ألمانيا تدعم الشراكة الاستراتيجية والمتعددة الأبعاد والمتميزة مع المغرب بعد قرار العدل الأوربية    بوريطة يجري مباحثات مع وفد جنوب إفريقي من المؤتمر الوطني الإفريقي        أخنوش: ارتفاع مداخيل جماعة أكادير بنسبة 50% خلال ثلاث سنوات    ألمانيا ترد على أحكام محكمة العدل الأوروبية: العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والمغرب تتسم بالاستمرارية والتوسع    المغرب و البرتغال يصدران طابعين بريديين احتفاء بالعلاقات التاريخية    بورصة الدارالبيضاء تستهل تداولاتها على وقع الارتفاع    وقفة احتجاجية لأرباب المخابز الأسبوع القادم بالرباط    المغرب.. نمو الاقتصاد بنسبة 2,8 في المائة خلال الفصل الثالث من 2024    الجيش الإسرائيلي يعلن اغتيال أحد قادة حزب الله بغارة دقيقة    الجيش الإسرائيلي يعلن بدء عمليات ضد حزب الله في جنوب غرب لبنان    ماسك يؤكد تأييد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية    المنتخب الوطني يخوض أول حصة تدريبية استعدادا لملاقاة إفريقيا الوسطى    تنبيه من العصبة الوطنية لكرة القدم الاحترافية    مباريات مشوقة في الجولة الثالثة من منافسات كأس التميز    براهيم دياز يعود لتدريبات ريال مدريد    الرجاء الرياضي يتعاقد مع البرتغالي سابينتو لقيادة الفريق خلفًا للبوسني سفيكو    أقسام بدون أساتذة يضع عدد من المؤسسات على صفيح ساخن بالجديدة ومطالب لمدير الأكاديمية الجهوية بالتدخل    طقس الثلاثاء.. نزول أمطار ضعيفة وسحب ببعض مناطق المملكة    معزوز يستعرض حصيلة نصف الولاية الانتدابية لمجلس جهة الدار البيضاء سطات    مرتيل: المجلس الجماعي يصادق على الميزانية التعديلية لسنة 2024 في الجلسة الأولى لدورة أكتوبر    نجمة "الغوسبل" سيسي هيوستن تغادر دنيا الناس عن 91 عاما        قطاع الانتقال الطاقي سيحدث أزيد من 400 ألف منصب شغل بحلول سنة 2040    مسيرة حاشدة بمكناس تنديدًا باستمرار حرب الإبادة في غزة والعدوان على لبنان    إدارة سجن العرجات توضح حقيقة تعرض محمد زيان لنوبات قلبية    كيوسك الثلاثاء | المغرب يتفوق على الدول المغاربية في البنية التحتية ويتقدم 6 درجات عالميا    تراجع طفيف لأسعار النفط بعد بلوغها أعلى مستوى في أكثر من شهر    المملكة العربية السعودية تجدد تأكيد دعمها لمبادرة الحكم الذاتي وللوحدة الترابية للمغرب    اختراع نبات صناعي يولد الكهرباء لشحن الهاتف    أنقرة تتحرك لإجلاء الأتراك من لبنان    النفط يرتفع لأكثر من 80 دولارا للبرميل مدفوعا بالتوترات في الشرق الأوسط    القضاء يلزم "غوغل" بفتح المتجر الإلكتروني أمام المنافسة    الرجاء يتفق مع المدرب البرتغالي سابينتو    تحليل ثقافي واحتجاج ميداني.. بلقزيز يستشرف قضية فلسطين بعد "طوفان الأقصى"    تطوان تحيي ذكرى 7 أكتوبر بالدعوة إلى التراجع عن تطبيع العلاقات مع إسرائيل    الرئيس التونسي قيس سعيد يخلف نفسه