هل هي لعنة تاريخية يجترّها نهر أبو رقراق من حين إلى آخر؟ أم إنّ مدينة السلوان تظل مطيّة طيّعة لا تتمردّ على من يركبها من الدّخلاء من أحزاب "تهافت التهافت" على الكراسي والألقاب والإكراميات السياسية؟ فيضانات الخميس لم تُخْف الطرق العامة والمسالك الرئيسية تحت المياه الجارفة فحسب، بل وأيضا هجمة منسوب المياه المرتفع على غرف النوم والمطابخ ودورات المياه في الكثير من المنازل التي شاءت الأقدار أن تكون في مناطق منخفضة، ليتحول المدّ في حركية الواد الحار إلى جزْر معاكس على طريقة "بضاعتكم وبضاعة غيركم رُدَّتْ إليكم!"، هي أيضا مؤشر علمي مباشر في تقييم أداء المجالس المحلية ومدى أهميتها في استراتيجيات التسيير والتنمية الموعودة في خطب البرلمان وأعضاء الحكومات المتلاحقة. مثل هذه الأيام العصيبة بفعل تداعيات يوم ممطر واحد تثير التساؤل المؤجّل حول مستوى الزعامة وتدبير الشأن العام. ليس الحديث هنا عن مطالب بناء مؤسسات ضخمة أو تحقيق مؤشرات اقتصادية مرتفعة أو نقل سلا إلى مستويات رفاهية برلين أو طوكيو، بل فقط تقييم الفرق بين تحمّل المسؤولية نظريا وطبيعة الأداء الفعلي في مهمة ليست أصعب من توجيه تدفّق مياه الأمطار نحو المجاري على فرضية أنها مجار تمّت "صيانتها" في وقت من الأوقات. ويظل التعامل مع الكوارث والأزمات المحتملة وغير المحتملة من أبجديات إدارة العمران البشري الذي تحدث عنه عبد الرحمان بن خلدون في طريقه إلى الأندلس قبل أكثر من ستة قرون. وتحسّبُ بعض الكوارث الطبيعية أيضا يشكّل المدخل إلى فقه الإدارة المحلية فوق كل الاعتبارات السياسية والايديولوجية في علاقة الأحزاب والمجالس المحلية مع السلطة، وهما في ذلك سيّان في تحمل المسؤولية الأخلاقية والإدارية والوطنية والحضارية. لكن واقع الحال جسّده أسلوب التعامل مع فيضانات سلا دون احتوائها بشكل مهني، وتصريحات بعض المسؤولين المحليين تكشف مفارقات مثيرة إنْ لم تكن تثير الأسف والشفقة على المنطق التبريري الذي ينطلقون منه لتمويه حقيقة الفشل الإداري في المدينة. يقول جامع المعتصم، رئيس جماعة سلا، إن "هذه الأمطار الاستثنائية كان التعامل معها بشكل استثنائي". لاخلاف على الشطر الأول من الجملة، لكن كفانا لويُ عنق الحقيقة في الشّطر الثاني. ليتنا نبتعد عن القاموس المصري للغة المبالغات الفرعونية والفتوحات الوهمية. هذا منطق لا يتساوى مع حقيقة انقطاع الطرق في عدة أحياء وحتى الطرق الرئيسية بين سلاوالرباط لساعات طويلة، ناهيك عن تحوّل عدد ليس بالقليل من المنازل إلى برك ماء متصاعدة المنسوب ربما تصلح لتربية البط وليس لإيواء بني البشر. ما يضعف هذا المنطق التبريري أن يحاول السيد المعتصم اعتماد منطق تحصيل حاصل والتذكير ببعض الإجراءات جد اعتيادية على أنها من قبيل فتح الأندلس أو تحرير عكا؛ إذ يقول: "إن مصالح الجماعة والعمالة والشركات المفوضة داخل المدينة، سواء الشركة المفوضة في تدبير الماء والكهرباء أو المفوضة في النظافة، تجنّدت للتغلب على هذه الآثار؛ إذ بقيت تشتغل إلى الصباح، واليوم مازالت الأشغال لتنقية الآثار والشوائب في الشوارع والأزقة من أثار هذه الفيضانات". فعلا، خطبة طارق بن زياد في وصف شجاعة جيوشه البواسل في قهر العدو المارد! لا شكّ أن السيد المعتصم يدرك أنّ لا أحد معصوم من الخطأ أوسوء التقدير، أو ربما تجاهل بعض ملفات سلا في ثنايا المعركة