طنجة تتأهب لأمطار رعدية غزيرة ضمن نشرة إنذارية برتقالية    تساقطات ثلجية وأمطار قوية محليا رعدية مرتقبة الأحد والاثنين بعدد من أقاليم المغرب    نشرة انذارية…تساقطات ثلجية وأمطار قوية محليا رعدية مرتقبة الأحد والاثنين بعدد من أقاليم المملكة    توقيف ثلاثة مواطنين صينيين يشتبه في تورطهم في قضية تتعلق بالمس بنظم المعالجة الآلية للمعطيات الرقمية    توقيف 3 صينيين متورطين في المس بالمعطيات الرقمية وقرصنة المكالمات الهاتفية    ريال مدريد يتعثر أمام إسبانيول ويخسر صدارة الدوري الإسباني مؤقتًا    ترامب يعلن عن قصف أمريكي ل"داعش" في الصومال    ريدوان يخرج عن صمته بخصوص أغنية "مغربي مغربي" ويكشف عن مشروع جديد للمنتخب    "بوحمرون".. الصحة العالمية تحذر من الخطورة المتزايدة للمرض    الولايات المتحدة.. السلطات تعلن السيطرة كليا على حرائق لوس أنجليس    أولياء التلاميذ يؤكدون دعمهم للصرامة في محاربة ظاهرة 'بوحمرون' بالمدارس    CDT تقر إضرابا وطنيا عاما احتجاجا على قانون الإضراب ودمج CNOPS في CNSS    هذا هو برنامج دور المجموعات لكأس إفريقيا 2025 بالمغرب    الشراكة المغربية الأوروبية : تعزيز التعاون لمواجهة التحديات المشتركة    تحويلات المغاربة المقيمين بالخارج فاقت 117 مليار درهم خلال 2024    مقترح قانون يفرض منع استيراد الطماطم المغربية بفرنسا    حجز أزيد من 700 كيلوغرام من اللحوم الفاسدة بطنجة    توقعات احوال الطقس ليوم الاحد.. أمطار وثلوج    اعتبارا من الإثنين.. الآباء ملزمون بالتوجه لتقليح أبنائهم    انعقاد الاجتماع الثاني والستين للمجلس التنفيذي لمنظمة المدن العربية بطنجة    مؤسسة طنجة الكبرى تحتفي بالكاتب عبد السلام الفتوح وإصداره الجديد    شركة "غوغل" تطلق أسرع نماذجها للذكاء الاصطناعي    البرلمان الألماني يرفض مشروع قانون يسعى لتقييد الهجرة    تفشي "بوحمرون" في المغرب.. أرقام صادمة وهذه هي المناطق الأكثر تضرراً    BDS: مقاطعة السلع الإسرائيلية ناجحة    إسرائيل تطلق 183 سجينا فلسطينيا    ثمن المحروقات في محطات الوقود بالحسيمة بعد زيادة جديد في الاسعار    رحيل "أيوب الريمي الجميل" .. الصحافي والإنسان في زمن الإسفاف    الانتقال إلى دوري قطر يفرح زياش    زكرياء الزمراني:تتويج المنتخب المغربي لكرة المضرب ببطولة إفريقيا للناشئين بالقاهرة ثمرة مجهودات جبارة    مسلم يصدر جديده الفني "براني"    المجلس العلمي المحلي للجديدة ينظم حفل تكريم لرئيسه السابق العلامة عبدالله شاكر    تنس المغرب يثبت في كأس ديفيس    بنعبد الله يدين قرارات الإدارة السورية الجديدة ويرفض عقاب ترامب لكوبا    "تأخر الترقية" يخرج أساتذة "الزنزانة 10" للاحتجاج أمام مقر وزارة التربية    لمن تعود مسؤولية تفشي بوحمرون!    المغرب التطواني يتمكن من رفع المنع ويؤهل ستة لاعبين تعاقد معهم في الانتقالات الشتوية    توضيح رئيس جماعة النكور بخصوص فتح مسلك طرقي بدوار حندون    لقجع: منذ لحظة إجراء القرعة بدأنا بالفعل في خوض غمار "الكان" ولدينا فرصة لتقييم جاهزيتنا التنظيمية    العصبة الوطنية تفرج عن البرمجة الخاصة بالجولتين المقبلتين من البطولة الاحترافية    الولايات المتحدة الأمريكية.. تحطم طائرة صغيرة على متنها 6 ركاب    بنك المغرب : الدرهم يستقر أمام الأورو و الدولار    المغرب يتجه