بعد فوزه بأكثر من 90% من الاصوات    إقصائيات كأس إفريقيا 2025.. الركراكي يوجه الدعوة للاعب "الرجاء" بالعامري مكان مزراوي المصاب    الرجاء والجيش الملكي في مجموعة واحدة بدوري أبطال إفريقيا    النادي السينمائي لسيدي عثمان ينظم مهرجانه ال10 بالبيضاء    زهير زائر يعرض "زائر واحد زائر مشكل" بالدار البيضاء ومدن أخرى    تعليقاً على قرار محكمة العدل الأوروبية، وما بعده!!    اسئلة وملاحظات على هامش قرار المحكمة الاوروبية    المنتدى العربي للفكر في دورته 11    اغتيال حسن نصر الله.. قراءة في التوقيت و التصعيد و التداعيات    أهمية التشخيص المبكر لفشل أو قصور وظيفة القلب    جائزة نوبل للطب تختار عالمين أمريكيين هذه السنة    جائزة كتارا تختار الروائي المغربي التهامي الوزاني شخصية العام    بنحدو يصدر ديوانا في شعر الملحون    رواندا تطلق حملة تطعيم واسعة ضد فيروس "ماربورغ" القاتل    معاناة 40 بالمائة من أطفال العالم من قصر النظر بحلول 2050 (دراسة)    دراسة تكشف معاناة 40 % من أطفال العالم من قصر النظر بحلول 2050    تسجيل حالة إصابة جديدة ب"كوفيد-19″    الزاوية الكركرية تواصل مبادراتها الإنسانية تجاه سكان غزة    القاضية مليكة العمري.. هل أخطأت عنوان العدالة..؟    "خزائن الأرض"    موسوعة تفكيك خطاب التطرف.. الإيسيسكو والرابطة المحمدية للعلماء تطلقان الجزئين الثاني والثالث    اَلْمُحَايِدُونَ..!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جذور التكفير في الإسلام
نشر في هسبريس يوم 09 - 02 - 2017


(1)
مقدمة
يعيش العالم الإسلامي اليوم داخل دوامة من الحروب والصراعات التي تذكيها الكثير من الأحكام والمواقف الطائفية المتطرفة، والتي يتبناها طائفة ممن آلت إليهم أمور الاجتهاد والفتوى في زمن الإنحطاط، فغالوا في بعض أحكامهم وأطلقوا العنان لفتاويهم التي طالت كل مناحي الحياة الإجتماعية والسياسية والإقتصادية. فضيقوا بذلك واسعا من الدين وأشكلوا على الناس إيمانهم البسيط بقضايا متشابهة بنوا عليها أحكاما قاطعة، وطعنوا في عقائد عدد من المسلمين ممن خالفهم في الرأي أو المذهب، حتى أخرجوا فرقا منهم من دائرة الإسلام، مما كان ذريعة وسببا لمن انساق وراء افتراءاتهم بإباحة الدماء، وانتهاك الحرمات وتخريب البنيان.
وبعد أن طوى الغرب المسيحي إلى غير رجعة عهد الحروب الطائفية والعرقية بفتح صفحات جديدة في التسامح بين المذاهب والأديان والتيارات والأعراق في إطار حرية المعتقد والفكر، والتأسيس لآفاق واعدة من أجل البناء المشترك والتقدم والرقي في سلم الحضارة، يعود فقهاء التكفير والتطرف اليوم بقوة إلى الساحة الإعلامية والدولية لإحياء النعرات الطائفية وبث الأحقاد و التهم الباطلة التي لا تستند في غالب الأحوال إلا على الشبهات مما تفرق في بطون الكتب من الروايات الضعيفة والمختلقة، أو بعض المواقف والإجتهادات المتطرفة التي عف عنها الزمن.
