فرزُ النّفوس كفرزِ الصّخور** ففيها النّفيس وفيها الحجر أبو العتاهية. وكأن أبا العتاهية يصف شخصية الفقيد سي عبد اللطيف حسني، شخصية أفرزتها محن النضال وملازمة الرجال، محن ورجال صنعت من الصخور نفيسا نذز حياته لقضية الوطن ووجع الوطن وهموم الوطن، وطن سكن جوارح وفؤاد وضمير رجل مثل الراحل سي عبد اللطيف لما هاجر الوطن عديمي الإحساس وتجار المناصب والمكاسب. تعرفت على الفقيد قبل قرابة ربع قرن، وشد انتباهي شخصيته المرحة وحياء يخفي خجله وضحكته الطفولية وأسلوبه الساخر، ومما زاد إعجابي بشخصه مواقفه السياسية ووضوحه الفكري وتحليله العميق للنظام السياسي ونخبته وأحزابه ونسقه وتاريخه، وكان تعارفنا قد تم عن طريق شخصية وطنية فذة لعبت دورا كبيرا في المسار السياسي والفكري للفقيد وللكثير من أبناء جيلي، هو الراحل مولاي عبد الله إبراهيم، رئيس أول وآخر حكومة وطنية. كنت طالبا بسلك الدراسات المعمقة بكلية العلوم القانونية بجامعة محمد الخامس أكدال، بين عامي 19951997، مع مجموعة من الشباب، فرقت بينهم فيما بعد دروب الحياة وجاذبية المواقع وحرقة المواقف، كنت أكبرهم بسنوات وكنت موظفا بوزارة الخارجية وقتها، وكان الراحل مولاي عبد الله يدرسنا مقرر تاريخ الدبلوماسية المغربية، وكنا نفتح معه دائما نقاشات واسعة حول قضايا الوطن والتاريخ السياسي المغربي وتجربته في مقاومة الاحتلال الفرنسي وتوقيعه على عريضة المطالب المستعجلة لعام 1936، وكان رحمه الله أصغر الموقعين على العريضة (14 سنة)، وصراع مراكز النفوذ بعد استقلال "إيكس ليبان" بين الحسن الثاني، ولي العهد يومئذ، وبعض الشخصيات الوطنية التي استعصت على دخول بيت الطاعة، وكان مولاي عبد الله واحدا من بينها، نقاشات طالت فترة تأسيس الحركة الوطنية وحزب الاستقلال فيما بعد، ثم تجربة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وعلاقته المتوترة بولي العهد وقتئذ، خاصة لما اقترح السلطان محمد الخامس على مولاي عبد الله رئاسة الحكومة، 19581960، وتحفظ في البداية لقناعته برفض ولي العهد لهذه التجرية الوطنية وبعض الانتهازيين في صفوف اليسار وحزب الاستقلال وبعض رموز الحركة الوطنية الذين استمالهم جاذبية المال والنساء والمناصب. ليس غريبا، كما صرح بذلك الراحل مولاي عبد الله، أن يقع حدثان بارزان خلال ترؤسه للحكومة، الأول حادث الريف المؤلم والدامي عام 1959 بقيادة ولي العهد والجنرال الدموي أوفقير، والثاني حجز ضيف رسمي في إحدى غرف فندق "باليما" بالرباط، كان قد زار المغرب في شهر غشت 1959، على رأس وفد هام، بدعوة من حكومة مولاي عبد الله، على يد واحد من قيادات حزب الاستقلال، أول مدير عام الإدارة العامة للأمن الوطني محمد الغزاوي، بأمر من ولي العهد الحسن الثاني وتحريض من علال الفاسي، وذلك لإحراج وإهانة رئيس الحكومة مولاي عبد الله وقيادات الاتحاد الوطني للقوات الشعبية عموما، وكانت الشخصية العالمية هذه هو قائد "ثوار الغرييا" الزعيم البوليفي تشي غيفارا ممثلا لدولة كوبا، إلا أن الراحل مولاي عبد الله، وللرد على تصرف ولي العهد غير المسؤول وإعادة الاعتبار لضيفه، رافق تشي غيفارا والوفد المرافق له في موكب رسمي من الفندق إلى مقر إقامته بحي السويسي بالرباط، ثم فيما بعد من الرباط إلى الدارالبيضاء، لينتقل بعد ذلك إلى مدينة مراكش. لقد كان اللقاء الأول بين الرجلين، مولاي