الكبرى بشأن مستقبل الحكومة في الرباط. وهذا ضرب من ضروب الاستقطاب التاريخي للرباط على حساب سلا. واقع الحال يكشف أنّ زخات مطرية غزيرة أوصلت المدينة إلى حالة عجز تام لعدة ساعات وتداعت الويلات الأخرى، فمن أين ياتي النصر؟! وسط التخبّط في محاولة احتواء المياه الجارفة، تنفتح لغة التحزّب أيضا على مصراعيها، كما فعل محمد يتيم في تمويه المساءلة عن "إنجازات" حزب العدالة والتنمية في هذه المدينة وصناعة أبطال من ورق. فكغيره من دعاة المنطق الحزبي والقفز إلى الأمام، حاول السيد يتيم تأجيج مشاعر "الإنبهار" ببطولات تستدعي أن يستفيق لها عنترة بن شداد العبسي لتخليدها في معلقة جديدة على جدران الكعبة. يقول في دفاعه عن صديقه عبد اللطيف سودو، نائب عمدة مدينة سلا، في تدوينة بعنون "رجل لم ينم ليلة أمس هو وآخرون"، إنه "في وقت كنّا نغط في نومنا العميق تحت فراشنا ونكتب التعليقات الشامتة بما أصاب مدينة سلا..، تحية لهذا الرجل الذي لم ينم ليلة أمس وتابع الأشغال...الرجل لم يتوقف وبقي يتابع الأشغال إلى وقت متأخر من الليل كما تثبت ذلك الفيديوهات التي كان ينشرها ليلا .. تحية لهذا الرجل المناضل ولباقي أعضاء المجلس الجماعي وكل الشركات المفوض لها.. من السهل أن يفتح البعض وهو دفيء في فراشه فمه بكلام السوء.. لكن الأهم أن يخرج المسؤولون إلى الميدان". هذه اللّغة العاطفية والتصوير الدرامي قد يتناسبان مع فحوى الأغاني الحماسية مع بضعة طبول ومزامير تدوي في عنان السماء وكمبراس يتغنى بأمجاد عظمى وهمية. تصريح بهذه الرؤية غير المسؤولة يشكل نكرانا للواقع الذي لا يرتفع ولا تنفع معه مقولة "في الليلة الظلماء يُفتقد البدر". هذا منطق متعصّب ينمّ عن قومية حزبية تغطي الشمس بالغربال. من يخرج إلى الميدان لا يجلس طول العام داخل مكتبه حتى تداهمه الكارثة كغيره من السكان العاديين. الخروج إلى الميدان في عرف الإدارة المحلية هو جسّ نبض البنية الأساسية بشكل مسبق وتقييم مكامن الضعف في التجهيزات والخططه المعتمدة وبلورة خطط بديلة أ..ب..ج لتفادي نقاط الاختناق المحتملة في المجاري تحت الأرض قبل انغلاق الطرق والممرات فوق الأرض. ما لم تزرعه في مرافقك وتجهيزاتك خلال الصيف لا تحصده خلال مطبات الشتاء. وكما يفعل الأمريكيون والكنديون، كميات الرّمل والأملاح اللازمة لتذويب ثلوج الشتاء على الطرق تكون عادة مخزّنة منذ يوينو ويوليو وأغسطس. من زرع حصد، ومن تفقّد أحوال المدينة لا يغرق في "كوب ميّه"، بتعبير أهل الكنانة! في شدّة الإحباط ومحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، ولو بأبسط السبل، تصبح أمال المدينة معلّقة على براغماتية مفقودة في دواليب الإدارة المحلية ووزارات التجهيز والداخلية. ولا عجب أن يتحوّل "علال القادوس" و"جواد السّبع" وغيرهما من بسطاء الشعب إلى ملاذ أوّل وأخير لسكان المدينة المنكوبة. وكما تابع الكثيرون على أشرطة الفيديو، لا يتردّد علال وجواد بأيديهم وأظافرهم المنهكة في إزالة كميات الأحجار والآجر والنفايات التي تقادفتها الشهور والسنوات إلى فوّاهات المجاري وحواشي الطرق. إنّهما خيرة المناضلين ورجال المسؤولية الحقيقية عندما تتشبع السلطات (على اختلاف مستوياتها من مقاطعات الأحياء في سلا حتى بيروقرطية الوزارات في حي الرياض) بنظرية "العام زين"، ومحاكاة النعام في إخفاء رأسه في الرمال متى ما حلّت