بعد التساقطات المطرية الأخيرة، والفيضانات التي أحدثتها هذه التساقطات في مدينة سلا بالخصوص، خرج عضو حزب العدالة والتنمية، حماد القباج، وهو أحد شيوخ ما يعرف ب"السلفية"، ليربط بين هذه الفيضانات بالاحتباس الحكومي أو ما صار يُعرف ب"البلوكاج". فهذه الفيضانات، وفق وجهة نظر "الشيخ"، هي بشكل من الأشكال عقاب سماوي يكشف "تجليات مفاسد مهزلة البلوكاج". ومع أن "الشيخ" لم يبين بالتحديد وجه العلاقة بين الأمطار ومأزق تشكيل الحكومة فهو يعتبر أن هذه الأمطار قد جاءت لصالح الحزب الذي ينتمي إليه ولصالح زعيمه الذي ليس إلا رئيس الحكومة المعين عبد الإله بنكيران ما دامت هذه الأمطار، من وجهة نظره، تفضح ما يعتبره بمثابة "مفاسد" و"مهزلة". فهناك "مفسدون" و"صناع مهزلة" تفضحهم "السماء" التي تؤازر بنكيران ومعه في وجه "التحكم". وسواء أدرك "الشيخ" ذلك أم لم يدركه فهو يستحضر هنا خلفية تاريخية هي غزوة بدر التي جاء في القرآن أن الله أنزل فيها المطر ليثبت به أقدام "المؤمنين" في مواجهة "الكفار" ("وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ" الأنفال 11). بمعنى آخر ف"الشيخ" يضع خصومه السياسيين في موضع "الكفار" من قريش، بعد أن سبق له أن أفتى بكون التصويت على حزبه "واجباً شرعياً". وهي نفس الخلفية التكفيرية التي تحكم مُبدع مقولة "التحكم" نفسه، عبد الإله بنكيران، ومعه مبدئياً جميع الإسلاميين مهما تظاهروا ب"الاعتدال". فمنذ أن أخرج الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، عبد الإله بنكيران، لفظ "التحكم" إلى ساحة التداول العام سنة 2011 صار اللفظ إياه دارجاً على الألسُن، يردده خصومُ الإسلاميين وحلفاؤهم على حد سواء، سواء بالتصريح أو بالتلميح. ثم عاد الرجل نفسُه بعد خمس سنوات (والفرق الوحيد أنه هذه المرة كان رئيسا للحكومة) ليبعث هذا اللفظ من رماده مع اقتراب الانتخابات التشريعية ليوم السابع من أكتوبر 2016. وكما هو معلوم، فقد وَرَدَ اللفظ أيضا في تصريحات للأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية، محمد نبيل بنعبد الله، الوزير في حكومة بنكيران، واستدعى الأمر إصدار بلاغ من طرف الديوان الملكي وبلاغ مضاد من طرف قيادة الحزب اليساري المتحالف مع الإسلاميين. وفي فورة الحدث (إذ لأول مرة يصل الأمر إلى هذه الدرجة من التشنج بين المؤسسة الملكية والأمين العام لحزب مشارك في الحكومة) صدر من القراءات السياسية ما يكفي أو يزيد، وخاض الناس في أسئلة من قبيل: هل سيظل الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية في زمرة "المُقربين" أم سيُلقى به إلى غيابات الجُب؟ هل سيلتقطه بعضُ السيارة ويأخذه إلى الحكومة المقبلة ليجد نفسه من جديد حليفا في تجربة حكومية جديدة؟ أم أنه سيُفْرَدُ إفرادَ البعير الأجرب داخل حزبه وخارجه؟ وهكذا بدا المهتمون منشغلين أكثر بمصير شخص (أو بمآل حزب في أقصى الحالات) ولم يُثر مفهوم التحكم، بالمقابل، أي نقاش فكري عميق. وعوض أن يجعل بلاغُ الديوان الملكي رئيس الحكومة يتحاشى استعمال لفظ "التحكم" فهذا الأخير أصر عليه وأعلنها بشكل صريح جدا: "سأتحدث عن التحكم مادام موجودا. وإذا لم يعُد موجودا فلن أتحدث عنه". وما دام الرجل، وحلفاؤه (أو بعضٌ منهم على الأقل)مصرين على الاستمرار في الحديث عن "التحكم" فالمقولة ستروج أكثر دون شك مع اشتداد وطيس الحملات الانتخابية القادمة أو كلما احتقن الوضع السياسي في البلاد. وعليه، يصبح من الضروري أن نحاول أولاً فهم معناها لعلنا ندرك المقصود منها بشكل أفضل. للأسف الشديد فلا السيد عبد الإله بنكيران، صاحب حقوق التأليف، ولا السيد نبيل بنعبد