حيث لم يسلم من مواقفهم المتطرفة وفتاويهم التحريضية فريق من المسلمين عبر التاريخ، فكفروا من خالفهم من الفرق والمذاهب الإسلامية كالمعتزلة والشيعة، وطعنوا في عقائد أهل التصوف ووصموا أحوالهم بالشرك والبدع، وكفروا الفلاسفة1، وبخسوا العطاءات الفكرية والإبداعية للعلماء والمفكرين عبر العصور، واجتهدوا في تحريم وتبديع (من البدعة) كل وسائل الحضارة والإجتهادات البشرية التي لم يأت في شأنها نص من الكتاب أو السنة، فتم تكفير أتباع بعض المذاهب البشرية كالإشتراكية واتهموا أتباعها بالإلحاد والمروق عن الدين؟؟ وكفروا أنصار المجتمع المدني والدولة الحديثة، وذلك بمقتضى تأويلات فقهائهم لبعض الآيات القرآنية، كقوله تعالى: "ومن لم يحكم بغير ما أنزل الله فأولائك هم الكافرون"2. وهكذا لم تسلم طائفة من المسلمين حتى ولو وافقتهم في بعض أقوالهم وآرائهم من الهجوم، حتى عطلوا حركة الإجتهاد والفكر والإبداع في المجتمعات الإسلامية فكانوا بذلك من أهم أسباب الإنحطاط والنكوص الذي عرفه المسلمون، في مقابل تفوق الغرب "الكافر" حسب تعابيرهم التي لا تخلو عادة من الاستعلاء على غيرهم ولو كان أفضل منهم حالا؟؟
فما هي جذور التكفير في الإسلام؟ ومن أين تستمد الجماعات التكفيرية اليوم مشروعيتها، وشرعية أفكارها واجتهاداتها؟ هل لذلك علاقة بما تفرق من نصوص ومواقف في التراث الإسلامي، أم أن ذلك فقط ما يحاول الغرب نسبه إلى المسلمين؟
بدايات التكفير:
المشهور بأن الخوارج أول من رفع لواء التكفير صراحة في وجه الإمام علي بن أبي طالب وخصميه معاوية وعمرو بن العاص بعد حادثة التحكيم3 خلال أحداث الفتنة الكبرى، فأهدروا بذلك دماءهم ودماء من شايعهم من المسلمين. وذلك بعد أن رفض الإمام علي (ع) دعوتهم إلى الرجوع عن نتيجة التحكيم رغم أنها لم تكن في صالحه بعد أن احتال عمرو بن العاص مندوب معاوية بن أبي سفيان على أبي موسى الأشعري مندوب الإمام علي (ع) مما وتر الأجواء مرة أخرى بين الفريقين وأعاد الوضع إلى ما كان عليه قبل معركة صفين. وقد التحق الخوارج –سموا بذلك لأنهم خرجوا على الإمام علي- بعد ذلك بموضع يقال له حروراء، فأرسل إليهم الإمام تلميذه ابن عباس (رض) لمناظرتهم، حيث رجع منهم جزء كبير، وبقي من بقي منهم على موقفه المتصلب، حتى دعا الإمام علي (ع) إلى قتالهم بعد أن بدؤوا بإرهاب الناس وقتل من لم يتبعهم في الطرقات، فشتت أمرهم في واقعة النهروان، وبقيت نفوسهم موتورة عليه، إلى أن اغتاله منهم عبد الرحمان بن ملجم بعد أن تربص به في المسجد عند صلاة الفجر، وضربه بسيف مسموم على رأسه.
بيد أن هناك مواقف أخرى سبقت موقف الخوارج زمن الخلفاء، فقد اعتبر الخليفة الأول أبو بكر (رض) مانعي أموال الزكاة من جملة المرتدين، واشتهر بقوله فيهم: "والله لو منعوني عقالا لقاتلتهم عليه"، وقد خالفه في ذلك عدد من الصحابة كعمر وعلي. وكان من جملة المآسي التي وقعت قتل خالد بن الوليد للصحابي الجليل مالك بن نويرة وكان قد جمع زكاة قومه، لكنه تريث بعد شيوع أنباء عن الخلاف السياسي الذي وقع بين المهاجرين والأنصار في المدينة بعد حادثة السقيفة وامتناع بعض أقطاب البيت النبوي عن بيعة أبي بكر كالإمام علي ومن شايعه من الصحابة.
