن يثبت العكس، ناهيك على أن المشتبه فيه لايمكن نعته بأي حال ب(المجرم)، وتبرير تعنيفه وعصب عينيه في مخفر الشرطة، في مخالفة صريحة لكل المواثيق والعهود الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان. ويمكن التساؤل في نفس الإطار، إذا افترضنا جدلا أن شخصا تم إيقافه في حالة تلبس، هل هذا كاف لتبرير إلحاق الأذى به؟ الجواب:"طبعا لا، ومليون لا"، لأنه ببساطة شديدة فإن ضابط الشرطة الذي يلجأ إلى تعنيف الموقوف، يكون عاجزا في مواجهته بالأدلة القوية، أما اعتقال المواطنين وإرغامهم بالعنف على توقيع المحاضر فإنه "فشل ذريع لضابط الشرطة القضائية في مواجهة الظنين بحجج وأدلة قوية لايبقى أمامه إلا الاعتراف". إن دور الشرطة القضائية، كما يقول الأستاذ الحسن البوعيسي :"هو جمع الأدلة والقيام بكل التحريات الضرورية والمعاينات قصد تقديم محضر يفيد العدالة ويمكن المسؤولين عن باقي مراحل التحقيق من النظر إلى الملف برمته نظرة قانونية، فضلا عن كون الضابطة القضائية تعمل بالميدان أكثر من باقي السلطات القضائية الشيء الذي يجعلها أكثر اختصاصا وكفاءة في جمع الأدلة"، مُضيفا في كتابه الموسوم ب"عمل الضابطة القضائية بالمغرب"، بأنه يحظر على الشرطة القضائية، أخذ التصريحات بطريقة عنيفة"، ومضى قائلا في ذات الكتاب، الذي يتطلب من رجال الشرقي الضريس، وخاصة (الكسالى منهم) قراءته واجتياز الامتحان في بعض فصوله، (مضى قائلا) بأن كفاءة الشرطة القضائية يقتضي توافر عناصرها على ضمير مهني عال، الشيء الذي ينتفي عند البعض منهم، فالمستوى الثقافي البسيط عند البعض، وضعف التكوين المهني، واستحالة المراقبة وبساطة الراتب الشهري (كاين للي كرشو كْبيرة، واخا زادوهم فالخلصة)، كل هذه العوامل تجعل بعض رجال الضابطة القضائية غير قادرين على الصمود أمام الإغراءات التي يقدمها الأطراف من أجل الحصول على تسجيل اعتراف خصمهم أوعدم تسجيله لكسب القضية أمام المحاكم، وبعبارة أخرى فإن هذه العوامل تمس باستقلال رجل الشرطة القضائية اتجاه الأطراف. المطلوب من الجهات المعنية، تدعيم المراقبة القضائية لعمل الشرطة القضائية، والسماح للأظناء بالإستعانة بمحام أثناء الاستماع إليهم من طرف ضباط الشرطة القضائية، لأنه كما يشدد الأستاذ البوعيسي بالإضافة إلى نسب الاعترافات إليهم فإنهم غالبا ما يتعرضون للتعذيب والإيذاء، الذي لا يمكن إنكاره من طرف كل رجال الشرطة في العالم، (وليس في سيدي سليمان وحدها)، لأن "نقصان التكوين المهني وقلة الكفاءات تجعل بعض رجال الشرطة القضائية يلجؤون إلى تضمين المحاضر اعترافات الأظناء حيث يكفيهم ذلك جمع الأدلة ويقيهم ملاحظات رؤسائهم، فضابط الشرطة القضائية يتم تنقيطه كل سنة من طرف رؤسائه، وهذا التنقيط يلعب دورا كبيرا في الترقية الإدارية، الشيء الذي يجعله في بعض الأحيان يعمل على حساب الحريات العامة من أجل خدمة مصلحته الخاصة. ملحوظة : أي تشابه بين الأشخاص والمدن هو من قبيل الخيال الذي كثيرا ما يتحول إلى حقيقة (فاللهم احفظ بلدنا من بعض عناصر الشرطة الذين يشبهون شخصية فيلم (هي فوضى)، واحفظ بلادنا من نساء الشرطة اللواتي يشبهن تلك البوليسية التي صفعت البوعزيزي رحمه الله حيا وميتا).