موكوينا: سيطرنا على "مباراة الديربي"    موتسيبي: كأس أمم إفريقيا للسيدات المغرب 2024 ستكون الأفضل والأنجح على الإطلاق    الصويرة تستضيف اليوم الوطني السادس لفائدة النزيلات    ضمنهم موظفين.. اعتقال 22 شخصاً متورطين في شبكة تزوير وثائق تعشير سيارات مسروقة    مهرجان "أجيال" بالدوحة يقرب الجمهور من أجواء أفلام "صنع في المغرب"    طقس حار من السبت إلى الاثنين وهبات رياح قوية مع تطاير الغبار الأحد بعدد من مناطق المغرب        صادرات الصناعة التقليدية تتجاوز 922 مليون درهم وأمريكا تزيح أوروبا من الصدارة    الرئيس الصيني يضع المغرب على قائمة الشركاء الاستراتيجيين    افتتاح أول مصنع لمجموعة MP Industry في طنجة المتوسط    وهبي: أزماتُ المحاماة تقوّي المهنة    خبراء: التعاون الأمني المغربي الإسباني يصد التهديد الإرهابي بضفتي المتوسط    الإكوادور تغلق "ممثلية البوليساريو".. وتطالب الانفصاليين بمغادرة البلاد    المغرب التطواني يُخصص منحة مالية للاعبيه للفوز على اتحاد طنجة    حكيمي لن يغادر حديقة الأمراء    المحكمة توزع 12 سنة سجنا على المتهمين في قضية التحرش بفتاة في طنجة    ابن يحيى تشارك في افتتاح أشغال المنتدى البرلماني السنوي الأول للمساواة والمناصفة    بوريطة: المقاربة الملكية لحقوق الإنسان أطرت الأوراش الإصلاحية والمبادرات الرائدة التي باشرها المغرب في هذا المجال    من العاصمة .. إخفاقات الحكومة وخطاياها    مجلس المنافسة يفرض غرامة ثقيلة على شركة الأدوية الأميركية العملاقة "فياتريس"        "أطاك": اعتقال مناهضي التطبيع يجسد خنقا لحرية التعبير وتضييقا للأصوات المعارضة    لتعزيز الخدمات الصحية للقرب لفائدة ساكنة المناطق المعرضة لآثار موجات البرد: انطلاق عملية 'رعاية 2024-2025'    هذا ما قررته المحكمة في قضية رئيس جهة الشرق بعيوي    مندوبية التخطيط :انخفاض الاسعار بالحسيمة خلال شهر اكتوبر الماضي    فاطمة الزهراء العروسي تكشف ل"القناة" تفاصيل عودتها للتمثيل    مجلس الحكومة يصادق على تعيين إطار ينحدر من الجديدة مديرا للمكتب الوطني المغربي للسياحة    المحكمة الجنائية الدولية تنتصر للفلسطينيين وتصدر أوامر اعتقال ضد نتنياهو ووزير حربه السابق    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    قانون حماية التراث الثقافي المغربي يواجه محاولات الاستيلاء وتشويه المعالم    توقعات أحوال الطقس غدا السبت    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    ما صفات المترجِم الناجح؟    خليل حاوي : انتحار بِطَعْمِ الشعر    الغربة والتغريب..    كينونة البشر ووجود الأشياء    الخطوط الملكية المغربية وشركة الطيران "GOL Linhas Aéreas" تبرمان اتفاقية لتقاسم الرموز    المجر "تتحدى" مذكرة توقيف نتانياهو    رابطة السلة تحدد موعد انطلاق الدوري الأفريقي بالرباط    بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "الجمهورية الصحراوية" الوهمية    مفتش شرطة بمكناس يستخدم سلاحه بشكل احترازي لتوقيف جانح    القانون المالي لا يحل جميع المشاكل المطروحة بالمغرب    "سيمو بلدي" يطرح عمله الجديد "جايا ندمانة" -فيديو-    بتعليمات ملكية.. ولي العهد يستقبل رئيس الصين بالدار البيضاء    العربي القطري يستهدف ضم حكيم زياش في الانتقالات الشتوية    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تجدد الغارات الإسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية عقب إنذارات للسكان بالإخلاء        تفكيك خلية إرهابية لتنظيم "داعش" بالساحل في عملية مشتركة بين المغرب وإسبانيا    الولايات المتحدة.. ترامب يعين بام بوندي وزيرة للعدل بعد انسحاب مات غيتز    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جعيط: الغرب خرج من الدين .. والإسلام بريء من العنف
نشر في هسبريس يوم 20 - 02 - 2017

الحديث مع المفكر والباحث هشام جعيط أشبه بالسباحة في بحر من العلوم والمعارف التي لا يمكن الارتواء منها. يعيش الدكتور هشام جعيط، وهو الذي تجاوز الثمانين، سباقا مع الزمن؛ فهذا الرجل، الذي يعيش اليوم بين الكتب والعناوين، يسعى إلى إعادة قراءة ما كان طالعه منذ عشر سنوات بلهفة ومتعة فائقتين.