كما ثبت أيضا أن عائشة (رض) قد حرضت الناس على قتل عثمان بن عفان عندما قالت لهم: (اقتلوا نعثلا فقد كفر4)، و نعثل هو رجل يهودي كان يعيش في المدينة طويل اللحية. وقد كانت عائشة تنكر على عثمان مع من ينكر عليه، وكانت تخرج قميص رسول الله (ص) وتقول: هذا ثوب رسول الله لم يبل وعثمان قد أبلى سنته5، وقد صدق المسلمون ومنهم صحابة دعوى عائشة فاستجابوا لتحريضها فشاركوا في قتله، وأجمعوا على دفنه في مقبرة اليهود (حش كوكب)، وقبروه هناك6.
مع الأمويين:
بعد أن تمكن بنو أمية من السلطة في الدولة الإسلامية أعادوا رفع ورقة التكفير في وجه خصومهم من أقطاب المعارضة السياسية والفكرية، فكان من أبرز من اكتوى بنار التكفير؛ شيعة أهل البيت (ع) وآباء المعتزلة الذين أطلقوا عليهم اسم "القدرية"، وذلك على عكس مقصود مذهبهم7.
فمنذ ذلك الحين اتهم الشيعة8 بسب الصحابة ممن كانوا في صف معاوية، أو مهدوا له السبيل بخروجهم على الإمام علي خلال أحداث الفتنة الكبرى لإقامة ملكية وراثية على أنقاض دولة الخلافة، في نفس الوقت الذي حمل هو نفسه الخطباء والفقهاء على سب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب9(ع)، ولم يأل جهدا في تتبع أصحابه وامتحان ولاءهم للإمام حتى بعد اغتياله وتنازل ابنه الإمام الحسن على الخلافة له. فسار على ذلك من جاء بعده من الحكام الأمويين، حتى قتل من أجل ذلك خلق كثير من أجلاء الصحابة والتابعين كعمرو بن حمق الخزاعي، وحجر بن عدي الكندي، وكميل بن زياد النخعي، وميثم التمار الذي رموه بالكفر، فصلبوه وقطعوا لسانه، وقنبر مولى الإمام علي الذي ذبحه الحجاج..ولم يتوقف هذا الإمتحان حتى جاء الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز (رض) وأبطل هذه السنة المقيتة.
أما آباء المعتزلة، فلم يكونوا أفضل حالا من رموز الشيعة في العهد الأموي، فقد قتل معبد الجهني مصلوبا بدمشق بعد أن أهين كثيرا من طرف الحجاج في عهد عبد الملك بن مروان. وقد كان ينفي المذهب الجبري الذي انتصر له الأمويون، وينادي بالحرية الإنسانية. وقتل في سبيل ذلك أيضا غيلان الدمشقي وقد كانت له صلة بالخليفة عمر بن عبد العزيز الذي عهد إليه بتصفية أموال أقاربه، فأخذ ينادي في المدينة: "تعالوا إلى متاع الظلمة، تعالوا إلى متاع الخونة.." فلما جاء هشام بن عبد الملك، عقد له محاكمة صورية، حكموا على إثرها بكفره، فقطعوا لسانه ويديه وصلبوه على باب دمشق، وقتل الجعد بن درهم -وقد كانت له صلة سياسية بيزيد بن المهلب- بعد أن ذبحه والي الأمويين خالد القسري بجامع واسط بالعراق يوم عيد الأضحى وكان يدعو إلى تأويل الآيات القرآنية التي توحي بالتجسيم مثل "يد الله فوق أيديهم" بما ينزه الله عن صفات مخلوقاته، وقتل الجهم بن صفوان بعد أن تم تكفيره وكان قد ثار مع الحارث بن سريج في خراسان آخر العهد الأموي، وكانت دعوته الكتاب والسنة والشورى..