إلى مراجعة سقف فائض الطاقة الكهربائية في ضوء تحلية مياه البحر    القاطي يعيد إحياء تاريخ الأندلس والمقاومة الريفية في عملين سينمائيين    انتحار موظف يعمل بالسجن المحلي العرجات 2 باستعمال سلاحه الوظيفي    السعودية تتجه لرفع حجم تمويلها الزراعي إلى ملياري دولار هذا العام    الإعلان عن تقدم هام في التقنيات العلاجية لسرطانات البروستات والمثانة والكلي    غزة... "القسام" تسلم أسيرين إسرائيليين للصليب الأحمر بالدفعة الرابعة للصفقة    محاضرة بأكاديمية المملكة تُبعد نقص الذكاء عن "أطفال صعوبات التعلم"    حركة "إم 23" المدعومة من رواندا تزحف نحو العاصمة الكونغولية كينشاسا    هواوي المغرب تُتوَّج مجددًا بلقب "أفضل المشغلين" لعام 2025    أي دين يختار الذكاء الاصطناعي؟    الممثلة امال التمار تتعرض لحادث سير وتنقل إلى المستشفى بمراكش    الفنانة دنيا بطمة تغادر السجن    نتفليكس تطرح الموسم الثالث من مسلسل "لعبة الحبار" في 27 يونيو    أربعاء أيت أحمد : جمعية بناء ورعاية مسجد "أسدرم " تدعو إلى المساهمة في إعادة بناء مسجد دوار أسدرم    غياب لقاح المينانجيت في الصيدليات يعرقل سفرالمغاربة لأداء العمرة    أرسلان: الاتفاقيات الدولية في مجال الأسرة مقبولة ما لم تخالف أصول الإسلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مجيد: هكذا نشأت "العلاقة الحميمة" بين المغرب والولايات المتحدة
نشر في هسبريس يوم 20 - 02 - 2017

تشغل أمريكا العالم، وينشغل بها. وقد سبقت الثورة الأمريكية الثورة الفرنسية وألهمت بعض زعمائها. ولعب المثقفون الأمريكان دورا كبيرا في هذه الثورة وبناء اتحاد الولايات الأمريكية، كما أشاعوا الفكر التنويري أساس هذه الثورة ذات البعد الكوني. وكان المغرب أول دولة اعترفت بهذا البلد الثائر، وحمى سفنه التي تعبر المحيط، فضمن لنفسه مكانة خاصة في تاريخ أمريكا، فأبان المولى محمد بن عبد الله عن نظرته الإستراتيجية...
هذه محاور وأخرى يتطرق إليها الحوار مع الروائي والمفكر المغربي الأمريكي أنور مجيد في ثلاثة أجزاء..وهذا الجزء الأول من هذا الحوار الثري والطويل:
كيف تقرأ حدث كون المغرب أول دولة اعترفت بأمريكا، الدولة الحديثة الإعلان عن نفسها، بالرغم من البعد الجغرافي الذي يفصل بين البلدين؟
يرجع الفضل في ذلك إلى السلطان محمد بن عبد الله، فقد كان رجلا متفتحا، يتميز بأفكار متنورة، وكان رجلا مهتما بالسلم بكل ما في الكلمة من معنى. وكان منفتحا على الآخر. وقد نجد لذلك بعض الأسباب أو المبررات الجيوسياسية؛ منها أنه كان لا يريد أن يسقط البلد في يد بريطانيا، التي كانت تتحيّن الفرص للانقضاض عليه. وفي دجنبر (1777)، حدد السلطان عددا من الدول التي يمكن للمغرب أن يتاجر معها، وذكر من بينها الولايات المتحدة. وهكذا، أصبح المغرب أول دولة تعترف بالولايات المتحدة. وفي السنة التي تلت الاعتراف، أعطى للبواخر الأمريكية، التي تحمل العلم الأمريكي، حق دخول الموانئ المغربية. مع العلم أنه في سنة (1777)، كانت الحرب لا تزال قائمة بين أمريكا وبين بريطانيا، ومع البريطانيين التي يقيمون بأمريكا. لم يكن الأمر قد حسم بعد بين من سينتصر وبين من سيهزم في هذه الحرب. وتلك شجاعة وجرأة سياسية عجيبة من المولى محمد بن عبد الله؛ وهو ما جعل المغرب يظل يحتل مكانة خاصة في تاريخ الولايات المتحدة.