هشام جعيط، الذي استقبلنا في مكتبه ببيته في ضاحية المرسى بتونس، يؤكد أنه يعيد اكتشاف ما قرأه شابا بالأمس؛ ولكن بنظرة مختلفة، وهو يستمتع بإعادة اكتشاف ما كان خفيا عنه بين السطور.
المفكر هشام جعيط، الذي أسهم في تأثيث المكتبة الإنسانية بكتبه وبحوثه ومراجعاته حول تاريخ الفكر الإسلامي، يظل متابعا دقيقا للأحداث الدولية والمحلية وناقدا حصيفا لمختلف الأحداث المتسارعة في المشهد الدولي، بالرغم من حرصه على تجنب الظهور الإعلامي.
وخلال هذا اللقاء الذي جمعنا به، والذي تجاوز الثلاث ساعات، قدّم لنا المفكر هشام جعيط قراءته لمختلف الأزمات والصراعات الإقليمية والدولية وتوقعاته للأحداث في فرنسا وألمانيا؛ ولكن أيضا في سوريا واليمن وفلسطين وليبيا، بنظرة المفكر والناقد والمؤرخ الذي يواكب نبض العالم ويفاجئك أحيانا بمتابعة أدق التفاصيل والمستجدات. قد تتفق أو تختلف معه في توجهاته؛ ولكنه يظل ذلك المفكر الذي يضع العقل والفكر فوق كل الاعتبارات، ولا مجال معه للعواطف عندما يتعلق الأمر بالقضايا السياسية المصيرية.
انتقد جعيط العرب لعدم اهتمامهم بتاريخ الإنسانية والتاريخ القديم للصين واليابان والهند وهو يقول: "مخطئ من يعتقد أنه لا وجود لغير التاريخ الإسلامي أو ما هو غربي"، وأوضح أن الغرب خرج من الدين بعد أن تحققت له الصحوة وأدرك أن آليات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتعليم والمعرفة عارية عن الدين.
واعتبر جعيط أن الاضطرابات والطموحات في العالم الإسلامي ظلت على مدى العقود الثلاثة الأخيرة مرتبطة بالدين، وانتقد عزوف دول منطقة الشرق الأوسط عن تقبل الحرية والديمقراطية، واعتبر أنها لم تهضم حقوق الإنسان؛ كما رفض ربط الإسلام بالعنف، وأشار إلى أن الإمبراطورية الإسلامية لم ترتكب ما يرتكب اليوم من جرائم ضد الإنسانية، وقال إن الصراعات كانت حول السلطة وداخل القصور حيث الدسائس والاغتيالات؛ ولكن لم ترتبط بإبادة جماعية إلا في العصر الحديث.
وانتقد جعيط توجهات أردوغان، معتبرا أنه يسير على طريق الدكتاتورية، ووصف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالمزاجي والمفتقر للحس السياسي، وقارن الاستيطان الإسرائيلي بالزحف الروماني قائلا: "أخشى أن تضيع القضية الفلسطينية".
ووصف المفكر ذاته الصراع الإيراني السعودي بأنه صراع سياسي بغطاء ديني، وقال إن الوهابية على حرف السنة المتطرفة، وإن أغلب المذاهب الكبرى المعروفة تكاد تعتبرها خارجة عن السنة.