وهكذا حاول الأمويون استئصال رموز المعارضة السياسية والفكرية لدولتهم باستعمال ورقة التكفير والإرهاب، فمن خرج عن الحاكم وشد عن رأي الجماعة وجب قتله مهما يكن. وقد برر ابن عربي10 ليزيد بن معاوية الأموي قتل الإمام الحسين (ع)، عندما قال قولته الشهيرة: "قتل الحسين بسيف جده" يقصد بذلك أن الحسين قد خرج على إمام المسلمين يزيد بن معاوية فوجب قتله!!
من الحشوية إلى الحنابلة:
كان من حيل الأمويين تسخير مرتزقة من رواة وفقهاء الدولة لوضع أحاديث مختلقة ونسبتها إلى الرسول (ص) لتشويه صورة معارضيهم السياسيين وتنفير عامة الناس منهم، حيث تلقف هاته الأحاديث عدد من فقهاء الظاهر ومن جاء بعدهم من أهل الحديث والحشوية11 ليستمدوا منها الكثير من المواقف المتطرفة والمغالطات التي زادت من تعميق الخلاف بين المسلمين فيما بعد، مما فتح باب التكفير على مصراعيه.
فمن جملة تلك الأحاديث ضد آباء المعتزلة، ما أخرجه أبو داود في سننه، عن رجل من الأنصار!! عن حذيفة، قال: قال رسول الله (ص): لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون لا قدر، من مات منهم فلا تشهدوا جنازته، ومن مرض منهم فلا تعودوهم، وهو شيعة الدجال، وحق على الله أن يلحقهم بالدجال12. ومن ذلك ضد الشيعة، ما أخرجه عبد بن حميد، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله (ص): يكون في آخر الزمان قوم ينبزون: الرافضة13يرفضون الإسلام ويلفظونه، أقتلوهم فإنهم مشركون14. ومن ذلك ضد كل من عارض سياسة الحاكم الأموي: "من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد منكم، يريد أن يشق عصاكم، فاقتلوه"15!!
وقد ورث الحنابلة16 حرص الحشوية على النصوص، فسموا أنفسهم "أهل السنة والجماعة" وسطع نجمهم بعد أن انتصر الخليفة العباسي المتوكل لإمامهم أحمد ابن حنبل في محنة خلق القرآن التي بدأت في عهد المأمون بسعي من المعتزلة، ليرفعوا لواء التكفير ضد كل من خالفهم من الفرق والمذاهب الأخرى، حتى امتحنوا الناس في حب إمامهم17؟؟ فأزهقت في ذلك أرواح كثيرة خاصة من الشيعة والمعتزلة.
وقد كان الحنابلة من أشد المسلمين تزمتا في ذلك العصر، حتى نفر الناس منهم. يقول صاحب النهج الأحمد: "فقد كنا في عهد الصبا نسمع الرجل يصف رجلا آخر فإذا أراد أن ينعته بضيق الصدر والتزمت وصلابة الرأي وعدم انقياده للحديث يلقى إليه قال "حنبلي" ولا يزال الناس إلى يومنا هذا يذكرون هذه العبارة في مثل هذا المعرض18"، ووصفهم ابن عقيل الحنبلي قائلا: "قوم خشن تقلصت أخلاقهم عن المخالطة وغلظت طباعهم عن المداخلة19".
هذا الجفاء وتلك الغلظة كانا من وراء الكثير من خلافاتهم مع علماء وفقهاء المذاهب الإسلامية الأخرى. حيث كانوا يرون أنفسهم بمنأى عن سائر طوائف العلماء. وكانوا يستعملون الأحاديث لإقصاء خصومهم. وقد احتفظ لنا التاريخ بعدة وقائع تصف لنا حركتهم، حيث كانوا يجوبون الأسواق في تظاهرات مفاجئة يهجمون خلالها على المواخير وبيوت الغناء والرقص في بغداد، ويحدثون جلبة وفوضى كبيرة، تستدعي تدخل جيش السلطان لإعادة الأمن وتفريق جماعات العوام المشاركة في هذا العمل الدعوي الإستنكاري!!
