الحزب الثوري المؤسساتي المكسيكي يدعو حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية إلى الانضمام للمؤتمر الدائم للأحزاب السياسية في أمريكا اللاتينية والكاريبي    تراجع الصادرات ب 886 مليون درهم.. وتفاقم العجز التجاري ب 24.5 مليار درهم    كأس العرش 2023-2024 (قرعة).. مواجهات قوية وأخرى متكافئة في دور سدس العشر    ترامب يعلق جميع المساعدات العسكرية لأوكرانيا بعد أيام من مشادته مع زيلينسكي    القاهرة.. انطلاق أعمال القمة العربية غير العادية بمشاركة المغرب    التنديد بانتهاكات حقوق الإنسان في مخيمات تندوف بالجزائر أمام مجلس حقوق الإنسان بجنيف    بالفيديو.. نائب وكيل الملك يكشف تفاصيل ملف "اليوتوبر" جيراندو.. تحدث عن علاقة القاصر بخالها وعن أحد المتهمين يشتبه في تلقيه حوالات مالية مقابل توضيب الفيديوهات    وكالة بيت مال القدس تشرع في توزيع المساعدات الغذائية على مؤسسات الرعاية الاجتماعية بالقدس    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على أداء سلبي    أسعار اللحوم في المغرب.. انخفاض بنحو 30 درهما والناظور خارج التغطية    حادث سير مروع يتسبب في وفاة شخصين بعد اصطدام شاحنتين    إطلاق برنامج طلبات عروض مشاريع دعم الجمعيات والهيئات الثقافية والنقابات الفنية والمهرجانات برسم سنة 2025    الضفة «الجائزة الكبرى» لنتنياهو    بنك المغرب يحذر من أخبار مضللة ويعلن عن اتخاذ إجراءات قانونية    أمن فاس يوقف 6 أشخاص متورطون في الخطف والإحتجاز    استئنافية مراكش ترفع عقوبة رئيس تنسيقية زلزال الحوز    مجلس جهة الشمال يصادق على مشروع لإعادة استعمال المياه العادمة لسقي المساحات الخضراء بالحسيمة    مقاييس الأمطار بالمغرب في 24 ساعة    انتخاب المغرب نائبا لرئيس مجلس الوزارء الأفارقة المكلفين بالماء بشمال إفريقيا    التفوق الأمريكي وفرضية التخلي على الأوروبيين .. هل المغرب محقا في تفضيله الحليف الأمريكي؟    الوكالة القضائية للمملكة تعلن استصدار 360 حكما ضد المحتلين للمساكن الوظيفية    "مرحبا يا رمضان" أنشودة دينية لحفيظ الدوزي    مسلسل معاوية التاريخي يترنح بين المنع والانتقاد خلال العرض الرمضاني    الركراكي يوجه دعوة إلى لاعب دينامو زغرب سامي مايي للانضمام إلى منتخب المغرب قبيل مباراتي النيجر وتنزانيا    ألباريس: العلاقات الجيدة بين المغرب وترامب لن تؤثر على وضعية سبتة ومليلية    أسعار الأكباش تنخفض 50%.. الكسابة يحذرون من انهيار القطاع في جهة الشرق    القناة الثانية (2M) تتصدر نسب المشاهدة في أول أيام رمضان    توقعات أحوال الطقس اليوم الثلاثاء    الصين تكشف عن إجراءات مضادة ردا على الرسوم الجمركية الأمريكية الجديدة على منتجاتها    مبادرة تشريعية تهدف إلى تعزيز حقوق المستهلك وتمكينه من حق التراجع عن الشراء    فنربخشه يقرر تفعيل خيار شراء سفيان أمرابط    جمع عام استثنائي لنادي مولودية وجدة في 20 مارس    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الثلاثاء    ‬ما ‬دلالة ‬رئاسة ‬المغرب ‬لمجلس ‬الأمن ‬والسلم ‬في ‬الاتحاد ‬الأفريقي ‬للمرة ‬الرابعة ‬؟    