وفي ما يلي نص الحديث:
أين هشام جعيط مما يحدث في العالم؟ وهل لدى المفكر الذي أثار اهتمام النقاد والباحثين اهتمام بما هو خارج مكتبته ونادي الشطرنج الذي يتردد عليه؟
حياتي بين الكتب، وهذا عالمي. أقضي الوقت في إعادة قراءة ما سبق أن قرأته أيام الشباب؛ ولكن بتمعن، وفي كل مرة أكتشف المزيد وأتذوق أكثر ما كنت قرأته منذ عشر سنوات. أغلب الوقت أقرأ لهيغل، وأستمتع بمطالعة كتب التاريخ والفلسفة. أجد في ذلك نظرة مختلفة بإعادة قراءة التاريخ الإسلامي، وأنا مهتم جدا بتاريخ الأديان أو فلسفة الأديان وأجد في كتاب ماكس فيبر Max Weber سوسيولوجيا الدين Sociologie de la Religion أهمية كبرى، تماما كما أهتم بالتاريخ الروماني والهندوسية والبوذية وأهوى اكتشاف الحضارات الإنسانية. وأعتقد أنه مخطئ من يعتقد أنه لا وجود لغير التاريخ الإسلامي أو ما هو غربي. العرب لا يهتمون بتاريخ الإنسانية والتاريخ القديم للصين واليابان والهند، لكن دراسة الأنثروبولوجيا تفتح الآفاق .
كنت أهتم في شبابي بالفلسفة؛ ولكن لم أدرسها دراسة عميقة مثل اهتمامي بالتاريخ. ربما كان ذلك بتأثير من هيغل. انتهيت من قراءة كتاب مهم Désenchantement du Monde لمارسيل غوشيه Marcel Gauchet .. أخذ مفهومه عن ماكس فيبر، ويهتم فيه بالإنسانية التي كانت ترى العالم مليئا بالآلهة والجن والأرواح. لكن الغرب اليوم تخلص من هذه المعتقدات في وجود الماورائي وما هو فوق الطبيعة وغيرها من المعتقدات التي كان مسحورا بها. السؤال هو: كيف خرج العالم الغربي من الدين؟.. يعتقد صاحب الكتاب أن الغرب خرج من الدين لأنه مسيحي، وأن المسيحية هي الدين الذي يخرج العالم من الدين. طبعا، لا نقول إن الدين خرج من حياة الغرب؛ ولكن آليات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتعليم والمعرفة اليوم وكل ما تقوم عليه المجتمعات الإنسانية عار عن الدين، وهذا هو القصد.
طبعا، ستوجد دوما عناصر متدينة؛ ولكن الدول وما تقوم عليه المجتمعات يسير دون الاعتماد على الفكرة الدينية. وهذه هي آليات المجتمع الحديث، حيث المتدينون اليوم هم بقايا. أحيانا تستعر السيرة الدينية؛ لكن الغرب في الأساس خرج من الدين، ويمكن أن نضيف الصين أيضا، حيث المجتمع يتحرك بدون دين.. وهذه المجتمعات لا تعتمد على الثورات التي جرت على ما هو ديني..قد تعتمد كما في روسيا على أيديولوجيا متوطدة في الواقع الإنساني وليس في الواقع الماورائي. والأمر مختلف في الهند، حيث الدين مرتبط بالتركيبة الاجتماعية؛ فرغم أن الدولة الهندية لائكية، إلا أن قدرتها على فسخ ما يعتبر تراثية الأفكار الموروثة من الدين محدودة في مجتمع متخلف.