لفتت انتباهي الرسالة التي بعث بها أول رئيس أمريكي لسيدي محمد بن عبد الله يطلب منه حماية المغرب للسفن التي تجوب المحيط؛ لأن أمريكا غير قادرة على حمايتها، فهي بلد حديث العهد بالاستقلال ولا يملك من القوة ما يمكنه من حماية سفنه تلك... ومما جاء فيها: "ولا يوجد في الولايات المتحدة، اليوم، مناجم الذهب أو الفضة. وأن أمريكا التي خرجت للتو من حرب مؤلمة لم يتح لها الوقت لتطوير الزراعة والتجارة؛ ولكن الولايات المتحدة ستصبح مفيدة لأصدقائها لأن باطن أرضها غني والشعب كادح"..
كان سيدي محمد بن عبد الله يطلب من أمريكا أن ترسل مبعوثا يمثل المصالح الأمريكية بالمغرب أسوة بباقي القناصلة الأجانب بالمغرب. وقد تأخرت أمريكا في الاستجابة، لأنها تعاني مشاكل داخلية ترتبط بحداثة إعلان الدولة وما يتبع ذلك من قضايا، فاضطر السلطان أن يوقف سفينة أمريكية تسمى "بيتسي "(Betsey)، للضغط على أمريكا ، أرسلت حينها ممثلا للمصالح الأمريكية ويدعى توماس باركلي سنة (1786)، وهو القنصل العام الأمريكي بباريس. وجرى توقيع معاهدة الصداقة والسلام. ثم أعيد توقيع تلك المعاهدة في الثلاثينيات من القرن الماضي، ولا تزال قائمة إلى يومنا هذا.. وهي أقدم معاهدة وقعتها أمريكا مع دولة من دول العالم. وقبل تأسيس الكونغرس الجديد وفق الدستور الجديد لأمريكا، سنة (1787)، كتب رجال الكونغريس القديم للسلطان المغربي يقولون إننا نشكر ما قمت به من أعمال، وإذا ما حل رعاياك بالولايات المتحدة الأمريكية، فإننا سنتحمل مسؤوليتنا نحوهم، ونرحب بهم.. وقد كتب هؤلاء باسم أمريكا رسالة رائعة للمغرب، قبل أن يكتب جورج واشنطن رسالته، التي أشرتَ إليها، والتي شكر فيها الملك، وتحدث عن تأخر أمريكا في تلبية طلب السلطان في بعث ممثلها، ثم شكر السلطان وهو يخاطبه بأسلوب رفيع واحترام كبير، بالرغم من كون الأمريكيين كانوا، يومها، متشبعين بالفكر الجمهوري.. ومن يومها، نشأت العلاقة الحميمة بين المغرب وبين الولايات المتحدة، الدولة الناشئة..
وبعد أن توفى الله محمد بن عبد الله، تابع بعده ابنه، المولى سليمان، السبيل ذاتها... وهو الذي قال للدبلوماسي الأمريكي جيمس سامبسون، أول قنصل أمريكي يعين بالمغرب: "كانت أمريكا الدولة المسيحية التي تحظى بأكبر التقدير من قبل والدي أكثر من غيرها. وإنني أكن التقدير نفسه للأمريكيين، وأنا واثق من أنهم يبادلونني التقدير ذاته"..