الصين: افتتاح الدورتين، الحدث السياسي الأبرز في السنة    فينيسيوس: "مستقبلي رهن إشارة ريال مدريد.. وأحلم بالكرة الذهبية"    الزلزولي يعود إلى تدريبات ريال بيتيس    تصعيد نقابي في قطاع الصحة بجهة الداخلة وادي الذهب.. وقفة احتجاجية واعتصام إنذاري ومطالب بصرف التعويضات    الإفراط في تناول السكر والملح يزيد من مخاطر الإصابة بالسرطان    دوري أبطال أوروبا .. برنامج ذهاب ثمن النهاية والقنوات الناقلة    فرنسا تفرض إجراءات غير مسبوقة لتعقب وترحيل المئات من الجزائريين    بطولة إسبانيا.. تأجيل مباراة فياريال وإسبانيول بسبب الأحوال الجوية    الفيدرالية المغربية لتسويق التمور تنفي استيراد منتجات من إسرائيل    مباحثات بين ولد الرشيد ووزير خارجية ألبانيا للارتقاء بالتعاون الاقتصادي والسياسي    سينما.. فيلم "أنا ما زلت هنا" يمنح البرازيل أول جائزة أوسكار    القنوات الوطنية تهيمن على وقت الذروة خلال اليوم الأول من رمضان    عمرو خالد: هذه أضلاع "المثلث الذهبي" لسعة الأرزاق ورحابة الآفاق    3 مغاربة في جائزة الشيخ زايد للكتاب    المغرب يستمر في حملة التلقيح ضد الحصبة لرفع نسبة التغطية إلى 90%‬    أحمد زينون    كرنفال حكومي مستفز    وزارة الصحة تكشف حصيلة وفيات وإصابات بوحمرون بجهة طنجة    حوار مع صديقي الغاضب.. 2/1    فيروس كورونا جديد في الخفافيش يثير القلق العالمي..    بريسول ينبه لشروط الصيام الصحيح ويستعرض أنشطة المجلس في رمضان    هذا هو موضوع خطبة الجمعة    الفريق الاشتراكي بمجلس المستشارين يستغرب فرض ثلاث وكالات للأسفار بأداء مناسك الحج    المياه الراكدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مجيد: هكذا نشأت "العلاقة الحميمة" بين المغرب والولايات المتحدة
نشر في هسبريس يوم 20 - 02 - 2017

تشغل أمريكا العالم، وينشغل بها. وقد سبقت الثورة الأمريكية الثورة الفرنسية وألهمت بعض زعمائها. ولعب المثقفون الأمريكان دورا كبيرا في هذه الثورة وبناء اتحاد الولايات الأمريكية، كما أشاعوا الفكر التنويري أساس هذه الثورة ذات البعد الكوني. وكان المغرب أول دولة اعترفت بهذا البلد الثائر، وحمى سفنه التي تعبر المحيط، فضمن لنفسه مكانة خاصة في تاريخ أمريكا، فأبان المولى محمد بن عبد الله عن نظرته الإستراتيجية...
هذه محاور وأخرى يتطرق إليها الحوار مع الروائي والمفكر المغربي الأمريكي أنور مجيد في ثلاثة أجزاء..وهذا الجزء الأول من هذا الحوار الثري والطويل:
كيف تقرأ حدث كون المغرب أول دولة اعترفت بأمريكا، الدولة الحديثة الإعلان عن نفسها، بالرغم من البعد الجغرافي الذي يفصل بين البلدين؟
يرجع الفضل في ذلك إلى السلطان محمد بن عبد الله، فقد كان رجلا متفتحا، يتميز بأفكار متنورة، وكان رجلا مهتما بالسلم بكل ما في الكلمة من معنى. وكان منفتحا على الآخر. وقد نجد لذلك بعض الأسباب أو المبررات الجيوسياسية؛ منها أنه كان لا يريد أن يسقط البلد في يد بريطانيا، التي كانت تتحيّن الفرص للانقضاض عليه. وفي دجنبر (1777)، حدد السلطان عددا من الدول التي يمكن للمغرب أن يتاجر معها، وذكر من بينها الولايات المتحدة. وهكذا، أصبح المغرب أول دولة تعترف بالولايات المتحدة. وفي السنة التي تلت الاعتراف، أعطى للبواخر الأمريكية، التي تحمل العلم الأمريكي، حق دخول الموانئ المغربية. مع العلم أنه في سنة (1777)، كانت الحرب لا تزال قائمة بين أمريكا وبين بريطانيا، ومع البريطانيين التي يقيمون بأمريكا. لم يكن الأمر قد حسم بعد بين من سينتصر وبين من سيهزم في هذه الحرب. وتلك شجاعة وجرأة سياسية عجيبة من المولى محمد بن عبد الله؛ وهو ما جعل المغرب يظل يحتل مكانة خاصة في تاريخ الولايات المتحدة.
