يعد المسرح المدرسي وسيلة لتعميق المدارك وصقل الموهبة لدى الطفل، قصد تمكينه من الاعتماد على النفس ومواجهة العوائق التي تواجهه في محيطه السوسيولوجي، ويعكس كذلك بشكل عام صورة المجتمع والواقع ويجسد درجة الوعي عند النخبة المثقفة المساهمة في حركية التكوين والتعليم؛ فهو يتناول عدة قضايا تصور مكانة الفرد داخل بيئته، ويكشف عن نوع المعاناة والقضايا الفكرية التي تشغل بال المجتمع. ويرى مارك توين أن دور المسرح في الحياة الاجتماعية للطفل هو من أعظم الاختراعات في القرن العشرين، وأقوى معلم للأخلاق وخير دافع للسلوك الطيب الذي اهتدت إليه عبقرية الإنسان؛ لأن دروسه لا تلقن بالكتب بطريقة مرهقة، أو في المنزل بطريقة مملة، بل بالحركة المنظورة، التي تبعث الحماسة وتصل مباشرة إلى قلوب الأطفال التي تعد أنسب وعاء لهذه الدروس.. وحين تبدأ الدروس رحلتها من فرجة الأطفال، فإنها لا تتوقف في منتصف الطريق، بل تصل إلى غايتها.. هكذا تتمظهر قيمة المسرح المدرسي في المجتمع. ولقد مرّ المسرح المدرسي بالمغرب بعدة مراحل حتى أصبح اليوم من أهم الأنشطة التربوية التي يسهم فيها الطفل بمؤهلاته الفكرية في التعبير عن ذاته وطموحاته. وتعدّ الأحداث التاريخية التي مر بها بلدنا من أهم المحطات التي أسهمت في ظهور مسرح الطفل مبكرا، حيث كان للدولة العلوية الأثر الكبير في هذا الظهور، خاصة ظاهرة سلطان الطلبة التي جاءت في عهد السلطان مولاي رشيد خلال سنتي 1672- 1666، وشكلت هذه الظاهرة فرجة متميزة أسهمت في تأثيث المشهد الاحتفالي تكريما لطلاب العلم والمعرفة. ومن الراجح، على حد تعبير حسن المنيعي، أن أول فرقة مسرحية مدرسية كانت قد تشكلت بفاس على يد جماعة من طلبة المدارس الثانوية، وذلك سنة 1924 بفعل تأثرهم ببعض العرب المشارقة الذين استوطنوا العاصمة وكانوا يشجعون الطلاب على تنظيم الجمعيات...، كما أن العديد من الملاحظين اتفقوا على أن ثانوية المولى إدريس بفاس كانت أول قاعدة انطلقت منها التجربة المسرحية الأولى. ويذهب مصطفى بغداد، في كتاب "المسرحيات المغربية الأولى"، إلى أنه يمكن اعتبار مسرحية "تحت راية العلم والجهاد" لعبد الله الجراري أول مسرحية تعليمية كانت في المغرب، حيث جرى تأليفها سنة 1928؛ وهي مسرحية ذات أهداف تربوية، تسعى إلى نقل خطاب تربوي تعليمي مشحون بقضايا علمية ودينية ووطنية. كما شكلت طبيعة المرحلة التي عاش فيها المغرب أثناء عهد الحماية الفرنسية فترة انبعاث الوعي الوطني، الذي كانت أهم نتائجه خلق مدارس حرة، تحافظ على مقومات الهوية العربية الإسلامية؛ فقد عمل بعض الوطنيين على تأسيس مدارس حرة، على غرار مدرسة التقدم القرآنية بالقنيطرة، التي تأسست على يد الجيلالي بناني ومشيش العلمي ومحمد الدويرى سنة 1935. وكان يشرف على إدارتها محمد العربي العلوي ومحمد ابن الحاج السلمي. كما تأسست في مدينة سيدي سليمان مدرسة الحسنية الحرة في 1 مارس سنة 1949، وكان عدد تلاميذها آنذاك 200 تلميذ، ومدرسة ملحقة البنات وكان يشرف على إدارة هاتين المؤسستين عبد العزيز بلمين. كما تأسست بمدينة سيدي قاسم مدرسة الحسنية الحرة، وكان مديرها آنذاك علال الشرادي وقد وصل عدد تلاميذتها آنذاك 150 تلميذا. وتأسست أيضا مدرسة الحسنية الحرة بمدينة سوق الأربعاء الغرب، وكان يديرها أحمد بلعربي ووصل عدد التلاميذ المسجلين فيها خمسة وثمانون تلميذا. وفي هذا الإطار، تعد مدرسة التقدم الشهيرة بالقنيطرة مثالا حيا نستدل به، نظرا لما قدمته من أنشطة مسرحية وفنية، كانت مواضيعها تندد بمواقف السياسة التي كان ينهجها المستعمر الفرنسي. وحسب قول إبراهيم السولامي، أحد تلاميذ مدرسة التقدم آنذاك: "كنا نحتفل في ثانوية التقدم بأنواع من المناسبات الوطنية مثل يوم الجامعة العربية، وعيد العرش وعيد المولد النبوي.. وكانت هذه الاحتفالات مناسبة لتمرير الخطاب الذي يؤكد على أن المغرب كان دائما بلدا، حرا ومسلما، وأنه كان يسير نفسه بنفسه وأن ظروفه هي ظروف عابرة". على هذا الأساس، كانت هذه المدرسة المنجم الحقيقي للوطنيين. وكانت الإدارة الفرنسية تقدر المدى البعيد لتأثيرها على نظام الاحتلال، ولم تكن تنتظر إلا الفرصة المواتية لجعل حد نهائي لها. ولقد منحتها الأحداث الدامية في 1937 هذه الفرصة التي طالما انتظرتها، فاحتلوا المدرسة عسكريا، وألقوا القبض على المدرسين وآباء التلاميذ ونفوهم إلى الجنوب، حيث قاسوا أشد العذاب...