يعتبر مبدأ الصوت الواحد للمواطن الواحد أكثر مبادئ النظام الديمقراطي تعبيراً عن المساواة، وأكثرها إثارة للجدل و النقاش، فبموجب هذا المبدأ تتحقق المساواة المطلقة بين عموم المواطنين المنتمين للبلد الواحد وعموم أعضاء المنظمات والهيئات الديمقراطية الخاضعين للقانون الأساسي المنظم الواحدن ولا يمكن هنا التمييز أو المفاضلة بين المواطنين أو الأعضاء إلا بشكل بعدي ولاحق للعملية الانتخابية الديمقراطية لا قبلها، أي أن صفة المواطنة في الوطن والعضوية في المنظمة أو الهيئة هي التي توحد الجميع وتساوي بين الجميع، فلا فرق مبدئياً بين العالم و الجاهل، وبين الرجل و المرأة وبين الغني والفقير , و بين المؤمن و الملحد , و بين الأسود و الأبيض... طالما أنهم يشتركون في صفة العضوية و الانتماء , لتأتي عملية الاقتراع و الانتخاب لتحدد بشكل لاحق المواقع والمهام و المسؤوليات انطلاقاً من مبدأ " المساواة " ذاك و بناء عليه . هذا ما أسسته المحاولات الأولى للتأصيل الفلسفي للحرية و المساواة كتجلي مجتمعي لحق فردي طبيعي , من طرف فلاسفة عصر الأنوار أمثال جون جاك روسو , جون لوك , و طوماس هوبز , عبر نحت مفهوم " الحق الطبيعي " و التنظير الافتراضي ل " حالة الطبيعة " التي نتج عنها " العقد الاجتماعي " المنظم لعلاقات الأفراد فيما بينهم و لعلاقاتهم مع من يحكمهم. هذه المساواة المطلقة أُسست على مبدأ الحرية المطلقة , فيما يشبه المقايضة و المساومة بين مجموعة من الأفراد الأحرار و المتساوين الذين اهتدوا بالعقل و المنطق و التجربة الى ضرورة عقد اتفاق جماعي و ملزم , بموجبه يتخلى الجميع عن بعض حقوقه و حرياته لصالح الجماعة , بشرط أن يتخلى الجميع على نفس القدر و يلتزم الجميع بنفس الدرجة من الالتزام . و لو أردنا تلخيص جوهر الديمقراطية - حكم الشعب - في مبادئ عامة لقلنا أن الديمقراطية تنبني على خمس مبادئ كبرى يتولد بعضها عن بعض , فالديمقراطية هي " حرية " و "مساواة" قبليِّين تولد عنهما اتفاق بمثابة " عقد اجتماعي " يضمن اعتراف الكل بالحرية و المساواة للكل على أُسس " عقلانية " لتحقيق " المصلحة " الجماعية. هذه المبادئ الخمس - الحرية , و المساواة ,والعقد الاجتماعي, والعقلانية ,والنفعية - بالإضافة الى آليات الحكم الديمقراطي كحكم الدستور والقانون , والفصل بين السُّلط , والعملية الانتخابية الشفافة والنزيهة المعبرة عن السيادة الشعبية والمانحة للشرعية ..., وإن كانت تضمن استمرار واستقرار النظام الديمقراطي وتؤسس لاستدامته على المستوى النظري , إلا أنها تخلق عددا لا حصر له من الإشكالات والالتباسات عند النظر إليها مطبقة وممارسة على المستوى العملي, ولعل أكثر ما يعبر عن هذه الالتباسات والإشكالات هي إشكالية العلاقة بين المساواة المبدئية والعدالة الاجتماعية, فالنظام الديمقراطي يضمن المساواة بين أفراده أمام الدولة والقانون والمؤسسات , كما يضمن المساواة في الولوج الى الخدمات والانتفاع من الفرص الاقتصادية والمالية الممكنة والمتاحة, إلا أن بريق ولمعان هذا النموذج الديمقراطي ومثاليته تلك السالبة