لازالت أزمة المشهد السياسي المغربي وتطوراته، تثير مزيدا من الجدل الفكري والثقافي المستمر، لاسيما بعد التعقيد الشديد وحالة ″البلوكاج″ الذي آلت إليه مشاورات الحكومة، وحال دون تشكيلها. وقد باتت أعاطب السياسة والسياسيين اليوم، تسيل الكثير من المداد، وتفتح شهية المهتمين في تفكيك عناصر الخطاب ″الشعبوي″، وفي الكشف عن خلفيات وادعاءات مروجي أطروحة ″التمرين الديمقراطي″، وما يترتب عنهما من صناعة للرأي العام وتوجيه للكتلة الناخبة. إن تحليل تناقضات النخب المغربية، ودراسة تفاعلها مع محيطها، يمكن من الوقوف على مسببات التغيير في مواقفها تجاه المجال الذي تدركه، وتتحرك فيه، وفي سلوكياتها السياسية ، وكيف تتكيف أفقيا وعموديا من خلال فعلها في ظل تنظيمات سياسية مترهلة، وواقع مؤسساتي يعاني من هيكلة بيروقراطية على الرغم من تميزه، بخصائص ومرتكزات موضوعية، كمتانة الترسانة والقواعد القانونية، الضمانة لاستمرارية مؤسسات الدولة قي القيام بوظائفها على شاكلة كوكبة ″Galaxie″تسير باتجاه غايات محددة سلفا من حيث الزمان والمكان، حتى وإن غابت الحكومات، أو تعطل عمل مجلس النواب. وانطلاقا من زاوية التعاطي مع سيكولوجيا السياسة، ووقوفا عند تفاعلات الصيرورة النفسية للفاعل الحزبي مع الصيرورة السياسية، نعرض في الورقة التالية لبعض تمظهرات الأزمة السياسية في المغرب، في محاولة لفهم دور التفاعل النفسي بين النخب والقيادات السياسية، وتأثير سلوكياتهم على الأفراد والتنظيمات، وانعكاسه على المجتمع، وعلى ألأهداف التي انتدبت نفسها من أجل تحقيقها. وبالتركيز على المقاربة السيكولوجيا للفعل السياسي، والرامية إلى وصف، وتفسير سلوكيات الفرد كفاعل أساسي، رغبة في فهم دلالات خطاباته، ومدى انسجامه، وتوافقه النفسي مع الممارسات السياسية اليومية (كجاهزيته لإعمال الديمقراطية الداخلية، ومدى توافقه مع بيئته السياسية، وما قابليته لتطوير عادات سلوكية سياسية جديدة، وما علاقة شخصيته بالسياسية، وما أسباب التنافر المعرفي، والتناقض بين الخطاب والممارسة، والخلط في تمثل الزعامة الكريزماتية والتطلع إلى السلطة، وعدم التفريق بين السلطة وغنائمها، وحاجة المجتمع إلى المكاسب السياسية.)، نتمكن من فهم سيكولوجيا الجماعات السياسية، و طبيعة العلاقة التي تربط بين مكوناتها، وكيف يتفاعل قيادييها مع محيطهم السياسي، وأن الاشتغال عليها كأشياء وحقائق، يمكننا من ربط النتائج بالوقائع السياسية، والأسباب وبالمسببات. وفي هذا الإطار، نعرض بالوصف والتحليل، لنموذجين من أنشطة حزبية تجسد الفعل السياسي البراغماتي، رغبة في قياس مدى تأثير خطابات وسلوكيات القياديين السياسيين على نتائج تنظيماتهم الحزبية وعلى وأدائها السياسي. فما طبيعة خطاب القادة السياسيين؟ وما تأثير سماتهم الشخصية على صيرورة التنظيمات الحزبية في المشهد السياسي المغربي؟ وما الاستراتيجيات المعتمدة لتسويق أطروحاتهم السياسية ؟ في علم النروسيكولوجيا، عندما تقترن الرغبة والإرادة بالصور الذهنية، تتفوق الصور الذهنية على العزائم وتتحكم في الأفعال، فتكون سلوكيات الإنسان نتيجة حتمية لما بتمثله، ويدركه من معاني الصور، وكأنه ينظر إليها حقيقة. وبتحليل العديد من الخطابات السياسية، نستطيع استخلاص الكثير من الاستنتاجات حول أبرز التمثلاث الذهنية للقادة السياسيين، والمرتبطة أساسا بالرغبة في تحقيق التمثيلية السياسية في المجالس الجماعية والبرلمان والحكومة. دور الشخصية الكريزماتية للقادة السياسين في تطوير التنظيمات الحزبية وتغيير مواقفها