الله الذي ردد نفس اللفظ من ورائه، ولا حتى السيد محمد الساسي الذي ما يزال يردد نفس اللفظ من ورائهما بين الفينة والأخرى، ولا شباط الذي اهتدى بدوره إلى لفظ "التحكم" بعد أن عجز عن التحكم في لسانه، قدموا لنا تحديدا واضحا وصريحا لمعنى "التحكم". لكن أحد أنصار الأول، أي أحد أنصار عبد الإله بنكيران، بذل (مشكورا!) بعض الجهد في هذا المنحى من خلال عدد من المقالات. وهو الفقيه محمد بولوز الذي نشر مقالا بجريدة "هسبريس" الإلكترونية بتاريخ 12 شتنبر 2016 عنوانه: "تحرير الشعب من التحكم سابق عن الاختيار الأرشد". وبالرجوع إلى هذا المقال نجد الفقيه يقول: "يبدو أن ساحة التدافع السياسي لم تكن أطرافها أوضح وأجلى من اليوم، حيث تتجه نحو فسطاطين أساسيين لا يكاد يكون لهما ثالث، فسطاط أحرار المغرب وأصلاء المغرب وأحفاد جيل المقاومة، وفسطاط عبيد التحكم وأزلام التسلط". وبالنسبة لكل قارئ ينتمي إلى الثقافة الإسلامية، أو يعرفها بمستوى مقبول، فالفقيه يُقيمُ هُنا، ضمنياً، مُمَاثَلَة بين الوضع الراهن في المغرب، أو ما يرى أنه وضع قائم، والحديث النبوي الذي يقول: "سيكون الناس على فسطاطين: فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه"، تماما كما يقيم حماد القباج مماثلة غير واعية بين أمطار بدر وأمطار سلا. وقد سبق فقيهنا الجليل، محمد بولوز، شخص آخر إلى إقامة مُمَاثلة (Analogie) من هذا القبيل مع الحديث المذكور. وهذا الشخص لم يكن سوى أسامة بن لادن، زعيم تنظيم القاعدة، الذي قال بأن العالم انقسم إلى فسطاطين: فسطاط الإيمان وفسطاط الكُفر. نحن إذن، وفق هذا المنطق، أمام معسكرين: معسكر "عبيد التحكم وأزلام التسلط، والنفاق الذي لا إيمان فيه، والكفر"، ثم معسكر "أحرار المغرب وأصلاء المغرب والإيمان الذي لا نفاق فيه". و"التحكم" معناه حسب الفقيه المحترم "المخزن أو الدولة العميقة...أوما شئت من أمثال هذه الكلمات التي تُوصل المعنى ذاته". وهو بذلك يستحضر التصريحات السابقة التي تحدث فيها الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، ورئيس الحكومة، السيد عبد الإله بنكيران، عن وجود دولتين في المغرب: دولة عميقة يحكمها مجهول أو مجهولون، و"دولة سطحية" يحكمها الملك. ووفق منطق الفقيه محمد بولوز، وبما أن "التحكم" هو "الدولة العميقة"، و"الدولة العميقة" هي "المخزن"، فالملك لا يحكم "دولة المخزن" التي تتشكل من "عبيد التحكم وأزلام التسلط"، أي دولة الكفر والنفاق التي لا إيمان فيها، وإنما يحكم الدولة الأخرى، دولة " أحرار المغرب وأصلاء المغرب وأحفاد جيل المقاومة والإيمان الذي لا نفاق فيه" . ثمة إذن "دولة مؤمنة" هي التي يحكمها الملك و"دولة كافرة" يقول رئيس الحكومة بأننا لا نعرف مَنْ يحكمُها، أو لنقل (بقاموس رئيس الحكومة) بأنها محكومة من طرف "العفاريت والتماسيح" والأرواح التي تسكن (حسب قاموسه دائما) وزارة الداخلية، أو حتى الجن الذين قال مؤخرا بأنه يتحدث عنهم لأنه لم يعد قادرا على الحديث عن العفاريت. وهكذا نكون، تَبَعاً لما يذهب إليه الفقيه ورئيس الحكومة والقباج ومَنْ تبعهُم، قد قسمنا المجتمع المغربي إلى "كفار منافقين" من جهة و"مؤمنين" من جهة أخرى. بل، وكأن تقسيم المجتمع لا يكفي، فقد كان لا بد من تقسيم الدولة أيضا إلى دولتين وجعل الملك على رأس إحداهُما دون الأخرى. وعلى هذه الدولة التي يرأسها الملك، الدولة السطحية، دولة "أحرار المغرب وأصلاء المغرب والإيمان الذي لا نفاق فيه" أن تُحرر "الشعب" من "التحكم"، أي من "الدولة العميقة" التي هي "المخزن". أكيد أن في الأمر كثيرا من الكوميديا السياسية التي تصل حد العبث. لكن فيه، قبلها