لفتت انتباهي الرسالة التي بعث بها أول رئيس أمريكي لسيدي محمد بن عبد الله يطلب منه حماية المغرب للسفن التي تجوب المحيط؛ لأن أمريكا غير قادرة على حمايتها، فهي بلد حديث العهد بالاستقلال ولا يملك من القوة ما يمكنه من حماية سفنه تلك... ومما جاء فيها: "ولا يوجد في الولايات المتحدة، اليوم، مناجم الذهب أو الفضة. وأن أمريكا التي خرجت للتو من حرب مؤلمة لم يتح لها الوقت لتطوير الزراعة والتجارة؛ ولكن الولايات المتحدة ستصبح مفيدة لأصدقائها لأن باطن أرضها غني والشعب كادح"..
كان سيدي محمد بن عبد الله يطلب من أمريكا أن ترسل مبعوثا يمثل المصالح الأمريكية بالمغرب أسوة بباقي القناصلة الأجانب بالمغرب. وقد تأخرت أمريكا في الاستجابة، لأنها تعاني مشاكل داخلية ترتبط بحداثة إعلان الدولة وما يتبع ذلك من قضايا، فاضطر السلطان أن يوقف سفينة أمريكية تسمى "بيتسي "(Betsey)، للضغط على أمريكا ، أرسلت حينها ممثلا للمصالح الأمريكية ويدعى توماس باركلي سنة (1786)، وهو القنصل العام الأمريكي بباريس. وجرى توقيع معاهدة الصداقة والسلام. ثم أعيد توقيع تلك المعاهدة في الثلاثينيات من القرن الماضي، ولا تزال قائمة إلى يومنا هذا.. وهي أقدم معاهدة وقعتها أمريكا مع دولة من دول العالم. وقبل تأسيس الكونغرس الجديد وفق الدستور الجديد لأمريكا، سنة (1787)، كتب رجال الكونغريس القديم للسلطان المغربي يقولون إننا نشكر ما قمت به من أعمال، وإذا ما حل رعاياك بالولايات المتحدة الأمريكية، فإننا سنتحمل مسؤوليتنا نحوهم، ونرحب بهم.. وقد كتب هؤلاء باسم أمريكا رسالة رائعة للمغرب، قبل أن يكتب جورج واشنطن رسالته، التي أشرتَ إليها، والتي شكر فيها الملك، وتحدث عن تأخر أمريكا في تلبية طلب السلطان في بعث ممثلها، ثم شكر السلطان وهو يخاطبه بأسلوب رفيع واحترام كبير، بالرغم من كون الأمريكيين كانوا، يومها، متشبعين بالفكر الجمهوري.. ومن يومها، نشأت العلاقة الحميمة بين المغرب وبين الولايات المتحدة، الدولة الناشئة..
وبعد أن توفى الله محمد بن عبد الله، تابع بعده ابنه، المولى سليمان، السبيل ذاتها... وهو الذي قال للدبلوماسي الأمريكي جيمس سامبسون، أول قنصل أمريكي يعين بالمغرب: "كانت أمريكا الدولة المسيحية التي تحظى بأكبر التقدير من قبل والدي أكثر من غيرها. وإنني أكن التقدير نفسه للأمريكيين، وأنا واثق من أنهم يبادلونني التقدير ذاته"..