عبد الله إبراهيم وتشي غيفارا، قد عقد بمقر سفارتنا بالقاهرة في يناير 1958، بحضور السفير والسياسي عبد الخالق الطريس، لقاء طلبه غيفارا مع أمير جمهورية الريف، 19211926، المجاهد القائد مولاي امحند بن عبد الكريم الخطابي طيب الله ثراه. هذه هي المدرسة التي نهل منها الراحل سي عبد اللطيف دروس الوطنية والتحرر الوطني واستقلال القرار السياسي والثبات على المبادئ. انطلاقا من هذه المدرسة الوطنية، أصبح للراحل سي عبد اللطيف وجهة ونظر. لقد تطور النقاش السياسي بيننا وبين الراحل مولاي عبد الله، على هامش محاضراته بالكلية، فأجرينا لقاء بمقر الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بالرباط مع الراحل سي عبد اللطيف لبحث سبل النهوض من جديد بحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بدماء شابة وطرح جديد، ومما استوقفنا للتأمل، وأكده الراحل مولاي عبد الله في لقاء ودي وشيق دعانا إليه في بيته الكريم بالدارالبيضاء عام 1997، إذ غمرنا شعور رائع ونحن في بيت واحد من رجالات الدولة الوطنيين ورئيس حكومة طبعت قراراته السياسية تاريخ المغرب الحديث، أكد لنا بأن مشروعه وقناعاته الفكرية ليست بعيدة عن المشروع الإسلامي. لقد عشنا سنة جامعية سعيدة وثرية بالمعاني الإنسانية والفكرية والسياسة، جمعتنا بالراحلين مولاي عبد الله إبراهيم ورفيق دربه الحزبي والسياسي والفكري سي عبد اللطيف حسني. يمثل الراحل سي عبد اللطيف وجهة ونظر فريدين في الحقل الأكاديمي والعمل السياسي والممارسة الحزبية. فقد لامست فيه الأكاديمي الباحث الصارم في منهجية البحث العلمي، حتى تفرق من حوله ناس كثر، وذلك حين كان مشرفا على بحثي في سلك الدكتوراه بجامعة محمد الخامس، كلية العلوم القانونية، قبل أن يغادر الجامعة طوعيا، فكان لزاما علي أن أختار مشرفا جديدا، ووقفت حينها على مقاربته للقضايا السياسية والاجتماعية العميقة ومعرفته الحصيفة بالفقهه الدستوري والتاريخ الحديث، كما ظل انتماؤه السياسي خطا مستقيما على العهد وكأن الزمان السياسي المغربي توقف عند إسقاط حكومة مولاي عبد الله. كان سي عبد اللطيف رحمه الله يكرر دائما، وهو يعبر أيضا عن قناعة أستاذه وزعيم حزبه الوطني الراحل مولاي عبد الله، بأن اعتزال الأخير الحياة السياسية على خلفية اختلافه مع ولي العهد وقتئذ الحسن الثاني بشأن سياسات الحكومة التي ترأسها، وبشأن وجود ومصالح فرنسا في مغرب ما بعد الاستقلال التفاوضي، عسكريا وثقافيا واقتصاديا وإداريا، كان بمثابة نهاية السياسة، بل وموتها، لأن الحسن الثاني كان لا يؤمن بالشراكة في تدبير شؤون الدولة ولا في تحمل المسؤولية ولا بالديمقراطية الحقة ودستور تصيغه هيئة مستقلة منتخبة أو بمشروعية صناديق الاقتراع وشرعية المنتخبين المستمدة من إرادة الناخبين، ولأن أغلب الأحزاب أيضا خضعت، رهبة ورغبة، لإرادة الحسن الثاني ومزاجيته ونزواته. ورث الراحل سي عبد اللطيف عن الأستاذ مولاي عبد الله دماثة الخلق والزهد في المناصب وغنى النفس، فكان له في هذا الشأن وجهة ونظر قل نظيرها في النخبة السياسية والفكرية، خاصة اليسارية. لقد كانت مجلة "وجهة نظر" خير تعبير عن شخصية الراحل سي عبد اللطيف، فللرجل وجهة لم يحد عنها رغم الشكوك والسقوط الذي عرفه رفاق الدرب والطرح لحد الانسلاخ والتنكر لنضال شهداء الوطن ورفاق الطريق والقضية. لم يكن الراحل