هل يعني هذا أن العالم الإسلامي يسير على عكس الغرب؟
العالم الإسلامي الحالي، ومنذ ثلاثين سنة تقريبا، في تحرك قوي واضطراب.. وما يريده من تغييرات ومطامح في هذه الفترة مستقر حول فكرة دينية وليس فكرة علمانية. في إيران مثلا جعلوا من الدين أيديولوجيا، مثل الشيوعية في روسيا. كل المجتمع وقعت إعادة أسلمته في المظاهر الخارجية وفي التركيبة الاجتماعية وفي صميم الدولة. وإيران البلد الوحيد الذي اعتمد الدين كإيديولوجيا تقوم عليها دولة مستقرة، على عكس بقية دول الشرق الأوسط التي تعيش حالة اضطراب مميت؛ فالحركات والتغييرات السياسية الكبرى تسير في مجرى التاريخ أو ضد مجرى التاريخ. والدول العربية والإسلامية، بما فيها أفغانستان والسودان وسوريا والعراق، التي تعيش اضطرابات وحروبا، توظف الدين، وتعيش انقسامات دينية كبرى بين السنة وبين الشيعة، وبين فرق السنة المتطرفة، كما في السعودية..
وهذه مسألة صعبة الحل لأن هذه الحركات تقول إنها تستقي أصولها من الدين، وهي متجهة نحو العنف الكبير، كما هو حال التنظيمات الإرهابية؛ ك"القاعدة" و"داعش". ولكن الحقيقة أيضا أن المنافسة بين السعودية وبين إيران منافسة سياسية؛ ولكن يجعلون لها غطاء دينيا. إيران شيعية حسب تعاليم الدين كما يرونها، والسعودية نظمت الدولة وكونتها على أيديولوجيا سنية متطرفة، إذ لم تكن هناك دولة في الجزيرة العربية قبل مائة عام. والوهابية تقف على حرف السنة المتطرفة، وأغلب المذاهب الكبرى المعروفة تكاد تجمع على أنها خارجة عن السنة، وهي الآن توظف للتأثير على المجتمعات الإسلامية.
ما يحدث في اليمن حرب شعواء وخسائر إنسانية باهظة؛ فالبلد على حافة مجاعة كبرى، وفي مواجهة مشكلة إنسانية.. كل هذا يحدث بإرادة قوى عربية. والعجيب كون المسلمين كانوا مهووسين بالتحديث في فترة القومية العربية، إلا فئة صغيرة من الساسة والمفكرين؛ ولكن حتى التحديث أخذوه من وجهة الاستبداد معتمدين على الاتحاد السوفياتي. ومن ذلك الرئيس العراقي صدام حسين وحافظ الأسد في سوريا؛ وهي أنظمة دكتاتورية تقوم على العائلات والاستخبارات.
قد أدهشني وآلمني جدا إعلان قتل وشنق 13 ألف مدني في أحد السجون السورية في دمشق.. هذا فظيع. العجيب أن دول الهلال الخصيب سوريا والعراق هي الأكثر استبدادا، ولم توظف الدين؛ بل الأيديولوجيا الحديثة الكليانية.
كيف ترى الأزمة في سوريا بعد التحولات الميدانية الأخيرة؟
لا أرى في ما يخص سوريا بعد الحرب الشعواء وتقرير أمنستي (وهي جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية) كيف يمكن حل الأزمة السورية. الجيش السوري يقوم على القرابة الدينية، ويتألف من أقليات تجمعها المصالح. الآن المشكلة هي أن بشار لم يقبل الثورة، وأصر على البقاء، فحصلت حرب أهلية.. كانت له الإمكانات للبقاء بسبب ولاءات طائفية قوية متحالفة مع السلطة، وقد ساعدته روسيا وإيران. الآن بالنسبة إلى الرأي العام العالمي ما ظهر وما سيظهر من جرائم ضد الإنسانية فظيع. أقول إن الحرب شيء والقتل شيء آخر.
مصيبة الشرق الأوسط هي أنه عالم لم يهضم معنى حقوق الإنسان.. حتى بورقيبة كون حزبا شعبويا في البداية وطبق فكرة الدكتاتورية؛ ولكن بما أنه في بلد صغير وتحت هيمنة فرنسا وأوروبا لم يمض بعيدا.. ولو نظرنا إلى أغلب قيادات التنظيمات المتطرفة والحركات الإسلامية سنجد أن أغلبهم جاهلون بمحتوى الدين.