بالفعل، لما جاء السلطان المولى سليمان، أهدى بناية بطنجة لأمريكا حتى تكون لهذه الدولة تمثيليتها، ويكون لهذه التمثيلية مقر مثل باقي القناصلة الأجانب، مثل فرنسا، وبريطانيا... وقد كان المولى سليمان معجبا بأمريكا، وقال للمسؤولين للأمريكيين أنتم الدولة المفضلة بالنسبة إلي (The most favor nation). وقد أصبحت تلك البناية بطنجة أقدم ملكية مسجلة للولايات الأمريكية خارج التراب الأمريكي. وهي بناية تاريخية.
هي البناية الأولى، ولكنها أيضا الوحيدة التي تمتلكها أمريكا خارج التراب الوطني الأمريكي..
بالفعل، وقد كان القنصل البريطاني جيمس مولوْني، أواسط القرن التاسع عشر، هو من لاحظ أنه بمنطقة التقاء البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي تحدث حوادث بحرية خطيرة، فاقترح أن يبنى هناك منارا. (لايت هاوس). وبعد مضي وقت معين تكونت لجنة عالمية تشكلت من عدة دول؛ من بينها الولايات المتحدة والمغرب.. وأسهمت هذه الدول ماديا لبناء منار. وهو ما يسمى الآن "بكاب سبارطيل". ويعدّ هذا الإسهام، بالنسبة إلى الولايات المتحدة، أول اتفاقية عالمية أسهمت فيها أمريكا. ولذلك، كان المولى عبد الرحمان يقول أُفَضِّلُ الحماية الأمريكية على أية حماية من أية دولة أخرى. هذه طبيعة العلاقات المغربية الأمريكية مع بداية نشوء الولايات المتحدة. ثم إن المغرب، لما كانت الحرب الأهلية على أشدها في الولايات المتحدة، رفض مساعدة الجنوب الأمريكي (الفيدرالية)، وكان متعاطفا مع الجيش المتحد (يونيون آرمي)، مع جيش الشمال ومع "أبراهام لنكولن". وهكذا، فقد كان المغرب، عبر التاريخ، في المكان المناسب، وفي الوقت المناسب.. وهذا جزء من عبقرية النظام المغربي عبر التاريخ..
في رسالة جورج واشنطن وردت عبارات تلفت انتباه قارئها؛ فقد قال الرئيس نحن دولة ناشئة، ولم نقف على خيرات باطن الأرض بعد، وهذه رؤيا قائد يحدس خيرات باطن الأرض ذاتها ومستقبلها، قبل أن يشمر الشعب، الذي شمر عن ساعديه، ويكتشفها ويتقدم بدولته حديثة الميلاد لتحتل قمة الترتيب العالمي بين الدول العالم..
كانت أمريكا، يومها، بغير حجمها الحالي؛ فقد تمدد حجمها في القرن التاسع عشر.. ولكن مبادئ الثورة الأمريكية، وتحريضها على العمل، والفكر، والمساواة.. ظل على ما كان عليه. وكان مفكرو البلد شجعان، ونبهاء، ومعتدلين أيضا.. وكانت لهم رؤيا متجهة نحو المستقبل. ولذلك، ثاروا ضد النظام الذي كان يستبد بحيوات المقيمين البريطانيين في شمال أمريكا. فقد كانت الحروب بين بريطانيا وبين أمريكا تتطلب من بريطانيا الرفع من الضرائب باستمرار لتمويل حروبها؛ وهو ما أثقل كاهل المواطنين. كما اشتكى المواطنون من عدم وجود ممثلين لهم بالبرلمان لينقلوا معاناتهم، ومطامحهم. وكانت هذه العناصر من أسباب الثورة، فالثورة الأمريكية ثورة منطقية، ليست إيديولوجية، هي ثورة ضد الاستبداد، الذي كان يمثله الملك الانجليزي يومها كينث شارلز. ولما تم تحرير إعلان الاستقلال ونشر سنة (1776) ورد فيه أننا نقدم نموذجنا إلى كل الإنسانية، إلى الرأي العام العالمي، وقد قمنا بما قمنا به لهذه الأسباب، ولأن كل الناس متساوون.. ثم قدمت لائحة طويلة بأفعال استبداد ملك إنجلترا.. وتمت الإشارة إلى العبودية، وكيف استغلت إنجلترا العبيد.. ولهذا اتفقنا اليوم، على تأسيس دولة خاصة بنا.. وقد كان إعلان الاستقلال موجها إلى كل الإنسانية. وهو أول إعلان من نوعه في تاريخ البشرية. وقد قلدته دول ومنظمات ومؤسسات عبر العالم، فيما بعد..
