تعلمنا نظريات تحليل الخطاب، بغض النظر عن جنسه، أن لكل خطاب مميزاته وخصوصياته. وأن كل الخطابات تقوم أساسا على التأثير في الآخر. قد تتداخل الخطابات وتتقاطع، لكن عدم وضع كل منها في إطاره السليم ضرب من العبث، وتجن على الخصوصية. فما هو الخطاب الديني بمقارنته بالعلمي؟ وهل يمكن للخلط بينهما أن يجعلنا بمنأى عن الدجل والادعاء؟ الخطاب الديني مبني على الإيمان بعالمي الغيب والشهادة. أما العلمي فمؤسس على عالم الشهادة فقط لأن هدفه تقديم معرفة علمية. الإيمان مطلق، والمعرفة العلمية نسبية، وإلا تحولت إلى اعتقاد مثل الدين. لذلك يمكن للمرء أن يقول: أنا مؤمن بما جاء به الدين، ولا يمكنه قول أنا مؤمن بهذه النتيجة العلمية، لأنه بذلك يحول العلم إلى دين. العلم بحث واستكشاف، والدين إيمان واعتقاد. هذا التمييز لا يعني أنه لا يمكن للعالم أن يكون مؤمنا، والكثير من العلماء مؤمنون. وبالمقابل يجب أن يكون المؤمن عالما. ينتهي عمل العالم في المختبر، وما يؤمن به خارج اختصاصه يدخل في نطاق «وجهة نظره» التي لا علاقة لها بالعلم. وإذا أراد تبرير وجهة نظره بالعلم فهو يتأول ما لا يقدمه له البحث العلمي. والشيء نفسه نقوله عن المؤمن الذي يريد توظيف اعتقاده الديني بما يُتوصَّل إليه علميا. إن المفكر الذي يقوده تفكيره، أولا، إلى إنكار وجود الله بتفسيره ذلك بالخوف البشري، وثانيا بعجزه عن تفسير الظواهر الطبيعية، أو أن العلم جاء لرفاهية الإنسان، ثالثا، مؤول للمعرفة العلمية، ومتجاوز لحدودها. فالخوف من طبيعة الإنسان والحيوان بغض النظر عن ارتباط ذلك بعالم الغيب. ولا يمكن للعلم أن يوقف أي نوع من الخوف، سواء كان طبيعيا أو فوق طبيعي. أما تفسير الظواهر غير الطبيعية فلا يمكن للعلم أن يعطيننا فيها أي جواب كما يقدمه لنا الدين. فما يعرفه الإنسان اليوم عن الظواهر الطبيعية بواسطة العلم يتجاوزه غدا. من الفيزياء الكلاسيكية إلى اليوم تظهر دائما معرفة علمية جديدة تتجاوز ما كان بالأمس. فالانفجار العظيم، والثقوب السوداء، وتمدد الكون المتسارع، وغيرها من المعارف يتم اليوم تجاوزها إلى غيرها. يحدث الأمر نفسه مع علم الآثار، أو غيره من العلوم. فكلما تم العثور على جديد، اليوم، تتغير نظرة الناس، وسيبرز آخر في مكان وزمان آخرين، ويثبت أنه أقدم منه. لذلك فإن تحويل «حقيقة» علمية ما إلى اعتقاد يؤول أيديولوجيا للدفاع عن أطروحة ما. يقول باسكال: «يجب اعتبار البشر الذين يتعاقبون على مرّ أجيال عديدة مثل إنسان واحد ما يزال حيا، ويتعلم باستمرار». ومعنى ذلك أن المعرفة العلمية مفتوحة أبدا. وإغلاقها يحولها إلى نقيضها. استغل الكهنوت الدين للسيطرة على العقول وابتزازها ماديا، وتاريخ المسيحية الوسيطي دليل على ذلك، لأن الكهنوت كان يحتكر «المعرفة الدينية». كما أن بعض الفقهاء في الإسلام استغلوا المذهبية للدفاع عن الأيديولوجيا السياسية التي تتبناها الدولة. إن النقاشات حول الدين حاليا في مختلف الوسائط، وهي لا تميز بين التاريخ الإسلامي، وما جاء به الإسلام، لا علاقة لها بروح الدين، وما جاء به للارتقاء بالإنسان وجوديا أو فرديا أو اجتماعيا. إنها سجالات سياسوية تتخفى وراء الدين، أو التاريخ لعجزها عن مواجهة المشاكل السياسية الحقيقية التي يتخبط فيها العالم الإسلامي. أما العَلْمووت العربي، الآن، فلا علاقة له بالبحث العلمي، وهو لا يشتغل به. يقتصر العلم، اليوم، على من يمتلك الوسائل المادية والمعرفية، وهو من ينتجه ليستغله مطورو صناعة الأسلحة، وممولو برامج البحث العلمي من الشركات الكبرى والدول المتقدمة لبسط الهيمنة على مقدرات الشعوب التابعة. إن أهم البرامج العلمية لتطوير صناعة الأسلحة، على سبيل المثال، ليست لتحقيق الأمن أو الرفاه للإنسان كما يدعي من تحمسوا للعلم ضد الدين في غرب الأنوار. وكذلك غزو الفضاء، والتسابق العلمي لفرض الهيمنة السياسية والاقتصادية، وحرمان بعض الشعوب بالاشتغال ببعض العلوم التي يحتكرونها لأنفسهم. لا فرق بين الكهنوت، في الغرب، وبعض الفقهاء في الإسلام قديما وحديثا، والعلمووت، من جهة، وكذلك كل من يعتقد في العلم أو الدين الموظف إيديولوجيا وسياسيا، من جهة ثانية. إن كل واحد منهم يرمي بذلك إلى إلغاء الآخر، والترويج لدعاواه لكسب النصير والدهماء. إن ما يشترك فيه كل هؤلاء المدعين هو أن كلا منهم يزعم أنه يقدم معرفة دينية أو علمية جديدة، أو يُبسط المعرفة العلمية، أو يقدم ما ظل مخفيا من أمور دينية، وهو لا يقدم سوى التفاهة باسم العلم أو الدين. عندما يتراجع دور العلماء والفقهاء الحقيقيين والمتخصصين للحديث عن العلم أو الدين، يبقى المجال مفتوحا لأصحاب الأهواء والنعرات، مستغلين الوسائط المتاحة للإفصاح عن أكاذيبهم، ونشر التفاهة التي تستهوي مشاعر العامة. يكتب أينشتاين: «العلم بغير دين أعرج، والدين بغير علم أعمى». لكن أي دين؟ وأي علم؟ الإسلام دين علم وعمل. «من لا يأمن جارُه بوائقَه»، مثلا، لا علاقة له بالإسلام. والعلم نظر وعمل. والعلم الذي يوظف لفرض الهيمنة، لا يضمن الرفاهية للإنسان، ولكنه يمارس الإبادة ضد الإنسان. ومن يتشدق بالدين، ويكتفي منه بالجزئيات مثله مثل من لا يشتغل بالعلم، ويدعي «العلمية» فيما يقول. لا فرق بين الكهنوت والعلمووت، وكلهم في غيهم يعمهون.