جزيرة غوري، التي تبعد بحوالي ثلاثة كيلومترات عن العاصمة السنغالية داكار، تعد اليوم أكبر شاهد على تجارة الرقيق في إفريقيا، وتتطلب من زائرها رحلة من ميناء داكار عبر باخرة خاصة، للوقف عن قرب على معاناة العبيد في قارة كان يباع فيها كل شيء، وحتى الإنسان. كل شيء في هذه الجزيرة يوحي بأن المكان استُغل فيه الإنسان الإفريقي أبشع استغلال، إذ كان يتم بيعه في أوربا والولايات المتحدةالأمريكية؛ فتمثال حرية العبيد، ومنزل العبيد، ورسومات فناني الجزيرة، ولوحاتها المعلقة على الجدران في جل المنازل، كلها لا تتحدث عن شيء سوى المعاناة مع العبودية. بداية الرحلة والتاريخ يوم الأربعاء الماضي استقللنا الباخرة التي تقل العشرات من الزوار الراغبين في استكشاف تاريخ الجزيرة.. بالإضافة إلى الجنسيات الأوربية والأمريكية والأسيوية، تغص الباخرة المكونة من طابقين بالسنغاليين والأفارقة، الذين بيع أجداد بعضهم في هذه البقعة التي تُرى من بعيد ككبد لداكار. وأنت وسط البحر في بداية رحلة استكشاف الجزيرة التي لازالت تروي بشاعة بيع البشر، واستغلاله، تبدأ بشكل غير مقصود في الاطلاع على تاريخ أسود عاشته القارة الإفريقية، ويرويه اليَوْمَ كل من يسكن هذه الجزيرة التي لا يتجاوز عدد قاطنيها 1500 نسمة. أخذنا تذاكرنا من الميناء المستقل لداكار، بعد انتظار لمدة ليست باليسيرة في شباك الميناء، وبعد دقائق اخترقت بنا الباخرة المسافة الرابطة بين داكار وغوري، وسط تنبيهات بالجملة للبحارة الصغار الذين يصطادون ببواخر صغيرة تقليدية.. داخل العبارة جنسيات مختلفة تحذوها الرغبة في استكشاف جزيرة قيل لنا عنها الكثير منذ مقامنا الأول في العاصمة السنغالية. بنسمات هوائية عليلة وسط جو استوائي استقبلتنا الجزيرة الصغيرة التي تبلغ أزيد من 20 هكتارا وسط المحيط الأطلسي؛ في حين أصر مرافقنا سليمان على أن يخصص لنا استقبالا خاصا من طرف نائب عمدتها، الذي اعتبر المغرب والسنغال بمثابة الوحدة التي لا يمكن لأي منا سواء كنا سنغاليين أو مغاربة نكرانها، وردد على مسامعنا أكثر من مرة: "إنه التاريخ.. إنه التاريخ". بعد ترحيب نائب العمدة، لم يتردد مرافقنا سليمان في التأكيد أن زيارتنا الأولى إلى هذه الجزيرة ستمر حتما بزيارة "منزل العبيد"، الذي يعد شاهدا على جرائم العبودية التي عانى منها الأفارقة، في وقت كانت تجارة الرقيق تستهوي الجنس الأبيض من فرنسيين وبرتغاليين وانجليز وهولنديين. منزل العبيد وتذكار حريتهم خلال زيارتنا إلى "منزل العبيد" كان لزاما أن نمر من أزقة الجزيرة، التي يحاول سكانها الاعتناء بها، لنسيان ماضيها الأسود الذي عاشته، عبر الموسيقى، والرسم، ووسطها ينتصب تذكار "حرية العبيد"، الذي تم تشييده سنة 2002، وتأبى الجزيرة إلا أن تذكر به زوارها بأنها كانت يوما ما فضاء لبيع البشر. الجزيرة التي أعلنتها منظمة "اليونيسكو" تراثا عالميا مازالت تضم "منزل العبيد"، الذي يشرف عليه مسؤول اسمه إيلوا كولي، لا يمل من سرد معاناة العبيد مع البيع لكل زوار المنزل الذين تتعدد جنسياتهم، وهكذا فعل معنا. كولي، الذي اختار أن يروي تاريخ "منزل العبيد" بحرقة، استقبلنا بداية في مكتبه، وهو عبارة عن غرفة تضم مكتبا به حاسوب وجهاز راديو، وبعض الوثائق؛ في حين تضم جدران المنزل صور شخصيات عالمية ومسؤولين زاروه، كالرئيسين الأمريكيين السابقين بارك أوباما وبيل كلينتون، ورئيس جنوب إفريقيا الأسبق الراحل نيلسون مانديلا، وبابا الفاتيكان، وآخرين. معاناة العبيد وأنت تتجول بعينك داخل "منزل العبيد" ترى تاريخا مكتوبا في لوحات، وسلاسل وأغلال، وعبيد عراة مربوطين بعضهم إلى بعض، تحت حراسة جنود بيض.. تكاد الصور تنطق لتعلن أن ما مارسه تجار الرقيق على هؤلاء لا يمكن حتى للحيوانات أن تستوعبه، فكيف بالإنسان. "150 من العبيد بين رجال ونساء وأطفال يظلون مكدسين داخل هذا المنزل، في غرف ضيفة جدا لا تتجاوز مترا و60 سنتيمترا طولا ومثلها عرضا"، يقول المشرف على المنزل، موضحا أن هذه الغرف خصصت كل واحدة منها لهؤلاء حسب جنسهم أو عمرهم، ويمكنهم قضاء ما يزيد عن ثلاثة أشهر على هذه الحالة قبل ترحيلهم". وأضاف:"هذه الغرف لا تتوفر على مراحيض، وتُعطى الفرصة للواحد من العبيد لقضاء حاجته مرة واحدة، وبعدها يترك فضلاته في مكان تواجده.. يظل فيها معتمدا وضع القرفصاء طوال المدة قبل ترحيل العبيد من الجزيرة".