وبعدها، كثيرا من التجهيل واستغلال الجهل. ف"المخزن" ليس عصابة من قطاع الطرق كما يحاول هذا الخطاب أن يوهمنا بذلك، وإنما هو مؤسسة سياسية موروثة من تاريخنا كمغاربة، لم يفرضها علينا استعمار أجنبي أو ثقافة وافدة، وإنما أفرزها التطور التاريخي الطبيعي للمجتمع وللنظام السياسي المغربيين في مرحلة معينة. وهي مؤسسة ظلت دائما تحت الرئاسة الفعلية والمباشرة للسلطان في السابق، وصار ما بقي منها في التجربة المغربية المعاصرة تحت الرئاسة الفعلية للملك. والملك اليوم، كما كان السلطان بالأمس، هو رئيس مؤسسة المخزن التي ما تزال، بالفعل، حاضرة بقوة في بنية الدولة كما في الثقافة الشعبية. وإذا كان من المفهوم تماما من الناحية العلمية أن تحدث تناقضات وصراعات بين القديم والجديد على صعيد الدولة والمجتمع، فإن هذه التناقضات لم تصل يوما إلى الحد الذي تصير معه مؤسسة المخزن دولة داخل الدولة. ولم يحدث حتى الآن أن صارت هذه المؤسسة خارج سلطة الملك. بل إن الإسلاميين (وهم يضعون أنفسهم في طليعة معسكر "الإيمان الذي لا نفاق فيه"!) يُمارسون على ما يبدو نفاقا مكشوفا ومفضوحا. فإذا كان "المخزن" حسب ما يعلنه الفقيه هو "التحكم" فهو "فسطاط النفاق الذي لا إيمان فيه"، أي فسطاط الكفر، وإذا كان الملك موضوعيا على رأس "المخزن" فإن الاستنتاج الذي يقود إليه هذا المنطق رأساً هو أننا أمام نزعة تكفيرية واضحة وأمام فكر تكفيري خطير يُكفر الدولة ورئيسها والمجتمع ولا يستثني من ذلك إلا مَن اتبعه أو تحالف معه. وهو منطقٌ يتلخص في جملة: "إما معنا أو مع الكُفار" على غرار جملة جورج بوش الشهيرة: "إما معنا أو مع الإرهاب". فلسان حال بنكيران ومن معه يقول للملك ما قاله حسان بن ثابت لنبي الإسلام: "أنا أسلك منهم كما تٌسل الشعرة من العجين" ولكن شريطة أن تكون معنا". فكأنهم لا يريدون فقط سرقة التجربة الديموقراطية وإنما يريدون أن يسرقوا الملك نفسه. لا يهم إن كان القائلون بالتحكم، أو الذين يربطون ببلاهة بين حالة الطقس ومأزق تشكيل الحكومة، واعين تماما بهذه الحمولة التكفيرية. فذلك لا يعني بتاتاً أنها غير حاضرة بقدر ما يعني أنها حاضرة كخلفية غير واعية. وربما كان اللاوعي التكفيري الخامد أخطر من الوعي التفكيري الصريح. فالفقيه محمد بولوز يقول، بوعي أو بدونه، نفس ما قاله أسامة بن لادن. إنها الفكرةُ عينُها: تقسيم الناس إلى "فسطاط إيمان" و"فسطاط كُفر". وهذا هو، بالتمام والكمال، مبدأ الفكر التكفيري الذي تتبناه القاعدة وداعش وجميع الإسلاميين دون استثناء حتى وإن تظاهروا بأنهم ديموقراطيون. فالديموقراطية ليست هي الغاية وإنما الغاية هي "الاختيار الأرشد" بتعبير الفقيه محمد بولوز، أي ما يسمى بنظام الخلافة. وفي أحسن الأحوال فالديموقراطية ليست إلا مَعْبَراً آمناً لتحقيق هذا "الاختيار الأرشد". وهذا ليس جديدا على كل حال في تاريخ الحركات والأحزاب الإسلامية. فهي جميعُها تلتقي في الهدف النهائي المتمثل في ما تسميه ب"الخلافة الإسلامية". وهي تتعاطى مع الديموقراطية بطريقة انتهازية لا تخفى على أحد. ولذلك فالمعركة الحقيقية اليوم هي معركة حماية التجربة الديموقراطية بالمغرب من خطر التكفيريين سواء منهم من يعلن ذلك أو من يمارس التقية. ولعل من العجب أن يرى "الشيخ" القباج في فيضانات سلا رسالة سماوية وهو الذي لم ير أي رسالة على الإطلاق في فيضانات 2014 التي حُملت فيها جثت الضحايا، لأول مرة في تاريخ المغرب، على متن شاحنات جمع النفايات. وهذا أمرٌ مفهوم لأن رئيس الحكومة آنذاك لم يكن سوى الأمين العام لحزبه، أي نفس الشخص الذي أبدع كذبة "التحكم" والذي يُدْعى عبد الإله بنكيران.