بالفعل، لما جاء السلطان المولى سليمان، أهدى بناية بطنجة لأمريكا حتى تكون لهذه الدولة تمثيليتها، ويكون لهذه التمثيلية مقر مثل باقي القناصلة الأجانب، مثل فرنسا، وبريطانيا... وقد كان المولى سليمان معجبا بأمريكا، وقال للمسؤولين للأمريكيين أنتم الدولة المفضلة بالنسبة إلي (The most favor nation). وقد أصبحت تلك البناية بطنجة أقدم ملكية مسجلة للولايات الأمريكية خارج التراب الأمريكي. وهي بناية تاريخية.
هي البناية الأولى، ولكنها أيضا الوحيدة التي تمتلكها أمريكا خارج التراب الوطني الأمريكي..
بالفعل، وقد كان القنصل البريطاني جيمس مولوْني، أواسط القرن التاسع عشر، هو من لاحظ أنه بمنطقة التقاء البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي تحدث حوادث بحرية خطيرة، فاقترح أن يبنى هناك منارا. (لايت هاوس). وبعد مضي وقت معين تكونت لجنة عالمية تشكلت من عدة دول؛ من بينها الولايات المتحدة والمغرب.. وأسهمت هذه الدول ماديا لبناء منار. وهو ما يسمى الآن "بكاب سبارطيل". ويعدّ هذا الإسهام، بالنسبة إلى الولايات المتحدة، أول اتفاقية عالمية أسهمت فيها أمريكا. ولذلك، كان المولى عبد الرحمان يقول أُفَضِّلُ الحماية الأمريكية على أية حماية من أية دولة أخرى. هذه طبيعة العلاقات المغربية الأمريكية مع بداية نشوء الولايات المتحدة. ثم إن المغرب، لما كانت الحرب الأهلية على أشدها في الولايات المتحدة، رفض مساعدة الجنوب الأمريكي (الفيدرالية)، وكان متعاطفا مع الجيش المتحد (يونيون آرمي)، مع جيش الشمال ومع "أبراهام لنكولن". وهكذا، فقد كان المغرب، عبر التاريخ، في المكان المناسب، وفي الوقت المناسب.. وهذا جزء من عبقرية النظام المغربي عبر التاريخ..
في رسالة جورج واشنطن وردت عبارات تلفت انتباه قارئها؛ فقد قال الرئيس نحن دولة ناشئة، ولم نقف على خيرات باطن الأرض بعد، وهذه رؤيا قائد يحدس خيرات باطن الأرض ذاتها ومستقبلها، قبل أن يشمر الشعب، الذي شمر عن ساعديه، ويكتشفها ويتقدم بدولته حديثة الميلاد لتحتل قمة الترتيب العالمي بين الدول العالم..
كانت أمريكا، يومها، بغير حجمها الحالي؛ فقد تمدد حجمها في القرن التاسع عشر.. ولكن مبادئ الثورة الأمريكية، وتحريضها على العمل، والفكر، والمساواة.. ظل على ما كان عليه. وكان مفكرو البلد شجعان، ونبهاء، ومعتدلين أيضا.. وكانت لهم رؤيا متجهة نحو المستقبل. ولذلك، ثاروا ضد النظام الذي كان يستبد بحيوات المقيمين البريطانيين في شمال أمريكا. فقد كانت الحروب بين بريطانيا وبين أمريكا تتطلب من بريطانيا الرفع من الضرائب باستمرار لتمويل حروبها؛ وهو ما أثقل كاهل المواطنين. كما اشتكى المواطنون من عدم وجود ممثلين لهم بالبرلمان لينقلوا معاناتهم، ومطامحهم. وكانت هذه العناصر من أسباب الثورة، فالثورة الأمريكية ثورة منطقية، ليست إيديولوجية، هي ثورة ضد الاستبداد، الذي كان يمثله الملك الانجليزي يومها كينث شارلز. ولما تم تحرير إعلان الاستقلال ونشر سنة (1776) ورد فيه أننا نقدم نموذجنا إلى كل الإنسانية، إلى الرأي العام العالمي، وقد قمنا بما قمنا به لهذه الأسباب، ولأن كل الناس متساوون.. ثم قدمت لائحة طويلة بأفعال استبداد ملك إنجلترا.. وتمت الإشارة إلى العبودية، وكيف استغلت إنجلترا العبيد.. ولهذا اتفقنا اليوم، على تأسيس دولة خاصة بنا.. وقد كان إعلان الاستقلال موجها إلى كل الإنسانية. وهو أول إعلان من نوعه في تاريخ البشرية. وقد قلدته دول ومنظمات ومؤسسات عبر العالم، فيما بعد..