لا أريد أن أظلم العالم الإسلامي في تقييماتي؛ فأغلبية دول العالم الثالث بعد الحرب العالمية الثانية كانت تحت سيطرة أوروبا، واتجهت سواء في إفريقيا أو جنوب آسيا إلى دكتاتوريات. إن نتائج الانتخابات غير ملزمة في هذه الدول. إفريقيا كانت خاضعة لاستبداد أوروبا، وجعلوا منها مصدرا للعبيد، وهذا لا يشرف أوروبا. قسم كبير من الإنسانية أخذ نسبيا بزمام أموره بعد استقلاله؛ ولكنه لا يخضع للقيم الحديثة.
أليس هذا متأصلا في تاريخ العرب والمسلمين وما حدث من فتن ودماء؟
نعم، وقعت فتن وحروب؛ ولكن الإمبراطورية الإسلامية، وحتى الإمبراطورية العثمانية، لم ترتكب جرائم إبادة جماعية إلا في العصر الحديث. كانت هناك فتن وصراعات في البلاطات حول الحكم، واغتيالات؛ ولكن الأمور الآن غير ذلك. أوروبا فرضت الانتخابات على دول إفريقية كثيرة؛ ولكن نتائجها غالبا غير ملزمة..
كيف تنظر إلى التجربة التركية؟
لو نظرنا إلى تركيا سنجد توظيف الدين بصورة شعبية. فأردوغان أراد أن يجعل من الانقلاب الفاشل مطية، وهو يستهدف غولن، وهو شخص صوفي، وكان في الأصل صديقه. انقلاب صغير ضخمه إلى درجة كبيرة واستعمله كي يضرب كل ما يتعلق بالحريات، واستهدف المعارضة والصحافيين والقضاة والأساتذة. كانت تركيا متقدمة إلى حد ما وتطمح إلى الدخول إلى الاتحاد الأوروبي؛ لكن أردوغان عزل الآلاف، وسجن كل من له قيمة، ولا يخضع للسلطة المطلقة الكليانية التي يريد أن يحدثها.
كل هذا صمتت عنه أوروبا، لأن تركيا محمية أمريكية، وهي عضو في الحلف الأطلسي ولها دور في أزمة اللاجئين. وهنا تتضح لعبة المصالح.. ولكن أخلاقيا أردوغان يسير في طريق الدكتاتورية. صحيح وجدت دكتاتوريات عسكرية في تركيا؛ ولكن أردوغان يتجه إلى دكتاتورية عسكرية منظمة، ويتكلم باسم الدين.
ولكن هناك أحزابا سياسية في تونس تدافع عن أردوغان وتعتبره نموذجا؟
لأنه مثلها..العقلية التونسية أيضا لم تهضم حقوق الإنسان والحريات؛ والفئات الشعبية لا تستطيع التحلي بالانضباط داخل الحرية. هذا أحد أسباب تردي الاقتصاد.. والاضطرابات مرتبطة بالثورة؛ ولكن أيضا بسوء استعمال الحرية. من ثم لا بد من بعض الوقت للتعود على الحريات.
بعد أن بدأت توجهات الرئيس الأمريكي ترامب تتضح، هل تعتقد أن لأوروبا دور في تعديل الكفة؟
العالم اليوم مضطرب. ليست هناك حرب عالمية تقليدية كما الحرب العالمية الثانية؛ ولكن هناك حروبا متعددة، وكل الدول تحولت إلى أطراف ودخلت في المعمعة، ولا أدري كيف ستنتهي الأزمة في سوريا مثلا. وما زاد الطين بلة أن أوروبا بدورها في أزمة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وتصاعد تيار القوى الشعبوية، وأكبرها حزب ماري لوبان في فرنسا، الذي بإمكانه الفوز في الانتخابات المقبلة والحصول على 40 في المائة من الأصوات، وهي نسبة مهمة من الفرنسيين الذين لا يقبلون بالاندماج في أوروبا ويريدون الانفصال ويرفضون المهاجرين. وهذه حالة تمييز عنصري قوي. لو فرضنا فوز لوبان، وإن كنتُ أستبعد ذلك، ثم خروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي، سيكون هذا تحولا خطيرا. الأمر مختلف عن بريطانيا التي اختارت الخروج لأسباب اقتصادية. ثم إن قادة بريطانيا ليسوا شعبويين، وهم بعيدون كل البعد عن لوبان. الأمر مختلف أيضا في ألمانيا التي لا يمكن للقوى الشعبوية أن تتقدم فيها بعدما أصاب البلد في عهد النازيين. ومن المتوقع فوز مركيل، بالرغم من أن التيار الاشتراكي مع الزعامة الجديدة لشولتز سيكون له وقعه في الانتخابات. ألمانيا متخوفة من المستقبل ومن التوجه إلى الانحطاط وتردي الاقتصاد ومن ضياع الثروة الاقتصادية.