السياسية وبقدر ما يتمسك قائد أو زعيم سياسي بتصريحات متفائلة مرتكزا في فعله على الاعتقاد والتفكير الإيجابي بطبيعة المسار السياسي، والذي قد يأخذ مدة طويلة، وعلى قوة الخطاب كآلية وكمهارة للتواصل، غايته صناعة صور ذهنية ″لمستقبل وردي″ (يتمثله المتلقي الحزبي بالنظر في ما أدركه من معاني، ودلالات صوتية، وحسية، تشعره بالارتياح، والقبول بمضامين وبرامج سياسية تنسجم مع وضعه الاجتماعي المريح، وتحفزه على الانخراط في مناصرة برامج ووعود القيادات الحزبية بتحسين وضعه الاجتماعي)، بقدر ما تمكن من استمالة جمهوره، وتعزيز فرصه في الفوز بصدارة المرشحين، والرفع من أسهمه في بورصة السياسيين، حتى لو كان رصيده النضالي هزيلا أو مليئا بالتناقضات. ويمكن اعتبار نشاط أمين عام حزب التقدم والاشتراكية نبيل بن عبد الله نموذجا لفعل سياسي متناقض حقق من النجاح ما يجعل المتتبع يتساءل عن السر في ذلك، كونه تمكن من إيجاد موقع قدم لنفسه في المشهد السياسي المغربي، لاسميا بعد تحالفه الحكومي مع حزب العدالة والتنمية، وذلك بالتركيز في خطابه على زرع الأمل للتأثير في وجدان أعضاء حزبه، و ترسيخ صور ذهنية جديدة ترتكز على تغيير تصورات، ورؤى اشتراكية قديمة لنخب مثقفة كمتلقين، والانتقال بوعيهم من مرحلة أولى ساد فيها التأثر بالمد الاشتراكي والماركسية اللينينية والعلمية إلى الحلم بعد أفول المعسكر الشرقي بدولة تنسجم مع شرعية المواثيق الدولية والانحياز إليها، وصولا إلى إقناع أعضاء رفاقه بضرورة التأسيس لمرحلة جديدة تقتضي التحالف مع حزب أخر يناقضه من حيث المرجعية والإيديولوجية، وتسوتجب المشاركة في حكومة يقودها حزب إسلامي، إسرار من قياداته وتأكيدا منهم على قدرة الحزب اليساري على التكيف مع البيئة السياسية انطلاقا من تمثلات، وتصورات ذهنية لا تتماشى بالضرورة مع الصيرورة الذهنية للمجتمع المغربي المسلم المحافظ والتقليداني. في المقابل، وسيرا على نفس خطى نبيل بن عبد الله، وانطلاقا من تمثلاث وتصورات ذهنية مرتبطة بالتاريخ الديني والسياسي للأمة الإسلامية، بما تمثله من قيم روحية، وتشريعات سياسية، تجعل المسلم يستشعر الراحة النفسية، ويتقوى لديه روح الانتماء الحضاري، وإعمالا لأساليبه التواصلية وكريزماته الشخصية المثيرة للجدل، والتي يوظفها كمهارات للتأثير في وجدان المتلقي، وفي فعله السياسي، حقق عبد الإله بنكيران أمين عزب العدالة والتنمية نجاحا ملفتا للنظر مرتكزا في خطابه على التعبير عن الإحساس بالمظلومية، كمرتكز يقوم على ثلاثة دعامات سلوكية أساسية تبرر فعله السياسي: - أولا: الاستمرارية، من خلال التدرج في دعوته إلى أسلمة الدولة، والتمكين لأطروحته السياسية والتنظيمية التي عمل جاهدا على التقعيد لها دعويا، وثقافيا، وسياسيا، منذ مغادرته للشبيبة الإسلامية في السبعينيات إلى احتلال حزبه لصدارة المشهد السياسي بأكبر تمثيلية في البرلمان، عقب الفوز بانتخابات 7 أكتوبر). - تانيا: الشخصنة، بانتقاله من مرحلة المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية إلى مرحلة أخرى يرتكز فيها خطابه على التعبير عن مشاعر الإحباط ″ المظلومية″ تجاه علمنة الدولة في عهد الراحل الحسن الثاني، وتجاه التحكم وصنيعته من الأحزاب الإدارية لاحقا. - ثالثا: التعميم والشعبوية، وذلك من خلال زرعه الأمل في نفوس أعضاء حزبه خلال التجمعات الخطابية والتصريحات الإعلامية، وذلك بالتركيز على طمأنة المؤسسة الملكية، وفئات واسعة من الشعب، بكون المغرب يتغلب على الصعوبات، ويحقق الانتصارات، كلما