تعدّ الولايات المتحدة أول جمهورية في العصر الحديث؛ ولكنها لم تتم الإشارة إلى طبيعتها الجمهورية في تسمية البلد لحظة ميلاده.. بل أشير إليها باسم "الولايات المتحدة الأمريكية"..
صحيح، ولكن الإشارة إلى النظام الجمهوري وردت في عدة مؤلفات، وقام النظام الجديد على الفصل بين السلط، وتأسيس نظام رئاسي، ونظام سياسي ديمقراطي يقوم على الانتخابات، وأبعدت فكرة الحكم الوراثي الذي يقوم عليه النظام الملكي عامة، والنظام الإنجليزي بالضرورة.
لاحظ، مثلا، فرنسا بعد الثورة وإقامة النظام الجديد أطلقت على نفسها "الجمهورية الفرنسية"..
بالفعل، لم يكن الأمر كذلك بالولايات المتحدة، بالرغم من أنها هي التي أطلقت فكرة النظام الجمهوري.. أطلقت على نفسها الولايات المتحدة، قد تكون استمدتها من تاريخها الخاص، فلكل ولاية دستورها الخاص، مثلا يعدّ دستور ولاية ماساشوستس من أقدم دساتير العالم.. ولما اجتمعت هذه الولايات لتأسيس دستور على المستوى الوطني، استفادت من تجاربها السابقة لأنها نعمت بالحكم الذاتي من قبل. ولا يزال لكل ولاية دستورها الخاص إلى اليوم؛ فقد تأسست الولايات المتحدة على أساس أنها ولايات تتمتع بحرياتها، واستقلالها الذاتي، واجتمعت بمحض إرادتها لتأسيس نظام جديد فيدرالي.
وكان النموذج متقدما لأنه استفاد من تجارب متعددة لولايات مستقلة مارس القائمون على شأنها الحكم الذاتي، ووقفوا على حاجيات الناس الحقيقية..
بالفعل، التجارب السابقة والمتنوعة أفادت البلد الجديد؛ لو عدنا مثلا إلى دستور ماساشوستس، وهو من أقدم دساتير العالم، لوجدناه يحتفي بالتنصيص على عدة حقوق؛ ومنها الحق في التعليم، والتركيز على أهمية التعليم. لذلك، لا تزال هذه الولاية معروفة بقوة نظامها التعليمي وجامعاتها المتميزة، والرائدة
ما يلفت النظر في شعارات الولايات الأمريكية المختلفة تردد شعار: "نثق في الله"..
