يشرفني أن أكون ضمن هذه المجموعة التي تناقش كتاب الأستاذ القدير "حسن أوريد". كان الكتاب الذي صدرت طبعته العربية الأولى قبل شهور قليلة سنة 2016، عن دار النشر توسنا المغرب، ترجمةً بيد المؤلف لكتابه الصادر باللغة الفرنسية، قبل حوالي السنة، تحت عنوان "L'impasse de l'islamisme: cas du maroc". وقد فصله صاحبه كما يظهر من فهرسه إلى خمسة فصول، جعل لها مقدمتين وخاتمة. وقد يبدو للمتصفح للكتاب باديء الرأي أن الكتاب يعالج ما توحي عناوين هذه الفصول المرتبطة بالإسلام والحداثة والتقليد (استحداث التقاليد، أسلمة الحداثة، تسامي الحداثة وتصريف التقاليد، تحديث الإسلام، والإسلام بين الاقتداء والتقليد). ولما كان الكاتب هو الدكتور حسن أوريد، أستاذ العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس، صاحب الكتابات الوازنة والحاصل على جائزة بوشكين للآداب والفكر سنة 2015، كما نشره في الصفحة الأخيرة من هذه الطبعة من الكتاب، كان يوحي بأن المعالجة ستنصب أكاديميا على قضايا الإسلام بين التقاليد والحداثة بصيغة فكرية ونظرية، وتتعرض للمفاهيم المذكورة، مع بعض الأمثلة من تاريخ وحالة الإسلام السياسي بالمغرب، بما فيه السلطة والقوى الدينية المتدافعة. أو هكذا استقبلتُ الكتاب وتصفحته من خلال عناوين فصوله. ولذلك كان تداولنا الأولي لاستضافة الكاتب وقراءة كتابه، يسير في إطار تكليف كل أستاذ متدخل بواحد من هذه العناوين. غير أنني فوجئت وأنا أبحر في فصوله بأنني أقرأ تقريرا ممتعا عن تاريخ المغرب الحديث وعلاقته بالإسلام السياسي، ولست أدري لماذا أحالتني قراءته إلى تقارير بعض الكتاب الفرنسيين الرواد المرتبطين بالحماية، عن الحالة الدينية والسياسية في المغرب، بنماذجهم المختارة، وموضوعيتهم الحادة غالبا، وتكنوقراطتيهم (إن جاز هذا التعبير) الصارمة، وصراحتهم الجارحة أحيانا. غلب على الكتاب الحديث عن الفاعلين السياسيين في المجال الديني، بما فيهم السلطة التي خصص لها الكاتب الفصلين الأول والرابع بما يقارب نصف الكتاب (44 في المائة من صفحات فصول الكتاب الخمسة)، جعل الأول لما أسماه استحداث التقاليد مع المغفور له الحسن الثاني في 36 صفحة، والفصل الرابع خصصه لتحديث الإسلام مع مشروع الملك محمد السادس الحداثي والديمقراطي في 22 صفحة (أي ما مجموعه 58 صفحة). هذا وقد كان حضور السلطة بارزا في الفصلين الثاني والثالث كذلك، ( يضمان معا 50 صفحة)، رغم أنهما يتحدثان عن تجربة كل من جماعة العدل والإحسان وحزب العدالة والتنمية، في ما أسماه، نقلا عن عبد السلام ياسين ب"أسلمة الحداثة" بالنسبة للأولى، وسماه ب "تسامي الحداثة وتصريف التقاليد" بالنسبة للثانية. وهو يعني أن الكتاب كان يتحدث بصفة أساسية عن التجربة المغربية في تدبير الشأن الديني، ومشروعها الديمقراطي الحداثي وربما يقدم المشروع باعتباره السقف الذي وصله "تحديث الإسلام"، والذي يمكن اتخاذه نموذجا للتحديث بالنسبة لمجموعة من الدول سواء في البلاد الأوربية أو البلاد جنوب الصحراء. ثم خصص الكاتب الفصل الخامس (24 صفحة) للحديث عن تاريخ السلفية أو السلفيات وخصوصا في المغرب. وهنا أجدني أستعير من الكاتب قوله في المقدمة العربية: "ليست النخبة هي الفاعلين السياسيين وحدهم، بل من يصدرون من رؤية فكرية كذلك، فالسياسي ينطلق من الممكن ويتحرك وفق ساحة محدودة، أما المثقف فهو يرنو نحن