للعقول والألباب , سرعان ما تخبو و تنطفئ بين مطرقة الإخلال بالعدالة الاجتماعية وسندان تكريس التفاوت واللامساواة الطبقية والفئوية, إذ تعمل الفئات المهيمنة والمسيطرة على الدولة والمجتمع على إعادة إنتاج ذاتها وتكريس سلطتها وهيمنتها معتمدة على الثروة الاقتصادية, والنفوذ السياسي, وقوة السلطة, وآليات الحكم والسيطرة المتمركزة في يدها، والتي لا تخالف بالضرورة نص القانون أو مبادئ الديمقراطية المتضمنة في الدستور. تعتمد الفئات المهيمنة على أساليب وآليات قانونية وشرعية تماماً لتكريس سلطتها وهيمنتها , وإعادة إنتاج ذاتها والحفاظ على مواقعها, حيث تتعدد هذه الأساليب والآليات وتتداخل فيما بينها لتعطي ذات النتيجة و لتحقق ذات الأهداف, وإن كان يمكن إجمال تلك الآليات و الأدوات في ستة محاور أساسية فرضتها ضرورة الفصل من أجل التفصيل و الفهم , لا كانعكاس لانفصال واقعي لمؤسسات مجتمعية , أطر تنظيمية , بنى ثقافية - أخلاقية و سلوكية – لا رابط بينها ولا تبادل للتأثر و التأثر فيما بينها , فإن تلك الوسائل و الأدوات هي بمثابة بنية مجتمعية , سياسية و اقتصادية , اعلامية و ثقافية , تاريخية و لغوية ... تشكل كُلاً مجتمعياً يحدد شروط الفاعلية الانسانية و يرسم أدوار و مهام الأفراد و الجماعات الخاضعين لها و الرازحين تحت سطوة قهرها وهيمنتها , فتحدد بذلك واقعهم الحالي وترسم أفقهم المستقبلي. التحكم في المؤسسات السيادية والسيطرة على قنوات التشريع القانوني و الدستوري تتحكم الفئات المحتكرة للاستفادة من خيرات البلاد والوطن بالمؤسسات السيادية عبر نسج شبكة معقدة من تبادل المصالح والمنافع بين رجال السياسة ورجال المال والأعمال, وإن كانت شبكة المصالح تلك تُنسج على أساس نهب وسلب المال العام وضمان استقرار واستمرار نظام الحكم في البلدان اللاديمقراطية, فإنها تُنسج وتتشكل على أسس شرعية وقانونية في البلدان الأكثر حداثة وديمقراطية, حيث تلعب وسائل الإعلام ومجموعات الضغط ( اللوبيات ) و تبرعات الحملات الانتخابية الدور الأساس في تحكم رجال المال والأعمال برجال السلطة والسياسة, وفي نفاذ هؤلاء إلى صلب المؤسسات السيادية, وفي تحكمهم في مسارات التشريع القانوني والدستوري لتصبح مصالحهم محمية بقوة القانون وامتيازاتهم شرعية بحكم الدستور. وللمفارقة تتحول العملية الانتخابية إلى نقيضها فبدل أن تكون أداة فعالة لضمان حقوق الناخبين عبر انتخابهم لممثليهم المعبرين عن همومهم وانشغالاتهم و المدافعين عن قضاياهم ومصالحهم - مع ما يواكب ذلك من إفراز سلطة تتمتع بالشرعية الديمقراطية وممثلة للسيادة الشعبية – تتحول الانتخابات إلى عملية إحصائية ذات طابع إعلامي واحتفالي, خالية من كل مضمون مفرغة من أي قدرة إصلاحية أو تغييرية. فجوهر الانتخابات هو الاختيار الحر للناخب بين أحزاب وبرامج انتخابية تتمتع بالمصداقية متساوية في الحظوظ والإمكانات الدعائية والترويجية بما يضمن تكافؤ الفرص بين الأحزاب وحرية الاختيار للناخب. لكن ما يحصل هو أن اختيار حكام الشعب وممثليه يقع خارج اللعبة الانتخابية لا من خلالها أو أثناءها