سي عبد اللطيف عدميا ولا طوباويا حول مسألة الإصلاح والتغيير السلمي لبنية السلطة وعقليتها، بل كان يؤمن، خلال سنوات النضال الفكري والسياسي، بأن العمل الجاد الصادق والوطني والتحيز للمستضعفين وقيام رجال الفكر المستنيرين بدورهم، من كل ألوان الطيف، قمين بإحداث ثغرة في جدار السلطة الرافضة للإصلاح وللخيار الديمقراطي الحقيقي، ولما برزت على الساحة شخصية سياسية إصلاحية من داخل بيت الحكم، الأمير هشام، كان من السباقين لدعم هذا التوجه كتابة وتأصيلا نظريا عبر مجلة "وجهة نظر"، ومن خلال ومنابر إعلامية وأكاديمية وحقوقية أخرى، وخلال مناسبات سياسية واجتماعية مفصلية، كان أبرز عناوينها حركة 20 فبراير 2011، التي انضم إليها الراحل وانخرط في صفوفها ونضالاتها وحراكها وكتب عن طموحات شبابها وآفاق هذه الهبة الشعبية غير المسبوقة، والتي انطلقت من خارج رحم الأحزاب وحساباتها الضيقة ومكائدها القائمة على معادلة الربح والخسارة من زاوية المناصب والمكاسب. إن وجهة نظر الراحل سي عبد اللطيف هي وجهة نظر كل مغربي يحلم بوطن للجميع، كريم عزيز ودافئ، وبدولة قوية راشدة وعاقلة فوق الجميع بعدلها وقوانينها ودستورها ومؤسساتها المنبثقة عن إرادة وإجماع الناس. هكذا تربى هذا الرجل في حضن واحد من أعلام الوطن والوطنية بأبعادها الثقافية والفكرية والحضارية، الراحل مولاي عبد الله إبراهيم طيب الله ثراهما، رجل عاش كما أراد ومات كما أراد بمشيئة الله. حكى لنا الراحل مولاي عبد الله إبراهيم، في حضور الراحل سي عبد اللطيف وثلة من الشباب الطلبة، للأسف تفقروا وباعدت بينهم دروب وإغراءات الحياة، أن السلطان محمد الخامس طلب منه يوما ما، بصفته وزيرا للخارجية إلى جانب رئاسة للحكومة، أن يعين شيخا من وجهاء قبائل الصحراء سفيرا للمغرب في إحدى الدول، فكان جوابه "حتى نتشاور مع سي المهدي"، يقصد المهدي بن بركة. هذه هي المدرسة التي تعلم فيها الراحل سي عبد اللطيف أصول وقواعد الحكم وأخلاق السياسة الوطنية والثبات على المبادئ. لقد ترك الراحل سي عبد اللطيف "وجهة نظر"، مجلة وموقفا، مارسه خلال مساره السياسي والفكري والنضالي، وهي وجهة نظر تحتاج منا جميعا اليوم، تكريما له، النهوض بها ودعمها وجعلها حاضنة للمشروع الذي آمن به ونؤمن به، مشروع تحرير الوطن وإعادة بناء الدولة المغربية، دولة تسع الجميع وتقف صفا واحدا وعلى مسافة واحدة أمام الجميع، وتلتزم بالثابت الذي شكل عبر 1400 سنة الهوية والشخصية المغربية، الإسلام. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يُبقِ عالما، اتخذ الناس رؤوسا جُهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا"، رواه البخاري. إن المناضلين والمفكرين والمصلحين الصادقين المحبين لدينهم ووطنهم، كما هم العلماء، ملح البلد وعماد الدين والوطن ورجال الدولة والسراج المنير لحركة التاريخ والاجتماع البشري، هؤلاء هم حاملو وناقلو القيم الدينية والحضارية وقيم العدل والخير بين الأجيال، فإذا قبض هؤلاء الأعلام، فإن شرا مستطيرا قد أوشك أن يفتك بأمة أو دولة أصابها الوهن والضياع، لذا وجب علينا اليوم أن نحيي ذكرى وإرث هؤلاء الرجال الكرام العظام، والفقيد سي عبد اللطيف واحد منهم، ونحيي موروثهم الفكري والمعرفي ومواقفهم الدينية والوطنية ونرعاها حق رعايتها لنسلمها للجيل الجديد، ذرية بعضها من بعض. *أستاذ باحث