مع الإعلان عن نتائج الاستفتاء الدستوري، مساء الفاتح من يوليوز، يكون المغرب قد فتح صفحة جديدة من زمنه السياسي، لكنها تبقى مجرد صفحة بيضاء، يمكن أن تكتب عليها قوى التغيير ما تشاء، كما يمكن أن تضع عليها القوى المضادة لهذا التغيير ما استطاعت إليه سبيلا من حروف الفساد و كلمات الاستبداد و جمل من الضرب تحت الحزام. يتعلق الأمر بافتتاح صفحة جديدة من الصراع، القوي و الحاد، بين إرادتين: إرادة التفسير الديمقراطي للنص الدستوري من جهة، و إرادة التأويل السلطوي لفصول هذا النص من جهة ثانية.و هذا الصراع قابل لكل النتائج و الاحتمالات، إذ يمكن أن تكسب فيه الرهان قوى التقدم و التطور التغيير، و ينتصر معها الأمل الذي دفع عددا من الهيئات و النخب إلى التصويت ب"نعم"، من أجل البناء المشترك، بين الشعب و العرش، لثورة ديمقراطية هادئة، تؤسس لانطلاق قطار المغرب اليوم في اتجاه محطة الأمان الديمقراطي التي تحمل اسم النظام الملكي البرلماني. لكن هذا مجرد احتمال لا يلغي الاحتمال المضاد، إذ يمكن أن تستبد بالأمر قوى الاستبداد و الفساد، التي كشرت عن أنيابها، خلال حملة التعبئة للاستفتاء، حيث لم تتردد في توظيف كل أسلحتها، الخفيفة و الثقيلة، "المشروعة" و غير المشروعة. و في هذه الحال سينفتح الباب على مصراعيه للقوى المتطرفة، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، لتفرض أجنداتها الخاصة، على كل حركية شعبية تواقفة للتحرر و التغيير. و من أجل كسبها الرهان، يتعين على قوى الوسطية و الاعتدال، أخذ زمام المبادرة بيدها، و التخلص من ثقافة سياسية سادت عند عدد من قادتها، تتوزع بين انتظار التعليمات و بين التقاط الإشارات، من الدائرة الضيقة لصناعة القرار بأعلى سلطة بالبلاد. فالدستور الجديد، على كل ما يمكن أن يسجل عليه الملاحظون من عيوب و نقائص، قد ارتقى بالفاعلين السياسيين إلى درجة شركاء حقيقيين للمؤسسة الملكية في صناعة جل القرارات الإستراتيجية للبلاد، في الوقت الذي منحهم السلطة الكاملة على ما دونها من قرارت قطاعية و جهوية و محلية. نحن إذن في حاجة إلى نخب سياسية تتعاطى مع سلطة القصر بمنطق المبادر و الشريك، و تتحرر من لغة التابع المنفذ و الخادم المطيع، و هو تمرين ديمقراطي، صعب و مرير. إنه أشبه بمحاولة طفل يريد تعلم المشي على قدميه اعتمادا على قدراته الذاتية، و التحرر نهائيا من عربة المشي، مع ما يرافق مثل هذه المحاولة من سقوط و ضربات و آلام. إن تمرينا كهذا، مهما كان ثمنه مكلفا، هو القادر وحده أن يحرر قادة و أطر أحزابنا السياسية من عطالتها السياسية، و أن ينقلها من حال الوصاية و القصور الناتجة عن هيمنة منطق"الريع السياسي" إلى حال "الإنتاج السياسي" للمشاريع و المبادرات الوطنية الخلاقة، مما يعيد للسياسة معناها النبيل بما هي فن لمعالجة أمراض الواقع. لا شك أن مراكز النفوذ داخل الحمى المخزني، لن تدخر جهدا لإبقاء السياسة رهينة " عربة المشي" حفاظا على مصالحها الاجتماعية و الاقتصادية، كما أنها لن تتردد في التصدي لكل ما من شأنه أن يزحزح قبضتها على أرزاق العباد وخيرات البلاد. ولعل ما حدث خلال الأسبوعين الماضيين من توظيف للبشر و الأنعام و العصي و الأحجار، يبين إلى أي مدى يمكن أن تذهب قوى الفساد و الاستبداد في الدفاع عن نفوذها و منافعها. لكن قوى الإصلاح و التغيير تملك ورقة سياسية رابحة، و هي إما أن تلعب لعبة الشريك في الحكم كاملة أو أن تقاطع اللعبة من أصلها.