تعدّ الولايات المتحدة أول جمهورية في العصر الحديث؛ ولكنها لم تتم الإشارة إلى طبيعتها الجمهورية في تسمية البلد لحظة ميلاده.. بل أشير إليها باسم "الولايات المتحدة الأمريكية"..
صحيح، ولكن الإشارة إلى النظام الجمهوري وردت في عدة مؤلفات، وقام النظام الجديد على الفصل بين السلط، وتأسيس نظام رئاسي، ونظام سياسي ديمقراطي يقوم على الانتخابات، وأبعدت فكرة الحكم الوراثي الذي يقوم عليه النظام الملكي عامة، والنظام الإنجليزي بالضرورة.
لاحظ، مثلا، فرنسا بعد الثورة وإقامة النظام الجديد أطلقت على نفسها "الجمهورية الفرنسية"..
بالفعل، لم يكن الأمر كذلك بالولايات المتحدة، بالرغم من أنها هي التي أطلقت فكرة النظام الجمهوري.. أطلقت على نفسها الولايات المتحدة، قد تكون استمدتها من تاريخها الخاص، فلكل ولاية دستورها الخاص، مثلا يعدّ دستور ولاية ماساشوستس من أقدم دساتير العالم.. ولما اجتمعت هذه الولايات لتأسيس دستور على المستوى الوطني، استفادت من تجاربها السابقة لأنها نعمت بالحكم الذاتي من قبل. ولا يزال لكل ولاية دستورها الخاص إلى اليوم؛ فقد تأسست الولايات المتحدة على أساس أنها ولايات تتمتع بحرياتها، واستقلالها الذاتي، واجتمعت بمحض إرادتها لتأسيس نظام جديد فيدرالي.
وكان النموذج متقدما لأنه استفاد من تجارب متعددة لولايات مستقلة مارس القائمون على شأنها الحكم الذاتي، ووقفوا على حاجيات الناس الحقيقية..
بالفعل، التجارب السابقة والمتنوعة أفادت البلد الجديد؛ لو عدنا مثلا إلى دستور ماساشوستس، وهو من أقدم دساتير العالم، لوجدناه يحتفي بالتنصيص على عدة حقوق؛ ومنها الحق في التعليم، والتركيز على أهمية التعليم. لذلك، لا تزال هذه الولاية معروفة بقوة نظامها التعليمي وجامعاتها المتميزة، والرائدة
ما يلفت النظر في شعارات الولايات الأمريكية المختلفة تردد شعار: "نثق في الله"..