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل كما يقول صاحب النهج الأحمد: "تجاوزوا ذلك كله، وذهبوا إلى محاربة من يخالفهم في بعض الآراء سواء في ذلك المسائل الأصولية أو المسائل الفرعية"20 فحاربوا الأشاعرة وأعلنوا تكفيرهم وتهجموا على علمائهم، وتعرضوا لأبي إسحاق الشيرازي الشافعي وكفروه، وحملوا على إبن جرير الطبري21 صاحب التاريخ والتفسير ومنعوا من دفنه لما مات، حتى دفن بداره ليلا، وطلبوا ابن عقيل الحنبلي لما علموا أنه يتردد على بعض شيوخ المعتزلة، وأرادوا أذيته حتى كتب بخط يده إقرارا يعتذر فيه عما بدر منه ويعطي إمام المسلمين الحق في التنكيل به إذا ظهر منه فيما بعد شيء مماثل22.
وهكذا شهدت بغداد فتنا مذهبية عاصفة، خاصة خلال النصف الأول من القرن الرابع. يقول ابن كثير في حوادث سنة 354ه:"..ثم تسلطت أهل السنة (يقصد الحنابلة) على الروافض (يقصد الشيعة)، فكبسوا مسجدهم..وقتلوا بعض من كان فيه من القومة"23. وتوالت الفتن، كل سنة يهجم عوام الحنابلة على مناطق الشيعة ومساجدهم فيعيثون فسادا. وقد كان بعض ذوي السلطان يدعمونهم ويشجعونهم على ذلك. وذكر ابن الأثير في حوادث سنة 363ه حيث قال:"ثارت العامة من أهل السنة ينصرون سبستكين..فثاروا بالشيعة، وحاربوهم، وسفكت بينهم الدماء، وأحرقت الكرخ حريقا ثانيا، وظهرت السنة عليهم24..
وقد استفاد خصوم الشيعة من ثرات فكري ووقائعي مليء بالكراهية والحقد شرعه بنو أمية وعمق شرخه بنو العباس واحتضنه حشوية الحنابلة، يوقدون ناره كلما أوشكت على الإنطفاء، إلى أن جاء كبيرهم ابن تيمية الحراني، فعمد أولا إلى عقلنة هذا الحشو وصياغته في بناءات عقدية تنسجم و طروحات القوم25، قبل أن يجهز ثانيا بفتاويه الجريئة على ما تبقى من أواصر الأخوة والتعايش بين المسلمين وبينهم وبين باقي الملل والنحل..يتبع
هوامش:
1- عاش ابن سينا شريدا في وطنه، ومات أبو حيان التوحيدي منبوذا فقيرا، وأحرقت كتب ابن رشد واتهم في دينه بعد أن كان فقيها وقاضيا ولم يدانيه في العلم أحد من حساده ومبغضيه، ومازالت الفلسفة إلى يومنا هذا تعاني من تبعات هذه المواقف الدينية المتطرفة.
2- المائدة-44. وقدد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس، في شرح هاته الآية، حيث قال: ليس بالكفر الذي تذهبون إليه. إنه ليس كفرا ينقل عن الملة. رواه الحاكم في مستدركه2/313. وقال صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. وقد وافقه الذهبي.
3- بعد أن استحر القتل بين الجيشين رفع أنصار معاوية المصاحف على الرماح، حيث دعوا بذلك أنصار علي لوقف القتال والاحتكام إلى كتاب الله، بيد أن الإمام علي (ع) كان يرى في ذلك خدعة من معاوية وعمرو بن العاص لذلك لم يقبل التحكيم في البداية حتى حمله فريق من جيشه على قبوله وهو له كاره.
4- أنظر النهاية لابن الأثير الجزري الشافعي 5/80, تاج العروس للزبيدي 8/141, لسان العرب 14/193.