، ورسخت صورة العمل الوحشي في ذاكرة التلاميذ الصغار بصفة نهائية ولطول حياتهم...، وهذه الذكرى كونت لهم منبعا غزيرا من الإيمان لمواصلة الكفاح الوطني.. وبعد حصول المغرب على الاستقلال ونشأة المدارس العصرية، كان لا بد من تأسيس مسرح مدرسي يواصل ما أسسته عناصر الحركة الوطنية في المؤسسات التعليمية الحرة بالمغرب، حيث إن هذه المؤسسات قامت بدور مهم في التوعية والتحسيس، وإذكاء روح اليقظة في نفوس الناشئة. وخلال سنة 1987، كانت الانطلاقة الفعلية للمسرح المدرسي بكل ما يحمله من مقومات فنية وجمالية، باعتبار أن هذه السنة قد أدرج فيها المسرح كمادة دراسية ضمن وحدة التربية الفنية والتفتح التكنولوجي. وقد تطورت تجربته من خلال مساهمة جمعية تنمية التعاون المدرسي في احتضانه وتطويره، وذلك من خلال تأسيس فروع لها بكل النيابات الإقليمية التعليمية (المديريات حاليا)، وإسناد مهام لمنسقي هذه الجمعيات تتجلى في تكليفهم بخلق أنوية المسرح المدرسي بكل المؤسسات التعليمية.. وهكذا، تطور عمل جمعية التعاون المدرسي تحت إشراف اللجنة الوطنية للمسرح المدرسي، هذه الأخيرة التي تنفذ تعليمات مديرية الدعم التربوي بوزارة التربية الوطنية. ووفق رأي الباحث أحمد أوزي، فإنه قد "غدا الرأس المالي البشري في الوقت الراهن أثمن وأغلى ما يمكن أن تفتخر به الأمم والشعوب؛ فقد ولى عصر اعتبار الموارد الاقتصادية وحدها الكفيلة بتنمية المجتمع وتطويره، وأصبح السبق والتنافس بين الدول ينصب على البحث في أفضل الوسائل المساعدة على الاستثمار في الموارد البشرية، بفعل ما يقتضيه الظرف الراهن من تنافسية كبيرة في مختلف المجالات العلمية والصناعية والتقنية، مما يستلزم التزود في الدرجة الأولى بمهارات ذهنية عالية ومتطورة لمواجهة قضايا ومشاكل العصر". من هذا المنطلق، نستخلص أن الهدف الأسمى من العملية التربوية التي يطمح إليها المجتمع في عصرنا الحالي هو مواكبة التطور العلمي الحديث، عبر تسخير إمكانات جديدة في الفعل التربوي. ولا محالة أن المسرح باعتباره يتقاطع مع جملة من المجالات وأبا للفنون يمكنه المساهمة في بناء شخصية الطفل المتمدرس لمواكبة التطور المعرفي الحاصل في العلوم الإنسانية. الإحالات: 1-مصطفى عبد السلام المهماه، تاريخ مسرح الطفل في المغرب، مطبعة فضالة، المحمدية، المغرب، الطبعة الأولى، السنة، 1986، ص: 11. 2-الدليل المرجعي في المسرح المدرسي مديرية الدعم التربوي قسم الأنشطة الاجتماعية والتربوية الوطنية، اللجنة الوطنية للمسرح المدرسي سنة 2002، ص: 43. 3-حسن المنيعي، أبحاث في المسرح المغربي، منشورات الزمن، مطبعة النجاح الجديدة، الدارالبيضاء، الطبعة الثانية، سنة 2001، ص: 43. 4-مصطفى بغداد، المسرحيات المغربية الأولى 1924- 1956، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الدارالبيضاء، الطبعة الأولى، 2009، ص:47. 5-جون جيمس ديمس، حركة المدارس الحرة بالمغرب ( 1919-1970)، ترجمة السعيد المعتصم، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الأولى، الدارالبيضاء المغرب، السنة 1991، ص: 146. 6-إبراهيم السولامي، خطوات في الرمال، مطبعة كوم، الرباط، المغرب، السنة 2005، ص: 15. 7-مصطفى مشيش العلمي، ميلاد المدينة، الحركة الوطنية وزرع ثقافة المقاومة 1913- 1937، منشورات مؤسسة سيدي مشيش العلمي، الطبعة الرابعة، السنة 2002 ص: 103. 8-مصطفى مشيش العلمي، ميلاد المدينة.. الحركة الوطنية وزرع ثقافة المقاومة 1913- 1937، مرجع سابق، ص: 67. نفسه ، ص: 78. 9-أحمد أوزي، "دور التربية أن تعلم الطفل كيف يفكر لا فيما يفكر!"، مجلة علوم التربية، دورية مغربية نصف سنوية، العدد الرابع والثلاثون، يونيو 2007، مطبعة النجاح الجديدة، الدارالبيضاء الغرب، ص5. *باحث في المسرح والثقافة الشعبية