هذا الشعار ظهر في الخمسينيات من القرن العشرين، أيام الحرب الباردة بين الولايات المتحدة وبين الاتحاد السوفييتي. وقد انتشرت شائعة، يومها، مفادها أن الشيوعيين ملحدون. وظهر الشعار كرد فعل على ذلك، ومعنى الشعار أننا دولة مؤمنة، وبدأ الأمريكيون ينقشون على عملتهم، الدولار، هذا الشعار؛ ولكن لا وجود لهذا الشعار في القرن التاسع عشر، ولا في الشعار الوطني حين ينشد: (آندر گود أنديفيزيبل، (Under God Indivisible)) فقد ظهر أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وقد اعتمد الشعار الوطني على قصيدة لشاعر اشتراكي وأضيف إلى النص الشعري ما يضفي عليه مناخا دينيا. ومعنى ذلك أن هذه الإضافات ولّدتها ظروف تاريخية تنتمي إلى فترة تاريخية تعود إلى ما بعد الثورة الأمريكية. أما أداء الرئيس الأمريكي للقسم وهو يضع يده على الكتاب المقدس، فهو مجرد تقليد وليس مادة أو بنداً ينص عليه الدستور. (لو حدث أن كان الرئيس مسلما أو مسيحيا لمارس التقليد ذاته أو قد يتجنبه). وقد جرى في الولايات المتحدة، لأول مرة، الفصل بصفة رسمية بين الدين وبين الدولة. ولكن لكل مواطن الحق في حرية المعتقد، وممارسة الشعائر، والدولة تمثل حكما، تفصل بين الجميع، ولا تنتمي إلى أحد. من ينتمي إلى الدولة كأنه شخص انتمى إلى سلك الجندية، لا حق له في الانتماء إلى حزب أو منظمة، بل هو ينتمي إلى الوطن. ويعامل كل المواطنين على قدم المساواة سواء كانوا عربا أو يهودا.. بغض النظر عن انتمائهم العقدي والعرقي، وغير ذلك.. وتعتبر هذه الفكرة فكرة ثورية في التاريخ الحديث..
تحدثنا، منذ قليل، عن البعد الاجتماعي للثورة الأمريكية والبعد الاقتصادي: ظُلم الملك للمواطنين الإنجليز، ومضاعفة الضرائب لتمويل الحرب على أمريكا؛ لكن نجد لهذه الثورة بعدا ثقافيا عميقا، تمثل مثلا في كتابات "باين". فقد أتى بأفكار رائعة في التاريخ الإنساني تهم الحقوق، والمساواة، والدعوة إلى القضاء على الظلم والاستغلال..
بالفعل، ويصعب فهم الثورة الأمريكية من دون الإلمام بحركة التنوير أو فلسفة الأنوار. فتلك هي المرحلة الأولى التي شرع الفكر فيها يتحرر، وينفصل عن الفكر الديني؛ فقد سبق ظهور عصر الأنوار بزوغ الثورة العلمية في مجالات عدة، وبدأ الإنسان ينظر إلى العالم برؤية مغايرة عن الرؤية السائدة في ذلك الزمن.. أتحدث هنا عن مجموعة من الفلاسفة والمفكرين، وليس عامة الناس طبعا، ومنهم جون لوك الإنجليزي، أو جان جاك روسو الفرنسي، أو فولناي الذي كتب مجموعة من الكتب موضوعها الإسلام، وكيف تقهقرت حضارة الشرق الأوسط، التي كانت مزدهرة ثم تراجعت.. وهكذا، ركزت كتابات هؤلاء على أن العقل هو أحسن مدبر لشئون البشرية ولمجتمعاتها أكثر من العقائد؛ ذلك أن العقائد، حسب هؤلاء المفكرين، تبقى ثانوية. وفي هذه اللحظة، بدأت تظهر نزاعات وصراعات بين المقيمين أو المستوطنين الإنجليز بأمريكا الشمالية والحكومة البريطانية، وبين الملك البريطاني. وهنا، بدأ دور الفكر التنويري، ثم الإلمام بالتاريخ.. وكمثال على ذلك، كان طوماس جيفرسون يدمن على قراءة تاريخ الرومان وتاريخ بريطانيا؛ بل إن مكتبة جيفرسون الخاصة شكلت النواة الأساس لمكتبة الكونغرس (أنشئت سنة (1880)، ومثلت أول مكتبة فيدرالية في البلد). فقد كانت هذه النخبة تدمن على القراءة لشعورها بالمسؤولية، وبدورها التاريخي.. من ذلك مثلا أن طوماس جيفرسون، وهو رئيس للولايات المتحدة، أعاد "صياغة" الكتاب المقدس، حيث عمد إلى تشذيبه وحذف كل ما يبدو فيه فوق طبيعي/ غير طبيعي، وأبقى على ما هو أساسي، وجعل من المسيح إنسانا عاديا، متنورا، حاملا لأفكار تقدمية.. وأصبح ذلك الكتاب المقدس معروفا بكتاب "جيفرسون المقدس"، (The Jefferson's Bible).