نأتي إلى ترامب، فقد أدخل اضطرابا كبيرا على العلاقات مع الاتحاد الأوروبي ومع العالم، وأظهر أنه مزاجي وليس له حس سياسي. اعتمد على العناصر الفقيرة البيضاء، وهي الفئات الضعيفة من وسط أمريكا، ونجح في الوصول إلى البيت الأبيض. أمريكا النشطة متكونة من الساحل الشرقي والغربي في كاليفورنيا والمدن الكبرى. وأمريكا الحية استفاقت بقوة عندما تولى ترامب السلطة وأشهر الحرب على القوى السياسية. ومؤسسات الصحافة الكبرى لها دور مؤثر في الولايات المتحدة؛ فترامب أتى بأفكار محافظة في فترة لا تلائم هذه الأفكار؛ لأن المجتمع الأمريكي، الذي اتجه إلى الحرية والانفتاح، وخاصة الشباب الجامعي، صار يتحرك كما تحرك في أوروبا في الستينيات والسبعينيات وفي حرب فيتنام.
هناك تقهقر كبير في الإدارة الأمريكية بعد وصول ترامب، وهناك أيضا اضطراب داخل المجتمع والقضاء يقف ضده. ترامب لم يفقه أن الرئيس، حسب الدستور وحسب التقاليد الأمريكية، ليس له حكم مطلق، وأنه لا يمكنه تعيين أعضاء حكومته دون موافقة الكونغرس.
ما حدث هو أنه، بعد ثماني سنوات من حكم أوباما، يقع تداول الحكم بين الديمقراطيين وبين الجمهوريين الذين كانوا يرفضون ترشيح ترامب بسبب أفكاره الغريبة. الانفصال بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية وبين السلطة القضائية هو الأكثر رسوخا في أمريكا؛ فبإمكان قاض تعطيل أمر رئاسي. وترامب وقع في أخطاء كبيرة استهجنها العالم، ونسي أن أمريكا بلد حي به قيم راسخة.
هل يعني هذا أن المخاوف الأوروبية مشروعة؟
أوروبا متخوفة من ترامب، وهي في حالة ضعف. وإذا اتجه ترامب إلى الانعزالية القديمة وترك أوروبا متخليا عن العلاقات التي تأسست في أربعينيات القرن الماضي فقد يكون في ذلك مصلحتها. وربما يكون بالإمكان هنا الحديث عن إيجابيات لسياسة ترامب لتنهض أوروبا بذاتها عسكريا واقتصاديا. أوروبا تمثل 400 مليون نسمة، ولها قدرات كبيرة أيضا، وهي قبل الحرب العالمية الثانية لم تكن تابعة لأمريكا.
ولكن هذا أمر صعب لأن أوروبا في أزمة من صنع أمريكي. وهنا أتحدث عن أزمة أوكرانيا التي دخلت بمقتضاها أوروبا في أزمة مفتوحة مع روسيا. بمعنى أن كل ما يحدث غير عقلاني. والسياسة ليست دوما عقلانية..
أمريكا لها موقع قوي؛ فكل ما يقوم به ترامب صار يروج في العالم.. أصبحنا نرى صوره ونتابع أخباره كل يوم.
ولكن إسرائيل مرتاحة وقادتها سعداء بوجود ترامب في البيت الأبيض؟
لا أعتقد أن الولايات المتحدة ستتجه إلى تشجيع ناتنياهو..الإسرائيليون يستغلون فرصة وجود ترامب لتوسيع الاستيطان، وهذه فعلا مسألة خطرة جدا..هذا زحف للاستيلاء على كل الضفة الغربية.
