لا تخرج سينما المخرج الياباني هيروكازو كُوريدا عن أفلامه السابقة، حيث تحضر العائلة والذاكرة والموت، كما في فيلمه الأخير "بعد العاصفة" (117 دقيقة/ 2016)؛ وهو الفيلم الثاني عشر في سلسلة أفلام المخرج. تحضر هذه التيمات الأساسية مع تغيرات في البناء الفيلمي والرؤية الإخراجية. لهذا، يقر المخرج، منذ البداية، بأن "إخراج الأفلام الوثائقية ساعدني على تكوين شخصيتي الإنسانية والسينمائية». يعيش الكاتب روتا (ryota)، الذي أدى دوره الممثل هيروشي أبي (Hiroshi Abe )، منغمسا في ماضيه وبنشوة الاحتفاء بنيله لجائزة أدبية رفيعة بقيمة مالية كبيرة. بعد طلاقه، يصرف كل الأموال التي كسبها ويشتغل كمحقق خاص، ولم يعد باستطاعته دفع النفقة الخاصة لابنه؛ لكن بعد وفاة والده، حاول الحفاظ على توازن علاقته بأسرته، خصوصا ابنه ووالدته. وبمباغتة إعصار غير متوقع، يلزم الأسرة بكاملها بمن فيها الزوجة المطلقة بقضاء ليلة مع الجدة حيث منحتهم فرصة للتلاقي والتواصل من جديد. يمزج المخرج في النصف الأول من الفيلم السخرية بشكل جيد مع الحزن، مع تقديم جيد لشخصيات الفيلم، لنصل إلى الفصل الثاني لتزداد الكثافة الدرامية، ولنصل إلى النهاية الرائعة في الفيلم. في الفيلم، تشعر بأصالة سينمائية بعيدا عن التأثيرات السينمائية الأمريكية التي تخلق الدهشة، وتعلي من درجة الانبهار. في مدرسة هيروكازو كُوريدا سينما الحفاظ على المشاعر الإنسانية والعلاقات الاجتماعية وعلاقة الإنسان الحميمية بالمكان؛ فالتيمات التي يعالجها المخرج قريبة من الواقع اليومي للإنسان الياباني ومن الأسر اليابانية بحس واقعي. للمخرج قدرة كبيرة في اقناع ممثلين عملوا معه في مشاريعه السابقة، ليجسدوا معه في هذا الفيلم أدورا ثانوية يتعلق الأمر بالأب الممتع بالممثل ليلي فرانكي الذي جسد البطل في فيلم "ذاك الابن من ذاك الابن"، حيث أدى في فيلم "بعد العاصفة " دور مدير وكالة المباحث. نجد الشخصية الرئيسية في الفيلم "الطفل شانغو"، الذي تلتقي حوله كل محاور الفيلم وهو الضحية لعلاقات الانفصام والطلاق الأسري.. في الفيلم، قدرة كبيرة لتعامل المخرج مع هذا "الطفل شانغو" من أداء طايو يوشي زاوا، بالتوجيه وبالحصول على أداء طبيعي منساب وبالاعتماد عليه في دور بطولة الفيلم ككل، كما الشأن في فيلم "أختنا الصغرى" 2015 الذي تؤدي فيه طفلة دور البطولة وهي لأول مرة تدخل غمار التمثيل. ويبقى النجاح الكبير الذي حققه الفيلم على مستوى التمثيل يكمن في الحكي من خلال شخصية مهمة دون أن يتعدى حضورها دقائق معدودة، ويتعلق الأمر بالممثلة المخضرمة كلين كيكي (Kilin Kiki) التي أدت دور يوشيكو (دور جدة الطفل ووالدة الكاتب) والتي اشتغلت مع المخرج في أعمال أخرى وأدت دورا ثانويا في في فيلم "محل حلويات طوكيو" (2015) أدت فيه دور معلمة للحلويات لبطلة الفيلم، ونالت من خلال هذا