وهي الفكرة التي اشتغل عليها إرنست رينان، فيما بعد، حين كتب كتابه عن المسيح "حياة المسيح" سنة (1863)، وهو الجزء الأول من كتاب "تاريخ جذور المسيحية..
بالفعل، إرنست رينان الفقيه اللغوي، كتب عن المسيح، ثم كتب عن الإسلام، وهو أيضا مستشرق اهتم كثيرا بالعقائد..
وجمعت مناظرة مثيرة بين رينان وبين جمال الدين الأفغاني.. لو عدنا إلى المفكرين الأمريكيين الذين ناضلوا بكتاباتهم من أجل المساواة وحقوق الإنسان، ومهدوا للثورة والإطاحة بالاستعمار الإنجليزي لأمريكا نصادف "باين"، وكتابه "المنطق السليم"، (Common sense) حيث يهاجم النظام الملكي لأن الوراثة تمنع الأجيال من اختيار حاكمها وتفقد الحرية والعدالة، ويدافع عن حق المستعمرات الأمريكية في الانفصال عن بريطانيا، و"حقوق الفرد"، ويرى فيه أن دور الدولة يكمن في حماية حقوق المواطنين"..
"باين" كان من كبار محبي الجدل؛ لكنه كان مفكرا كبيرا، وقد يكون من أوائل إن لم يكن أول من استعمل عبارة الولايات المتحدة الأمريكية قبل تداولها؛ فقد كان كتب الكتاب الأول الذي أشرتَ إليه، ويبين لِمَ يجب أن ينسحب الأمريكيون من تحت هيمنة الحكم البريطاني، ولو كان هو أصلا بريطانيا، ويؤسسون دولة جديدة مستقرة. فقد كان له وزن كبير من حيث التأثير في الناس، ويمكن اعتباره "داعية"، وكان يطلق عليه هجَّاء، وساخرا. كان يكتب كراريس، وهي شيء شبيه "بالبْلُوغْ" الآن، وأنه مُدَوِّن بلغة اليوم.. وكانت كراريسه تطبع بمطبعة "بنجمان" في "فيلادلفيا"، ويقبل الناس على قراءتها. فقد كانت الثورة الأمريكية بالفعل ثورة فكرية، وثورة سياسية، واجتماعية... ثورة بكل معاني الكلمة من دون أن تكون ثورة تأكل أصحابها"..
"نثق بالله"، هل ظهر هذا الشعار مع مرحلة ماك كارثي، البرلماني الذي اشتهر بمطاردة المفكرين اليساريين والشيوعيين؛ ومنهم "داشيل هاميت"، وعقد محاكمات حتى للكتّاب والمثقفين الأوروبيين الذي هربوا من هتلر ومن القارة العجوز نحو أمريكا؛ ومنهم شارلي شابلن وبريشت وأورسون ويلز.. تحت ذريعة محاربة الخطر الأحمر..
حدث ذلك بعد الحرب العالمية الثانية، ومجيء إيزنهاور بعد ترومان، واشتدت مع الخمسينيات واشتداد أوار الحرب الباردة، ومحاربة الشيوعية.. أما ماك كارتي، وضمن الحرب ضد الشيوعية، كان يتم جر بعض الأمريكيين، أمام بعض أعضاء الكونغرس أحيانا، للاستنطاق من أجل أن يبرر المستنطق أنه أمريكي خالص، ولو أن المستنطِقِين أنفسهم كانوا من أصول إنجليزية!.. ثم تحول الأمر إلى حرب إيديولوجية. وهكذا، يبدو أن صفاء الانتماء لازم التاريخ الأمريكي. فقد بدأ عرقيا، ثم أصبح بعد الحرب العالمية الثانية إيديولوجيا..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.