ناتنياهو يعبر عن أغلبية المجتمع الإسرائيلي الذي يريد العودة إلى ما كان بيغن يخطط له. ورابين كان الشخص الوحيد الذي له نوايا سلمية؛ ولكنه قتل.
والعالم العربي نفض يديه من القضية الفلسطينية. عباس يتنفس بالمساعدات الأوروبية، ويسيطر على دولة ليست بدولة. والأوروبيون لا يقدرون على أكثر من ذلك.
كل العالم ضد سياسة ناتنياهو، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي، ويؤيد حل الدولتين؛ ولكن في الواقع لا وجود لأي حل.
أخشى أن تضيع القضية الفلسطينية نهائيا. ولكن يبقى هناك بصيص من الأمل ومصدر للتفاؤل بوجود الشعب الفلسطيني.. كل العالم يقول إنه ضد ناتنياهو؛ ولكنه لا يقوم بشيء لتفعيل ذلك القول. ولو نظرنا إلى ما يحدث في سوريا سنجد أن كل الفصائل السورية المعتدلة أو المتطرفة تحصل على السلاح من السعودية وقطر ومن تركيا وغيرها، على عكس الفصائل الفلسطينية تحت الاحتلال.
ما يحدث هو زحف استيطاني. وناتنياهو يراهن على الزمن للوصول إلى حدود الأردن. لم يحدث مثل هذا الزحف الاستيطاني عبر التاريخ إلا مع الرومان الذين كانوا يفتكون أراضي الغير بالقوة ويستوطنونها. وإن كانت سياسة الرومان منذ أكثر من ألفي سنة أكثر ذكاء ومرونة.
أوباما أراد وقف الاستيطان ونجح بعض الشيء، ولكن ما نلاحظه هو أن أي رئيس أمريكي غير قادر على الدخول في صراع مع إسرائيل، فاللوبيات المتنفذة قوية، ومنظمة ايباك AIPAC مستقرة في الدول الكبرى ولها إمكانات مالية رهيبة، ويسهم المسيحيون المتطرفون، وهم أقلية، في تمويلها ولهم تأثير على الانتخابات. أمريكا بقوتها لا يمكنها السيطرة على إسرائيل. عقدة الذنب مما جرى زمن هتلر لازالت قائمة في أوروبا، وخاصة في فرنسا، ليس حبا في اليهودية؛ ولكن بسبب ما حصل من عداء للسامية.
ولنذكر أن الفكرة الصهيونية جاءت من أوروبا قبل حتى ظهور هتلر، إذ كانت مع هرتزل ووعد بلفور. اليهود لهم تأثير في الغرب على المجتمع والدولة؛ ولكن للإعلام أيضا دوره، وقد تراجع اهتمامه بالقضية الفلسطينية، واتجه بدلا من ذلك إلى "داعش" والربيع العربي وتداعياته.
اخترت، منذ بداية اللقاء، الحديث عن القضايا الدولية والعربية الراهنة؛ ولكن لكل تلك الأوضاع تأثيرها على المنطقة التي ننتمي إليها، وتحديدا على تونس.. فكيف يبدو المشهد اليوم؟
أولا، أنا منشغل جدا بتفاقم الفقر في بلادنا وتراجع الطبقة المتوسطة وانهيار الدينار، رغم الإحساس بأن هناك تطورا في مجال الحرب على التنظيمات الارهابية. ما أعيبه على السياسيين في تونس هو أنهم غير مهتمين بما يدور من حولنا في العالم ولا يهتمون إلا بالأمور المحلية، وهذا خطأ تشترك فيه الأحزاب المتنافسة وحتى وسائل الإعلام التونسية، التي لا تهتم بغير الشأن الداخلي وبالتنافس بين الأحزاب.