الدور شهرة عالمية من خلال شخصية طوكوي (Tokue) السيدة العجوز التي تعلم بطلة الفيلم فن إتقان الحلويات. في سن ال73 عاما الممثلة كلين كيكي وبخمسين عاما من العمل الفني والاشتغال في السينما على الصعيد العالمي بأدائها لشخصية امرأة مسنة بالكثير من السخرية خلفها قصة حميمية ممتعة. في سينما المخرج الياباني هناك حوارات صريحة حينما يحاصر أبطال الفيلم؛ ولكن الميزة الأساسية في الفيلم تكمن في أن الشخصيات لا تتحدث بطريقة مباشرة بل المشاهد يذهب إلى اكتشاف وتخيل مشاعر الشخصيات. في النصف الثاني من الفيلم وبطريقة صادقة، يناضل أبطال الفيلم لتحقيق أهدافهم محاصرين في بيت الجدة في انتظار أن تمر العاصفة بسلام. في ما يشبه التكريم، قام المخرج بتصوير الفيلم في المجمع السكني بحي كيوسي بطوكيو الذي عاش فيه المخرج حينما كان عمره بين ثماني سنوات و29 عاما... تجمع سكان وجيران الحي لمتابعة أعمال تصوير الفيلم وتهنئة المخرج على الالتفاتة الكبيرة التي تحمل الكثير من معاني النبل والنضج الإنساني. الميزة العامة لسينما المخرج الياباني هيروكاز كُوريدا، بالإضافة إلى اختيار الممثلين وقصة الفيلم التي يكتبها المخرج بنفسه هو طريقة التصوير... يضع المخرج الكاميرا ثابتة في كثير من مشاهد الفيلم حتى لا يشتت انتباه المشاهدين في إنصاتهم لحوارات الفيلم. وفي مستوى آخر، تظهر لقطات عامة حينما يخرج أبطال الفيلم وهم يمشون ويتحدثون أو في مشاهد إخراج الكلب أو مشاهد ملعب البيسبول. على المستوى التقني، تختلف زوايا التقاط التصوير حسب الحاجة النفسية للمشاهد؛ فالكاميرا تنسل ببطء بين جلسة وصراخ وبكاء وضحك شخصيات الفيلم، ويركز المخرج على نظرة وإيماءات الشخصيات دون أن يركز على أعينهن. موسيقى الفيلم من تأليف تاكاشي ناغازامي (Takashi Nagazumi) بأصوات كلاسيكية لا تبتعد عن قصة الفيلم؛ ولكنها تصاحبها تماما والتي تكثف في مشاهد الفيلم المؤثرة، خصوصا في الجزء الأخير من الفيلم، حيث يعيشون في سعادة كبرى بطل الفيلم ريوتا في عمله صحبة مدير المباحث سوسوكي. فيلم "بعد العاصفة" من الأفلام الجميلة في السنوات الأخيرة، باستثناء بعض المشاهد البطيئة في الفيلم التي تقترح حالة من الضحك والوضعيات ذات الحالات العاطفية الحساسة والقوية. كما يمكن أن نتحدث عن أخت بطل الفيلم التي ظهرت في نهاية الفيلم، ولم تكن مقنعة بشكل عام وشوشت كثيرا على البناء الدرامي للفيلم. يعدّ المخرج هيروكازو كُوريدا (من مواليد 6 يونيو 1961 بطوكيو) من أهم المخرجين في السينما العالمية المعاصرة، ببصمته ورؤيته الإخراجية. تناقش أفلامه العائلة والموت والذاكرة. كانت رغبته الكبيرة أن يصبح روائيا، وأسعفته الأيام والرغبة والعمل في أن يصبح قاصا ومخرجا بعد إخراجه لسلسلة طويلة من الأفلام الروائية «ساعدني إخراج الأفلام الوثائقية كشخص وسينمائي». اشتغل لمدة