عبر عملية الحصر المسبق لقائمة الاختيارات – كل المتنافسين ينتمون للفئة المهيمنة و المسيطرة على الدولة و المجتمع أو يدينون لها بالولاء – حيث يتم إقصاء كل متنافس لا يضع نفسه في خدمة النظام القائم إما بشكل مباشر عبر قرار تعسفي و إن تلون بلون المساطر الاجرائية والمقتضيات القانونية, أو بشكل غير مباشر عبر الحملات الإعلامية الموجهة الهادفة إلى تشويه الصورة بالنبش في الملفات القديمة أو تضخيم الزلات والأخطاء, بل اختلاقها أحياناً. صناعة الرأي العام عبر وسائل الإعلام تلعب وسائل الإعلام دوراً مهما جداً في عالمنا اليوم فهي أداة وعي وثقافة ومصدر موثوق للمعلومة إن حضرت المهنية والموضوعية, وهي أداة كذب و تضليل وتزييف للوقائع والحقائق إن حضرت الفئوية والانتهازية والنوايا المبيتة, بل إن أخطر أنواع الكذب هو كذب "الإظهار والإخفاء " الذي يجتزئ جزءاً من المشهد ويضخمه ويتجاهل بقية المشهد أو يقلل من أهميته, فيبني بذلك مصداقية من اللاكذب الصريح ومن اللاحقيقة الكاملة. تمتلك الفئات المتحكمة والمحتكرة للسلطة والثروة وسائل الإعلام المختلفة وتعمل على توجيه الرأي العام من خلالها عبر ضبط المحتوى الإعلامي المقدم, وعبر ترويج خطابها الخاص بالحقيقة ورؤيتها الذاتية لمجريات الأحداث والأمور , وهذا عمل من شقين, فمن جهة يتم الإسراف في تقديم برامج التسلية والترفيه الجيدة الإعداد والتقديم, والمنوعة من حيث الموضوعات والمحتويات ( رياضة, أفلام, مسلسلات, برامج الواقع والمسابقات ...) حيث تعمل هذه البرامج على تمرير خطاب, وترسيخ منظومة قيم أساسهما الهروب من الواقع والاندماج في عالم من الأوهام والأحلام يُصنع نجومه كما تصنع أية بضاعة و يروج لهم كما يروج لها. أما الشق الثاني, وهو الأكثر وضوحا ومباشرة , فيتعلق بالبرامج السياسية والحوارية , والتغطيات الإخبارية حيث يتم من خلالها صناعة رأي المتلقي عبر التأثير في وجدانه وعاطفته قبل عقله باستخدام سلاح الصورة وقوة المشهد المصحوب أحيانا بالموسيقى التصويرية المؤثرة مع اعتماد آلية التكرار في سرد الروايات الناقصة والتحليلات الموجهة حتى ترسخ المعلومة في لاوعي المتلقي بعد أن رسخت في وعيه, لتتحول عنده إلى الحقيقة المؤكدة والقناعة الراسخة الثابتة. منظومة القيم إن أي عملية تدجين أو ترويض لأي مجتمع, تمر بالضرورة عبر تغيير قناعاته ومعتقداته , وإعادة تشكيل أولوياته وتوجهاته, فلكل مجتمع منظومته الخاصة بالقيم كما له بنيته الابستمولوجية الخاصة بالفكر والمعرفة, فمنظومة القيم هي الميزان الذي يقيس به كل مجتمع الصواب والخطأ، وهي المعيار الذي يحدد قيمة كل فعل ومكانة كل فرد في المجتمع, بل هي التي تضبط سلوك الأفراد وتحدد توجهاتهم واختياراتهم وتُرتب أولوياتهم. لذلك تعمد الفئات المهيمنة على بث منظومتها الخاصة بالقيم عبر وكالات التنشئة الاجتماعية ووسائل الدعاية والتثقيف الجماعية, فتتم إشاعة ثقافة الفردانية والمصلحة الشخصية وتغيب قيم الانتماء والتضحية , فيتحول الإنسان إلى كائن مَصلحي – بمعناها الأناني لا الجماعي – هذا النكوص من مستوى الإيمان