الشدائد. قد يتعب العقل في تفكيك مثل هذه المظالم التي كابدتها هذه المدينة الوقورة، وقد عايشت عدة مفارقات على مرّ التاريخ الحديث والمعاصر. كانت سلا رأس الحربة في مقاومة القرصنة على سواحل الأطلسي في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وظل الكثيرون يستصغرونها طويلا بإسم "العدوة" ويضعونها في الصفّ الخلفي بعد الرباط. وهذا بالمناسبة ليس تنفيسا لمرّكب الندّية "أنا سْلاوي، أنا رْبَاطي...!". ومن تجليات الرّونق الحضاري لسلا أنها المدينة الوحيدة التي احتضنت عيدا سنويا للشموع، وهو كناية عن رؤية تنويرية واحتفالية تتغنى بها السلاويات والسلاويون بما ترمز إليه فلسفة الأنوار التي تمسكت بها هذه المدينة منذ قرون. وقدّمت سلا قائمة لا متناهية من خيرة السياسيين والمثقفين، سواء ممّن وقفوا في صفّ الملكية أمام تحدّيات الوجود وسط خطط المستعمر الفرنسي، أو ممن بَلْوَرُوا نواة الفكر اليساري الديمقراطي مثل عبد الرحيم بوعبيد وغيره من وطنيّي اليمين واليسار عندما كان المغرب يتلمّس طريقه إلى الحداثة. بعض رجالات سلا فَطِنُوا إلى أنها مدينة ذات أنفة مزاجية تأبى أن تطالب بنصيبها في التنمية مقابل مساهماتها التاريخية. فأخذوا المبادرة من مالهم الخاص لتأسيس مدارس حرة وتشييد مكتبات عامة تزخر بعشرات الآلاف من المخطوطات والمطبوعات. ولا ينسى أو يتناسى أيّ من أبناء السبعينات حتى اليوم أفضال هاتين المؤسستين التنويرتين الوحيدتين في المدينة: مكتبة الصبيحي ومكتبة الجامع الكبير. ولا يزايد أحد في القول إن مسؤولي العمالة والبلديات والمقاطعات أضافوا أيّ طوبة إلى بنيان الثقافة والمعرفة في هذه المدينة. واليوم بين مغاربة العالم أسماء كثيرة حملت هذا الهمّ العلمي نحو مختلف العواصم في أوروبا وكندا والولايات المتحدة، ووجدت مواقف الترحيب لتقديم عطاءاتها العلمية والمهنية في شتى الجامعات والمنظمات الدولية والمؤسسات الرائدة. لكن في حقبة الغبن الذي طال أمده، أصبحت سلا بمثابة المطبخ الخلفي لمآدب الكبار في الرباط. هي "دار الدباغ" لمن يريد أن ينتعل الجلد الأنيق دون شمّ رائحته الكريهة، وهي "سوق لَغْزَلْ" لاستجلاب الأغطية المصنوعة من صوف Bio، وهي حظيرة أغنام مفتوحة عند اقتراب أعياد الأضحى لمن لا يريد أن تتسخ جدران شقته أو فلته في أحياء الرياض والسويسي وطريق زعير. سلا في نظر البعض بمثابة المرقد الليلي لمئات الآلاف من الموظفين والعمال الذين يكابدون رحلة الشتاء والصيف كل صباح في عبور الجسر ومقاومة اختناقات المرور للوصول إلى مقرّات أعمالهم. والأدهى من هذا كله، أصبحت سلا، حسب واقع الحال، مستودعا اجتماعيا Depot social لإبعاد النفايات والجريمة عن أعتاب العاصمة الشريفة. فكيف لا يجتمع بالصدفة في هذه المدينة سجن "الزاكي" ومحكمة "الإرهاب" وسوق "الكلب"، وشتى كانتونات الفقر في أحياء باب سبتة وسيدي موسى ومدن الصفيح من شتى درجات البؤس والحرمان؟ هي باختصار مستودع مفتعل للخردة البشرية، أوHuman junkyard، وراء الشمس في خدمة الميتروبول كما شاء لها بعض المتنفذين، مع كامل احترامي وتضامني مع السلاويات والسلاويين القلقين على تردّي أوضاع مدينتهم. لا عجب أن تكون فيضانات اليوم على غرار فيضانات العصور الوسطى كما يتبيّن من هاتين الصورتين، فلا فرق بين الأمس واليوم! * أستاذ النزاعات الدولية في جامعة جورج ميسن ، واشنطن