ذلك أن السياقات الدولية و العربية و الوطنية، تجعل هامش مناورة القوى المخزنية ضيقا جدا، الأمر الذي ستتعذر معها أي قدرة لديها على تحمل أي مقاطعة لتيار الوسطية و الاعتدال للاستحقاقات السياسية المقبلة، مادام ذلك سيكشف محدودية أية إمكانية توافقية للإصلاح من داخل المؤسسات الوطنية. يتعين إذن على التيار الوطني الرئيسي توظيف قوة موقفه في تعميق الإصلاح الديمقراطي، و وضع قواعد جديدة للممارسة السياسية قائمة على النزاهة و الشفافية و التمثيلية الحقيقية للإرادة الشعبية، و ذلك بخوض معركة وضع لوائح انتخابية تعبر عن حقيقة القوة الناخبة، وإعادة تقطيع للدوائر الانتخابية تضمن تكافؤ الفرص بين الأقاليم و الجهات، بناء على معايير واضحة و سليمة. فضلا عن محاولة الحد من هيمنة وزارة الداخلية على كل استحقاق ديمقراطي، ما دامت كل التجارب أثبتت أن هذه الوزارة لا تتصرف كجهاز إداري عصري عقلاني ، مستقل و محايد، بل تتصرف كجهاز مخزني تحكمي أشبه ما يكون ب"الحزب السري". لكن إذا كانت الحاجة المخزنية إلى مشاركة القوى الوسطية في اللعبة السياسية تمثل نقطة قوتها فإن العزوف السياسي يمثل أكبر نقط ضعفها، و خاصة عزوف الفئات الشعبية التي تحظى بنصيب عال من التعليم و الثقافة و بأوضاع اقتصادية و اجتماعية تتراوح ما بين المريحة و الشبه مريحة، و لكنها تنفر من الأحزاب السياسية التي سقطت في آفة نسيان السياسة باعتبارها التزاما و فضيلة. الأمر الذي يفرض على أحزابنا السياسية محاربة ظاهرة العزوف السياسي من حيث هورفض للمواطنة كقيمة ديمقراطية و الوطنية كانتماء مشترك، هكذا يصبح العزوف ظاهرة تضع الإنسان في مرتبة أقل من الإنسان، مادامت السياسة كمالا للإنسان، إذ لا تكتمل إنسانيته إلا بتجاوزه لدائرة اهتماماته "الحيوانية" الضيقة، إلى أفق المشاركة في معالجة مشاكله العمومية بنفسه عن طريق المشاركة السياسية. إن الذي يعزف عن السياسة يكف أن يكون ذاتا فاعلة مبادرة مشاركة في صناعة مصيرها، و ينزل بنفسه إلى مرتبة الموضوع الذي تتحكم فيه الإرادات و الأهواء المختلفة، و هو بذلك يرفض الحرية باعتبارها قيمة إنسانية عليا، و يعبر عن حنانه لزمن الوصاية و العبودية. لذلك نجد أن من أهم الأسلحة التي توظفها مراكز مقاومة التغيير لإبقاء دار لقمان على حالها هي تقديم كل العناصر و المبررات لتشجيع ظاهرة العزوف السياسي، و ذلك باستعمال كل أساليب الفساد و الإفساد، و شراء الذمم و الأعراض، و تمييع كل قيم النزاهة و المصداقية و الالتزام، و الحرص على النزول بها إلى أدنى الدرجات في بورصة القيم السياسية و الاجتماعية. و هنا علينا أن نكون منصفين لنخبنا السياسية فلا نحملها أكثر من طاقتها، و نوجه كلامنا للدولة التي تتحمل النصيب الأكبر من المسؤولية، إذ عليها، إن أرادت تأمين نفسها من عاصفة المد الديمقراطي التي تهب بقوة على عالمنا العربي، أن تتخذ جملة من القرارات"المؤلمة" من شأنها استرجاع الثقة المفقودة في وعودها الإصلاحية الكثيرة، و في مقدمتها تقديم كل المتورطين في قضايا الفساد الإقتصادي لعدالة القضاء ، و إبعاد كل رموز الفساد السياسي من دوائر صنع القرار بشكل نهائي، و كف يد الأجهزة الأمنية، السرية و العلنية، عن كافة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، و إطلاق سراح كافة ضحايا هذه الانتهاكات الخطيرة. إن هذه الإجراءات المطلوبة من الدولة لبعث الأمل في إمكانية إصلاحها من الداخل لا تعوض المسؤولية النضالية للقوى الديمقراطية ببلادنا، و لا تعفيها من ضريبة التركيز على توسيع دائرة النضال الديمقراطي و إعطاء الأولوية لبناء الدولة الديمقراطية الحديثة، و عدم الاستدراج لأي معركة وهمية مفتعلة سواء باسم الدفاع عن "الهوية" أو باسم الانتصار ل"الحداثة"، إذ لا قيمة لهوية زائفة أو حداثة خادعة تضع حجابا بيننا و بين الحرية و الديمقراطية الحقيقية.