بالقضايا الإنسانية, القومية والوطنية, إلى مستوى البحث عن المنفعة الشخصية والانشغال بالهموم والإكراهات الذاتية, يواكبه تفشي ثقافة التعاطف المزيف والتضامن الدعائي الإعلامي حيث يعمل المُهيمن على تجميل بشاعة هيمنته والمُسيطر على إظهار مدى إنسانية سلطته وسيطرته , فيحول الأزمة من أزمة فئة سلبت الشعب حقوقه ووقفت حجر عثرة بينه واستردادها إلى أزمات اجتماعية – أيتام , مناطق فقيرة ومهمشة , بطالة , مخدرات , ضحايا العنف و الإجرام ... – تتطلب التضامن والتكافل في حين أن بنية القهر والاستغلال هي التي غذت تلك الأزمات، وهي من ساهم في تفشيها وتفاقمها, أزمات تقع مسؤولية حلها في المقام الأول على المستفيدين من بنية القهر والاستغلال التي أوجدتها, بل إن من عجيب المفارقات أن تلك الأزمات تشكل معاناة حقيقة للرازحين تحت سطوتها ومناسبة لحملات الإحسان الإعلامي والدعائي للمتسببين بها. إذا أضفنا للقيم السابقة قيم الانتهازية واللصوصية, وقيم التملق والاستزلام - الخاصة بالمجتمعات اللاديمقراطية – الناتجة عن ربط المناصب والمكاسب بالولاء لشخص الزعيم, وعائلته وحاشيته, بدل ربطها بمعايير الاستحقاق والكفاءة , تصبح بنية القهر والحرمان لا تكرس وضعية التفاوت واللامساواة فقط، بل تكرس وضعية التخلف والانحطاط ذاتها, فيتحول المُستبد والمستبد به إلى خاضعين إلى المستبد الخارجي و بنية القهر والاستغلال الخاصة به, فلا يختلف الحاكم عن المحكوم إلا في درجة القهر والخضوع لا في نوعه, أي أن الحاكم قاهر و مقهور بينما المحكوم يُقهر مرتين. نظام التربية والتعليم تعمل الفئات المهيمنة على تسخير نظام التربية و التعليم ليكون أداة لإعادة إنتاج ذاتها و تكريس و تثبيت سلطتها و مكانتها , من خلال الازدواجية التربوية أولا , ثم من خلال التحكم في البرامج و المناهج ومختلف جوانب العملية التربوية ثانياً , يعمل نظام الهيمنة و السيطرة للفئات المتحكمة على خلق توجهين و نظامين للتربية و التعليم , أحدهما مجاني و سيء موجه لعموم المواطنين من الفئات الأقل حظوة , لغته الرئيسية هي اللغة الوطنية ( تتحول مسألة اللغة من فوارق لغوية بين لغة وطنية ولغة أجنبية في الدول النامية إلى فوارق بيداغوجية في تدريس اللغة الوطنية الواحدة في الدول المتقدمة) و يغلب عليه التجريد و الاجترار و التلقين , لا يكسب متلقيه المهارات و المعارف و الخبرات الضرورية و اللازمة للاندماج السلس في سوق الشغل أو لتبَوُء المراكز القيادية و الريادية في الدولة و المجتمع , أما النظام التعليمي الثاني فهو مكلِف و جيد , لغاته الرئيسية هي اللغات الأجنبية يغلب عليه الطابع المهاري والتقني , يراعي حاجيات و ميولات المتعلمين و يؤهلهم للمواقع القيادية و المناصب الريادية عبر إكسابهم القدرات و المعارف و المهارات اللازمة لذلك . إلا أن هذه الازدواجية التربوية لا تؤتي أكلها ما لم تواكب بعملية مراقبة و تنقيح دائمين للبرامج و المناهج التربوية و ما تزرعه من أفكار و ما ترسخه من قيم مخافة بث روح الثورة و التمرد , أو نشر الوعي بوضعية القهر و الحرمان , وهي