بالتلفزيون ونهل من تقنياته، لينتقل إلى إخراج الأفلام الروائية الطويلة؛ بدءا بفيلم «مابوروسي» (1995)، «مسافة» (2001)، «لا أحد يعرف «(2004) والذي يتحدث عن براءة الطفولة وضياعها، وفيلم «هانا» (2006). ويحكي هذا الفيلم الأخير عن انتقام الساموراي خلال القرن الثامن عشر؛ ولكن الفيلم الذي منحه شهرة ومكانة عالمية والذي اعتبر من أفضل أفلامه السينمائية حسب النقاد، فهو «بعد الحياة» (2008). في السنة نفسها، أخرج فيلم «أمشي»، ثم فيلم «ُدمية الهواء»(2009)، بنبرة أخرى وتجربة حياتية عن منح الحياة لدمية وعلاقة غرامية تجمعها مع شاب ورغبتها الأكيدة في أن تنتقل من دمية إلى إنسانة، بعدها فيلم «أتمنى» أو «المعجزة» (2011)، وفيلم «كيسيكي» (2011) الذي يحكي عن قصة أخوين يفرق بينهما طلاق والديهما. لكن سنة 2013 كانت سنة التتويج بالنسبة إلى المخرج بفيلمه الشهير «ذاك الابن من ذاك الأب» الذي حاز على حائزة التحكيم في مهرجان «كان» السينمائي وشارك به في العديد من المهرجانات الدولية. يمكن إبداء ملاحظة أساسية عن تشابه الثيمات بين فيلم "أختنا الصغرى" 2015 وفيلم "كيسيكي" وفيلم "بعد العاصفة"؛ فكلا هذه الأفلام تتناول موضوع العائلة والطلاق والعلاقة بين الإخوة والأخوات والتشنجات والتعقيدات العائلية. في أفلام هذا المخرج الياباني نكتشف، من خلال شخصياته، بانوراما السينما الحالية وذاك الوعد الإنساني الذي يُلهِم أبطاله، يعلق المخرج بالقول: «قبل أن أبلغ الأربعين من العمر، أخرجت العديد من الأفلام الوثائقية.. الآن، فقط أنظر حولي وبقربي ترسو أفلامي في مناطق صغيرة جداً، فقط حيث يمكنني أن أضع قدمي». يمثل المخرج مدرسة قائمة بذاتها في الإخراج السينمائي بين التحكم في إدارة الممثل بشكل جيد وزوايا التصوير الدقيقة وانفلات الكاميرا التي تشهد على ما يقع من أحداث. يحاول المخرج، في نهاية الفيلم، أن يشتغل البطل؛ بالرغم من كونه كاتبا ومحققا خاصا، وأن يعيد علاقته بزوجته السابقة ويستطيع أن يعيد بناء علاقته بابنه وزيارته كل شهر وكذلك علاقته بوالدته. تعود فكرة ومفهوم الفيلم إلى سنة 2001: "بعد وفاة والدي، قررت والدتي أن تعيش في مجمع سكني لوحدها" يشرح المخرج، الذي يضيف: "حينما ذهبت لزيارتها للاحتفال بالعام الجديد، فكرت في أحد الأيام إنجاز قصة عن هذا المجمع السكني.. وأول ما تبادر إلى ذهني مشهد شخص يمشي ما بين المباني محاطا بأزهار رائعة بعد مرور الإعصار... وحينما كنت طفلا كنت آخذ من فروع هذه الأشجار الساقطة وأنا ذاهب إلى المدرسة.. ما زلت أذكر جمال هذه العشبة بعد العاصفة".. لا شيء يوقف الحياة... بعد العاصفة وبعد الإعصار المدمر وبعد الأزمات، هناك عزيمة الإنسان التي تتخطى هذه المطبات والعوائق. يذكرني الفيلم بمقولة جميلة لماكسيم غوركي: "يستطيعون قطف الزهور؛ لكنهم لا يستطيعون وقف زحف الربيع".