هذا الشعار ظهر في الخمسينيات من القرن العشرين، أيام الحرب الباردة بين الولايات المتحدة وبين الاتحاد السوفييتي. وقد انتشرت شائعة، يومها، مفادها أن الشيوعيين ملحدون. وظهر الشعار كرد فعل على ذلك، ومعنى الشعار أننا دولة مؤمنة، وبدأ الأمريكيون ينقشون على عملتهم، الدولار، هذا الشعار؛ ولكن لا وجود لهذا الشعار في القرن التاسع عشر، ولا في الشعار الوطني حين ينشد: (آندر گود أنديفيزيبل، (Under God Indivisible)) فقد ظهر أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وقد اعتمد الشعار الوطني على قصيدة لشاعر اشتراكي وأضيف إلى النص الشعري ما يضفي عليه مناخا دينيا. ومعنى ذلك أن هذه الإضافات ولّدتها ظروف تاريخية تنتمي إلى فترة تاريخية تعود إلى ما بعد الثورة الأمريكية. أما أداء الرئيس الأمريكي للقسم وهو يضع يده على الكتاب المقدس، فهو مجرد تقليد وليس مادة أو بنداً ينص عليه الدستور. (لو حدث أن كان الرئيس مسلما أو مسيحيا لمارس التقليد ذاته أو قد يتجنبه). وقد جرى في الولايات المتحدة، لأول مرة، الفصل بصفة رسمية بين الدين وبين الدولة. ولكن لكل مواطن الحق في حرية المعتقد، وممارسة الشعائر، والدولة تمثل حكما، تفصل بين الجميع، ولا تنتمي إلى أحد. من ينتمي إلى الدولة كأنه شخص انتمى إلى سلك الجندية، لا حق له في الانتماء إلى حزب أو منظمة، بل هو ينتمي إلى الوطن. ويعامل كل المواطنين على قدم المساواة سواء كانوا عربا أو يهودا.. بغض النظر عن انتمائهم العقدي والعرقي، وغير ذلك.. وتعتبر هذه الفكرة فكرة ثورية في التاريخ الحديث..
تحدثنا، منذ قليل، عن البعد الاجتماعي للثورة الأمريكية والبعد الاقتصادي: ظُلم الملك للمواطنين الإنجليز، ومضاعفة الضرائب لتمويل الحرب على أمريكا؛ لكن نجد لهذه الثورة بعدا ثقافيا عميقا، تمثل مثلا في كتابات "باين". فقد أتى بأفكار رائعة في التاريخ الإنساني تهم الحقوق، والمساواة، والدعوة إلى القضاء على الظلم والاستغلال..
بالفعل، ويصعب فهم الثورة الأمريكية من دون الإلمام بحركة التنوير أو فلسفة الأنوار. فتلك هي المرحلة الأولى التي شرع الفكر فيها يتحرر، وينفصل عن الفكر الديني؛ فقد سبق ظهور عصر الأنوار بزوغ الثورة العلمية في مجالات عدة، وبدأ الإنسان ينظر إلى العالم برؤية مغايرة عن الرؤية السائدة في ذلك الزمن.. أتحدث هنا عن مجموعة من الفلاسفة والمفكرين، وليس عامة الناس طبعا، ومنهم جون لوك الإنجليزي، أو جان جاك روسو الفرنسي، أو فولناي الذي كتب مجموعة من الكتب موضوعها الإسلام، وكيف تقهقرت حضارة الشرق الأوسط، التي كانت مزدهرة ثم تراجعت.. وهكذا، ركزت كتابات هؤلاء على أن العقل هو أحسن مدبر لشئون البشرية ولمجتمعاتها أكثر من العقائد؛ ذلك أن العقائد، حسب هؤلاء المفكرين، تبقى ثانوية. وفي هذه اللحظة، بدأت تظهر نزاعات وصراعات بين المقيمين أو المستوطنين الإنجليز بأمريكا الشمالية والحكومة البريطانية، وبين الملك البريطاني. وهنا، بدأ دور الفكر التنويري، ثم الإلمام بالتاريخ.. وكمثال على ذلك، كان طوماس جيفرسون يدمن على قراءة تاريخ الرومان وتاريخ بريطانيا؛ بل إن مكتبة جيفرسون الخاصة شكلت النواة الأساس لمكتبة الكونغرس (أنشئت سنة (1880)، ومثلت أول مكتبة فيدرالية في البلد). فقد كانت هذه النخبة تدمن على القراءة لشعورها بالمسؤولية، وبدورها التاريخي.. من ذلك مثلا أن طوماس جيفرسون، وهو رئيس للولايات المتحدة، أعاد "صياغة" الكتاب المقدس، حيث عمد إلى تشذيبه وحذف كل ما يبدو فيه فوق طبيعي/ غير طبيعي، وأبقى على ما هو أساسي، وجعل من المسيح إنسانا عاديا، متنورا، حاملا لأفكار تقدمية.. وأصبح ذلك الكتاب المقدس معروفا بكتاب "جيفرسون المقدس"، (The Jefferson's Bible).