عملية تجري تحت مسميات و ذرائع كثيرة كمحاربة أفكار التعصب و التطرف , أو إشاعة ثقافة الانفتاح و التسامح . شبكة العلاقات العامة تعمل القوى المهيمنة و المسيطرة على الدولة والمجتمع على نسج شبكة واسعة ومعقدة من العلاقات العامة والشخصية فيما بينها تشمل مجالات وتخصصات متعددة ومتداخلة, إذ تلعب شبكة العلاقات العامة تلك دوراً محوريا في تكريس و إعادة إنتاج السلطة و الهيمنة فهي شبكة من تبادل المصالح والمنافع المشتركة و التسهيلات و الامتيازات المتبادلة , تساعد الشبكة تلك على تقنيين التنافس بين ذوي النفوذ , و تجاوز الصراع و النزاع الى تقاسم المكاسب و الأرباح , في ما يشبه العرف أو القانون المضمر المنظم للروابط والعلاقات بين المنتمين للفئة الواحدة والمجتمع المصغر الواحد. بل إن علاقات المصاهرة و الزواج تلعب دور اللحمة و أداة الربط و الاستدامة لشبكة العلاقات تلك بتجاوز روابط تقاسم المصلحة و المنفعة الى روابط الدم و القرابة. توظف الطقوس الاحتفالية والمناسبات الاجتماعية والأسرية كآلية لتعزيز شبكات العلاقات العامة تلك و تجديد دماءها , إذ وراء مظاهر التباهي و البذخ المبالغ فيه أثناء تلك المناسبات تتستر عملية نقل تبادل الامتيازات و المصالح من مستوى علاقات الانتفاع الاقتصادي و السياسي الى المستوى الثقافي والاجتماعي, أي تتحول من مستوى العلاقات البراغماتية والمصلحية إلى مستوى علاقات التفاعل الثقافي, الوجداني والسلوكي. وهنا يظهر دور جمعيات العمل الخيري والحقوقي - التي تعد غالباً من الاختصاص النسائي – إذ وراء قناع الإحسان وتقديم يد العون والمساعدة للفئات المقهورة والمهمشة توجد حملة علاقات عامة لتحسين صورة تلك الفئات المهمينة والمسيطرة, إعلاميا واجتماعيا, بل الأهم هو محاولات الاستشراف والاستكشاف لفرص الاستغلال الجديدة بالاختلاط مع تلك الفئات المحرومة للتعرف عليها عن قرب من جهة, وللتعرف على أعضاء جدد من المجتمع المخملي من جهة أخرى, لينتقل ذاك التعارف, بالاستتباع, من فضاء التعاون الخيري والاجتماعي إلى عالم الاستغلال الاقتصادي والقهر السياسي. أسلوب الحياة يؤدي الثراء الفاحش والنفوذ القوي لدى الفئات المترفة والمنعمة إلى خلق أسلوبها ونمطها خاص بالحياة, أساسه ثقافة الاستهلاك والانفصال الشبه التام عن بقية أبناء الوطن الأقل حظا ونصيباً في خيرات ومقدرات وطنهم, فهي تخلق لنفسها عالمها الخاص, المتكامل والمستقل, فمن المناطق السكنية الراقية بضواحي المدن, إلى مراكز التسوق الخاصة بالماركات العالمية, عبوراً بخدمات التسلية والترفيه باهظة التكلفة والثمن, وانتهاء بعادات التصرف والسلوك الاجتماعي والثقافي كعادات الأكل, واللباس, والاحتفال , والمشي , والكلام ... , يساعد أسلوب الحياة المخملي هذا على جعل حياة الفئات المهيمنة على السلطة و \السياسة والاقتصاد, حياة نموذجية و مثالية, ملهِمة لباقي الفئات المجتمعية ومغرية لها, فيسعى الكل إلى تقليدها والتشبه بها والوصول إليها, مما يؤدي كتحصيل حاصل إلى ترسيخ تلك الفئات لمكانتها الريادية والقيادية بتقديمها القدوة والنموذج