5- شرح النهج لابن أبي الحديد المعتزلي (3/9)، وانظر تاريخ المختصر في إخبار البشر لأبي الفداء (1/172).
6- راجع : طبقات ابن سعد 3 / 78, والعقد الفريد 4 / 270.
7- ذلك أن فقهاء بني أمية هم من كانوا يروجون لبعض الروايات التي تذهب إلى أن قدر الإنسان ومصيره محتم سلفا وبذلك فهو مجبور وليس مخير، في الوقت الذي دافع فيه آباء المعتزلة على حرية الإنسان واختياره.
8- لغة يعني الأتباع، وهو لقب اختص به شيعة آل البيت (ع) من آل علي بن أبي طالب تحديدا.
9- روي عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعدا، فقال: ما منعك أن تسب أبا التراب؟ فقال: أما ما ذكرت ثلاثا قالهن له رسول الله (ص) فلن أسبه لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم. سمعت رسول الله (ص) يقول له لما خلفه في بعض مغازيه، قال له علي: يا رسول الله خلفتني مع النساء والصبيان؟ فقال له رسول الله (ص): أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبوة بعدي. وسمعته يقول: يوم خيبر لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، قال: فتطاولنا لها، فقال: ادعوا لي عليا فأتي به أرمد فبصق في عينه ودفع الراية إليه، ففتح الله عليه. ولما نزلت هذه الآية "فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم" دعا رسول الله (ص) عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال: اللهم هؤلاء أهلي. انظر صحيح مسلم-كتاب فضائل الصحابة - باب علي ابن أبي طالب.
10- الضوء اللامع ج4 ص147 دار الجيل، وفيض القدير بشرح الجامع الصغير ج1 ص265.
11- الحشو لغة ما يملأ به الوسادة، والحشوية لقب تحقير أطلق على فريق من أصحاب الحديث الذين اعتقدوا بصحة الأحاديث المختلقة من الإسرائيليات وما ساهم في وضعه المتملقون للساسة والكذابون.
12- سنن أبي داود: 4/222 برقم 4691.
13- ورد مصطلح الرافضة لأول مرة في كتاب معاوية على عمرو بن العاص وهو في البيع: أما بعد فإنه كان من أمر علي وطلحة والزبير ما قد بلغك، وقد سقط إلينا (علمنا أن) مروان بن الحكم في رافضة أهل البصرة..أنظر وقعة صفين لنصر بن مزاحم المنقري، ص 39.
14- مسند عبد بن حميد برقم 698، رواه في المسند الجامع: 9/596 برقم 1176.
15- رواه مسلم -1852-
16- يقول المؤرخ الصفدي: "والغالب في الحنابلة أنهم حشوية، كما أن جل المؤرخين متفقون على وصف الحنابلة بأنهم حشوية مجسمة – المدخل إلى علم الكلام-ص 76
17 -ومما قالوا: "من أبغض أحمد بن حنبل فقد كفر" طبقات الحنابلة - ص8.
18- النهج الأحمد في تراجم أصحاب أحمد، مجير الدين العليمي، ج1 ص21.
19 -إسلام بلا مذاهب، م س، ص 431.
20 -النهج الأحمد، ج1، ص37.
21- وذلك عندما صنف كتابه "اختلاف الفقهاء" حيث لم يذكر من بينهم أحمد ابن حنبل فقد عده من أهل الحديث وليس الفقه، مما أثار عليه الحنابلة فحرضوا عليه الناس وحاصروه في بيته، ثم رموه بعد ذلك بالرفض وأهاجوا عليه العامة يوم وفاته.
22 -النهج الأحمد، ج1، ص37.
23 -البداية والنهاية، ج11، ص254.
24- الكامل في التاريخ لابن الأثير، ج8، ص637.
25- خاصة من خلال كتابيه: "منهاج السنة النبوية" و"العقيدة الواسطية".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.