الشوفينية هي التي تهيمن على المشهد التونسي في بلد صغير لديه مشاغله، وهي كثيرة؛ ولكنه يبقى جزءا من العالم يتأثر به ويؤثر فيه. لا أشعر بأن هناك انفتاحا فكريا واهتماما بالعالم. ما يجري في تونس انطواء على الذات، والقضايا الداخلية باتت تهيمن على الاهتمام. العالم مفتوح وقد اخترت الحديث عن هذا العالم المضطرب. والانكفاء على الذات ليس دوما خيارا جيدا.
أما مشكلة ليبيا، فتتجاوز قدراتنا، وما يقال عن جولات وصولات زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي في الشأن الليبي والدبلوماسية الشعبية مجرد شو show..مفاتيح الملف الليبي ليست بيده. قد يكون للجزائر دور في الحل؛ ولكن أنظار الغرب واهتماماته موجهة إلى ليبيا. حتى الأمم المتحدة لا وزن لها إلا في المسائل الإنسانية، فهي تسير في فلك الولايات المتحدة وتحت مظلتها. تونس يمكن أن تقدم رأيا في الشأن الليبي، فلنا حدود كبيرة ومصالح أيضا مع هذا البلد؛ لكن لا أعتقد أن القمة الثلاثية المرتقبة قادرة على تغيير الأمور.
هل نحن إزاء نهاية مرحلة "داعش"؟
الحرب مستمرة..الجيش العراقي بدأ يستعيد دوره، وينظم صفوفه لاستعادة الموصل، وهذا مهم.. وهناك عدة قوى تحارب هذا التنظيم، بما في ذلك النظام السوري. القوى الدولية متحالفة بالكلام ضد التنظيم وليس بالفعل، وهذا ما أخّر إنهاءه؛ غير أن نهايته كدولة محتلة لمساحات شاسعة لم تعد بعيدة. الخطر هو أن يبقى "داعش" كتنظيم مثل القاعدة تماما، يعني بلا قاعدة ترابية. لقد قتل الكثير من قياداته؛ ولكن ظهر آخرون..ضعفت "القاعدة" وضعف تنظيم "داعش"، ومن الواضح أنه سيدمر كدولة.
هل تؤيد عودة المقاتلين من بؤر التوتر أو من يسميهم البعض بالتائبين؟
أرفض عودتهم، فلماذا يعودون؟ لقد اختاروا القتال أو ما يسمونه بالجهاد من لأجل قناعاتهم، فلماذا يعودون؟
وهل تؤيد عودة العلاقات مع سوريا؟
قطعا، لا.. هناك حرب مستمرة، وهناك فظاعات، خاصة بعد تقرير أمنستي الأخير..
لكن دمشق تنفي ذلك. ثم إنه ليست هناك وثائق تؤكد وقوع تلك الجرائم..
طبعا، ينفون ذلك؛ ولكن الأرجح هو أنها حصلت، فنظام الأسد الأب والابن دموي..
دول أوروبية كثيرة، بما فيها بريطانيا، باتت تعتبر أن الأهم هو الحرب على "داعش" وليس رحيل الأسد.
نحن أيضا ضد "داعش"، ونحن أيضا في تونس تعرضنا لإرهاب "داعش"، ونحن أيضا في حرب ضد الإرهاب؛ ولكن في ما يتعلق بالنظام السوري يمكن أن نعتبر أنفسنا أول بلد نجحت فيه فكرة الديمقراطية وقمنا بقطع العلاقات مع سوريا، ولا يمكن الاعتراف بنظام الأسد الآن. موقف بريطانيا يلزم البريطانيين، ولا بد من قيم ثابتة. الثورة قامت على زخم شعبي كبير، ولا يمكن التراجع عن ذلك .
هل يشعر هشام جعيط بالحنين إلى فرنسا؟
أعرف باريس عن ظهر قلب. أحب الجلوس في المقاهي الباريسية ومتابعة المعارض الفنية. آخر زيارة لي للعاصمة الفرنسية كانت سنة 2013؛ ولكن كل هذا بات اليوم صعبا، بعد وفاة زوجتي وتقدمي في السن. كنت أيضا مغرما بالسينما؛ ولكن اليوم أجد من الصعب عليّ البقاء في قاعة مظلمة لمتابعة فيلم، والحال أن القنوات التلفزيونية تقدم لنا ذلك.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.