لباقي الفئات, فتعيد إنتاج نفسها بإرغام كل من نجح في تسلق سلم الترقي الاجتماعي, من القاعدة نحو القمة, على اتباع نفس أسلوب الحياة وانتهاج نفس النهج في العادات والسلوكيات إن هو أراد الاعتراف به كوافد وعضو جديد في نادي الأثرياء والنافذين, أي بدل تحول الوافد الجديد إلى خطر وتهديد يتحول إلى دماء جديدة تُضخ في شرايين بنية القهر والحرمان. خاتمة واستدراك تسعى الفئة المهيمنة والمسيطرة على الدولة والمجتمع إلى إدامة سيطرتها وإعادة انتاج هيمنتها, بما يضمن لها الحفاظ على مكانتها ومصالحها, موظفة آليات ووسائل متعددة ومتكاملة فيما بينها منسجمة الفاعلية عميقة التأثير "شرعية" إذا قُيِّمت من الجانب القانوني والدستوري " ظالمة" إذا أخذ بالاعتبار من يسن القوانين ويضع الدساتير, "متطرفة" بالنظر إلى تأثيرها المدمر على الأفراد و الشعوب " قاهرة " لاستبدادها بحاضر المحروم – أفرادا وشعوبا- وتحديدها لآفاق مستقبله. بل إن الانتقال إلى مستوى آخر من التحليل يظهر مدى خبث و"شيطانية" تلك الوسائل والآليات, فالنتيجة المباشرة لها ليست تكريس وضعية القهر والحرمان فقط, بل حرمان المحروم من كل ما يعينه على المواجهة أو يساعده على المقاومة عبر عمليات "تسطيح" الوعي المُمَنهجة من جهة (بواسطة نظام التربية والتعليم, وسائل الإعلام, منظومة القيم) وعبر تجريد المحروم من كل انتماء مؤسساتي, عقائدي أو مجتمعي ( إفراغ العمل الجمعوي والمدني, النقابي والحزبي من أي محتوى تغييري أو نضالي) فيتحول الأفراد إلى ذرات منفصلة متجاورة في المكان, متشابهة الظروف, مشتت الجهود, لا يعي الفرد وضعية حرمانه وإن وعاها افتقد القدرة والوسائل الكفيلة بتغييرها حالة أشبه بالمأزق الوجودي وبحكمٍ بالاستعباد الأبدي. فهل الديمقراطية كفيلة بضمان "الحرية" و"المساواة"؟ سؤال استبد بي منذ بداية المقال وكل ما قمت به هو تبرير الإجابة لا لشيء، إلا لأنني أظن أن هذا السؤال يحمل إجابته معه, فقررت تعزيز الجواب "بالدلائل و المستندات" بدل الركون الى ذات الأجوبة السطحية, الحالمة والمثالية, المستندة إلى تأملات فلسفية افتراضية, تصلح للاسترشاد والاستئناس التأملي لا الفعلي والعملي, لأنها حالة افتراضية لا تاريخية, أي غير واقعية, لم تحدث يوما ولا دليل على حدوثها مستقبلا. هذه خلاصة بالغة الأهمية لنا نحن الشعوب التي لازالت تتلمس طريقها بخطى متثاقلة نحو الديمقراطية الموعودة, إذ يجب أن نعي أن لا فردوس موعود هناك في الأفق بل إن "الحرية" و"المساواة " يقعان خلف الديمقراطية, بجانبها أو فوقها, لكنهما ليسا بالضرورة داخلها, أي يجب إعادة تقييم أولوية الهم السياسي, تلك الأولوية التي كانت على حساب أولوية الهم المجتمعي, الاقتصادي والثقافي, هل نبرر الطغيان والاستبداد ؟ كيف ذلك و نحن لم نقنع بحرية و مساواة موعودتين دون عدالة اجتماعية شاملة وحقيقية ؟ فنحن نرفض تزييف الوعي, والخداع والدجل باسم الديمقراطية, بل نحن نرى أنه كما كل المعارك العادلة - الشواهد التاريخية تشهد على ذلك - ستكون المواجهة الأولى والحاسمة على ساحة الوعي وفي ميدانه.