التحم الشعب بالملك، وكلما غلب منطق المصلحة العليا للوطن، متناسيا التركيز في خطابه على أهمية القيام بمهامه الدستورية من خلال تطوير مشاريع مجتمعية، والعمل على تطوير حصيلة برامجه السياسية الرامية إلى النهوض بأوضاع المغاربة، وإيجاد حلول حقيقية لإشكالاتهم التنموية في المجالات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية. استراتيجيات التسويق السياسي بين عقلانية الحوار والخطاب الفرجوي شكل احتلال القادة السياسيين للفضاء الإعلامي مختبرا حقيقيا، كونه يوفر للأخصائيين عناصر مهمة لدراسة التفاعلات النفسية للفاعل السياسي مع محيطه، ومنهم ذهب أبعد من ذلك، واعتبر الحوارات التلفزية بمثابة حلبة، وليست فضاء لإبداء الرأي وتدبير الاختلاف، وأن الغابة من المشاركة فيها هو إثارة الجدل السياسي الرامي إلى هزم الخصوم وليس المراهنة على مقارعة الأفكار بالأفكار، والحوار حول الاختلاف بين البرامج والأطروحات السياسية والاجتماعية. وهو ما نلاحظه من خلال توظيف القادة السياسيين لقاموس لغوي جديد كظاهرة كلامية تتميز بتصريحات وخطابات فيها من الشدة والغلظة ما يوحي بالهجوم على الأخر وممارسة مختلف أشكال العنف اللفظي عليه ( الشخصنة، التشهير، الضرب من تحت الحزام، تقطار الشمع على الأخر، الادعاء ،الاتهام، المظلومية، التخويف، التحكم، التخوين...الخ)، والرامي إلى ثني الخصم السياسي، والدفع به نحور العدول عن أفكاره، أو في أقل الأحول التواري إلى الوراء، والقبول بالانسحاب مما توفره وسائل الإعلام من مساحات للتصريحات والخطابة كآلية فعالة في التأثير، ولها أهميتها في صناعة الرأي العام، وهكذا تغيب العقلانية الضمنية للحوار ″الكلاسيكي″، وتتيه في ثنايا الخطاب الفرجوي. وبإمعان النظر في الأثر الذي تخلفه تصريحاته الإعلامية عبر الأثير من داخل البرلمان، وشرائط الفيديو على اليوتوب ، يتضح تفوق عبد الإله بنكيران في استمالة فئات واسعة من الشعب، وما يبرر تمكنه من هزم خصومه في المحطة التشريعية ل 7 من أكتوبر، إلا أن استعماله المفرط لهذه الإستراتجية جر عليه غضب نخب نافدة في أجهزة الدولة، ومن صانعي القرار من الخبراء، والمختصين، والفاعلين الاجتماعيين، والاقتصاديين، فضلا عن خصومه السياسيين. وبتحليل الظروف البلوكاج الحكومي الناتج عن غياب عقلانية الحوار وتدبير الاختلاف إبان الولاية الحكومية السابقة، ولاسيما بعد اختيار الرئيس المكلف بتشكيلها إلى أن آثر على نفسه الانسحاب الرمزي بالإمساك عن الكلام والتعبير عن ذلك صراحة من خلال لفظته الشهيرة ″انتهى الكلام″، يتضح مرة أخرى نهج عبد الإله بنكيران لأسلوب السلطة الرمزية المتمثلة في الصمت، والتي ينظر إليها في علم سيكولوجيا السياسة كاستراحة مخاطب ››متخم بالسلطة ‹‹ و الرامية إلى استكمال، وتوفير المزيد من المبررارت الكفيلة بإشهاد الرأي العام، وإقامة الحجة على المخالفين والمتحكمين الفعليين في المشهد السياسي، وفي نفس الوقت الحفاظ على مركزيته كرئيس مكلف بتشكيل الحكومة. نستخلص مما سبق ذكره أن السياسة هي فن الممكن، وأن التفكير في حلول جذرية لأزمة المشهد السياسي بالمغرب، تقتضي من السياسيين بجميع أطيافهم الالتزام بمقاربة السياسية من زوايا أخرى تقترحها العلوم الإنسانية كعلم النفس السياسي والاجتماعي، وأنه إذا كانت السياسة وليدة للفلسفة، فإن الحكمة كفعل فلسفي تقتضي من الفاعلين السياسيين إعمال العقل في التفكير، والتحليل، والحوار، والمقارنة بعيدا عن لغة التعصب للرأي وأساليب الإقصاء، وإصدار الأحكام، والتعميم.