وهي الفكرة التي اشتغل عليها إرنست رينان، فيما بعد، حين كتب كتابه عن المسيح "حياة المسيح" سنة (1863)، وهو الجزء الأول من كتاب "تاريخ جذور المسيحية..
بالفعل، إرنست رينان الفقيه اللغوي، كتب عن المسيح، ثم كتب عن الإسلام، وهو أيضا مستشرق اهتم كثيرا بالعقائد..
وجمعت مناظرة مثيرة بين رينان وبين جمال الدين الأفغاني.. لو عدنا إلى المفكرين الأمريكيين الذين ناضلوا بكتاباتهم من أجل المساواة وحقوق الإنسان، ومهدوا للثورة والإطاحة بالاستعمار الإنجليزي لأمريكا نصادف "باين"، وكتابه "المنطق السليم"، (Common sense) حيث يهاجم النظام الملكي لأن الوراثة تمنع الأجيال من اختيار حاكمها وتفقد الحرية والعدالة، ويدافع عن حق المستعمرات الأمريكية في الانفصال عن بريطانيا، و"حقوق الفرد"، ويرى فيه أن دور الدولة يكمن في حماية حقوق المواطنين"..
"باين" كان من كبار محبي الجدل؛ لكنه كان مفكرا كبيرا، وقد يكون من أوائل إن لم يكن أول من استعمل عبارة الولايات المتحدة الأمريكية قبل تداولها؛ فقد كان كتب الكتاب الأول الذي أشرتَ إليه، ويبين لِمَ يجب أن ينسحب الأمريكيون من تحت هيمنة الحكم البريطاني، ولو كان هو أصلا بريطانيا، ويؤسسون دولة جديدة مستقرة. فقد كان له وزن كبير من حيث التأثير في الناس، ويمكن اعتباره "داعية"، وكان يطلق عليه هجَّاء، وساخرا. كان يكتب كراريس، وهي شيء شبيه "بالبْلُوغْ" الآن، وأنه مُدَوِّن بلغة اليوم.. وكانت كراريسه تطبع بمطبعة "بنجمان" في "فيلادلفيا"، ويقبل الناس على قراءتها. فقد كانت الثورة الأمريكية بالفعل ثورة فكرية، وثورة سياسية، واجتماعية... ثورة بكل معاني الكلمة من دون أن تكون ثورة تأكل أصحابها"..
"نثق بالله"، هل ظهر هذا الشعار مع مرحلة ماك كارثي، البرلماني الذي اشتهر بمطاردة المفكرين اليساريين والشيوعيين؛ ومنهم "داشيل هاميت"، وعقد محاكمات حتى للكتّاب والمثقفين الأوروبيين الذي هربوا من هتلر ومن القارة العجوز نحو أمريكا؛ ومنهم شارلي شابلن وبريشت وأورسون ويلز.. تحت ذريعة محاربة الخطر الأحمر..
حدث ذلك بعد الحرب العالمية الثانية، ومجيء إيزنهاور بعد ترومان، واشتدت مع الخمسينيات واشتداد أوار الحرب الباردة، ومحاربة الشيوعية.. أما ماك كارتي، وضمن الحرب ضد الشيوعية، كان يتم جر بعض الأمريكيين، أمام بعض أعضاء الكونغرس أحيانا، للاستنطاق من أجل أن يبرر المستنطق أنه أمريكي خالص، ولو أن المستنطِقِين أنفسهم كانوا من أصول إنجليزية!.. ثم تحول الأمر إلى حرب إيديولوجية. وهكذا، يبدو أن صفاء الانتماء لازم التاريخ الأمريكي. فقد بدأ عرقيا، ثم أصبح بعد الحرب العالمية الثانية إيديولوجيا..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.