المأمول، ولا تحده موانع، ولا يخضع لتوافقات، ولا يرضخ لتسويات.." لكن الكتاب كان يتحدث عن الفاعلين السياسيين وحدهم، وعلى رأسهم السلطة وما يتبعها من مؤسسات الدولة المؤطرة للشأن الديني، ومشروعها الحداثي الديموقراطي، ويتحدث عن جماعة العدل والإحسان ومؤسسه عبد السلام وابنته، وعن حزب العدالة والتنمية وتاريخه ومحاولته اليائسة في الجمع بين الحداثة التي لا يمتلك ناصيتها والتقليد الذي ليس من أهله، والذي أوكله لجناحه الدعوي وعلمائه، ثم عن السلفيات بدءا من سلفية الرعيل الأول في المشرق والمغرب والتي كان له مفهوم حداثي، وإلى السلفيات المنحرفة بما فيها التقليدية والجهادية والتكفيرية ثم داعش. ويحق لي أن أتساءل أين هي النخبة المثقفة التي تحدث عنها الكاتب في مشروعه، وخصوصا أولئك الذين يصارعون من أجل الحداثة، قولا أو فعلا. ومنهم كاتبنا؟ وأستعير منه قوله: "هناك حاجة ماسة لعمل حول سوسيولوجية الإسلام على غرار العمل الذي قام به ماكس فيبر في "الأخلاق البروتستانية". وأتساءل معه عن هذه الحاجة ومن سيقوم بها؛ ولعل هذه المادة الغنية الموجودة في هذا الكتاب هي لبنة في الموضوع. لكن سؤالي النقدي هو : أين هو حسن أوريد باستثناء تمثيله للدولة في الحوار مع جماعة العدل والإحسان من أجل رفع الإقامة الجبرية عن عبد السلام ياسين؟ أم أنه غير معني بإشكالية الإسلام والحداثة والتقليد وهو الذي إنما أبرزته "حداثته"؟ وأين هم العديد من المثقفين والمفكرين والكتاب والأساتذة الجامعيين الذين لهم فكرة ورأي؟ وأين هي الجامعة بما يصطخب فيها من صراع الحداثة والتقليد، مع الإسلام وضده؛ وفي كليات الآداب بالذات ومنها هذه الكلية التي تحتضن نشاطنا، ونعيش فيها كل يوم معركة تحديث الإسلام أكاديميا وفكريا ومفاهيميا، بعيدا عن المكاسب الحزبية والمناصب السياسية؟ أين في مشروع التحديث الحداثي والديمقراطي موقع المثقف الحر الناقد النزيه غير المنتمي إلى أي من التيارات السياسية الدينية الموجودة؟ والتي تتدافع من أجل الحفاظ أو الحصول على نصيب من كعكعة السياسة والمجتمع؟ أين المثقف والطالب والأستاذ الذي يرنو نحو المأمول، ولا تحده موانع ولا يخضع لتوافقات ولا يرضخ لتسويات، وسط تدافعات السياسين في مشاريعهم التحديثية للدين سواء كانوا من السلطة وأعوانها أو من التيارات السياسية المستعملة للخطاب الديني ومؤسساتهم وأتباعهم؟ أين مختلف مؤسسات الدولة المدنية وعلى رأسها التعليم العالي والثقافة والإعلام في كل هذا؟ هل ينبغي للجامعة وأساتذتها وطلبتها أن تنخرط في مشروع ديني "إنساني" تقوده وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ومندوبياتها ومجالسها العلمية، التي إنما يأخذ أعضاؤها شواهدهم العليا من الجامعة ذاتها؟ هل ينبغي لها أن تخضع للصور النمطية المحفوظة للدين السياسي الذي يكرس الواقع الأليم، ويخشى أن يتململ عنه قيد أنملة، حتى لا يفقد القائمون عليه أرزاقهم ومناصبهم التي هي أكبر همهم وهم على استعداد للموت دونها؟. أظن أن العنوان اللائق بالكتاب هو "تاريخ أو واقع الإسلام السياسي في العصر الحديث" وليس "الإسلام السياسي في الميزان" ونحن ننتظر هذا الميزان الذي سيقيمه الأستاذ الفاضل لتقييم هذا الإسلام ونقده. والسلام عليكم ورحمة الله. * ألقي هذا العرض في النشاط العلمي الذي نظمته كلية الآداب بنمسيك يوم 9/3/2017 بحضور الدكتور حسن أوريد.