مجلس الحكومة يصادق على مشاريع مراسيم أحدهم يتعلق بعمليات جمع التبرعات من العموم وتوزيع المساعدات لأغراض خيرية    انتقاء 5 مستثمرين لإنجاز 6 مشاريع في الهيدروجين الأخضر ب3 جهات بالأقاليم الجنوبية (فيديو)    ممثل البنك الأوروبي للاستثمار يشيد بالتقدم الملحوظ للمغرب تحت قيادة جلالة الملك    المجلس الوطني لحقوق الإنسان يتابع وضعية الطفلة المعتقلة ويدعو لعدم نشر صورتها    مولاي بوسلهام: إحباط محاولة تهريب 5 أطنان و758 كيلوغراما من مخدر الشيرا وتوقيف شخصين    بايتاس: 12 ألف منصب شغل مرتقب في منطقة التسريع الصناعي ببن جرير    مجلس الحكومة يصادق على مقترحات تعيين في مناصب عليا    الفنان ابراهيم الأبيض يطل علينا باغنية "أسعد الأيام" في رمضان    مرصد: مؤسسات الإيواء السياحي المصنفة بالمملكة تسجل 2,04 مليون ليلة مبيت    بايتاس يطمئن المغاربة بشأن مراقبة المواد الأساسية ويؤكد على الوفرة في المنتجات    على عتبة التسعين.. رحلة مع الشيخ عبد الرحمن الملحوني في دروب الحياة والثقافة والفن -06-    "الفيفا" يدرس توسيع كأس العالم لكرة القدم لتضم 64 منتخبا    أفضلية إنجليزية وتفوق واضح للضيوف في ذهاب ثمن نهائي دوري أبطال أوروبا    بنخضرة تستعرض تقدم إنجاز خط أنبوب الغاز إفريقيا-الأطلسي بواشنطن    قمة الدول العربية الطارئة: ريادة مغربية واندحار جزائري    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال 24 ساعة الماضية    السلطات تمنع تنقل جماهير اتحاد طنجة نحو فاس لمؤازرة فريقها أمام "الماص"    مانشستر يونايتد يدخل التنافس على خدمات نايف أكرد    جون ماري لوكليزيو.. في دواعي اللقاء المفترض بين الأدب والأنثربولوجيا    فصل تلاوة القرآن الكريم في شهر رمضان    أخبار الساحة    الكاف: إبراهيم دياز السلاح الفتاك لأسود الأطلس وريال مدريد!    الدريوش.. المحكمة الإدارية تقضي بتجريد 9 أعضاء بجماعة بن الطيب ورئيس وأعضاء بجماعة أزلاف    اتفاقية شراكة بين وكالة بيت مال القدس ووزارة التنمية الاجتماعية الفلسطينية للتكفل بالأيتام والأطفال مبتوري الأطراف ضحايا الحرب على غزة    شركة لإيلون ماسك تفاوض المغرب لتوفير الإنترنت عبر الأقمار الصناعية في الصحراء المغربية    تأجيل العطلة البينية بين مرحب ورافض    تساقطات ثلجية وزخات مطرية قوية مرتقبة اليوم الخميس بعدد من مناطق المملكة    ارتفاع عدد ضحايا حادثة السير المروعة على الطريق الساحلي باتروكوت    إيرلندا تدعم جهود المبعوث الأممي    الملك يهنئ رئيس غانا بالعيد الوطني    الأداء السلبي ينهي تداولات بورصة الدار البيضاء    قصص رمضانية...قصة الصبر على البلاء (فيديو)    سكينة درابيل: يجذبني عشق المسرح    توقعات نشاط قطاع البناء بالمغرب    السمنة تهدد صحة المغاربة .. أرقام مقلقة ودعوات إلى إجراءات عاجلة    عائلات محطمة بسبب مآسي الهجرة سباحة إلى سبتة مع تزايد أعداد المفقودين    "مرجع ثقافي يصعب تعويضه".. وفاة ابن تطوان الأستاذ مالك بنونة    الفاتنة شريفة وابن السرّاج    السعودية تدعم مغربية الصحراء وتعتبر مبادرة الحكم الذاتي حلا وحيدا لهذا النزاع الإقليمي    كأس العرب قطر 2025 في فاتح ديسمبر    خبير يدعو إلى ضرورة أخذ الفئات المستهدفة للتلقيح تجنبا لعودة "بوحمرون"    تقارير تنفي اعتزال اللاعب المغربي زياش دوليا    بريظ: تسليم مروحيات أباتشي يشكل نقلة نوعية في مسار تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين المغرب والولايات المتحدة    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    اليابان.. قتيل وجريحان في انفجار بمصنع لقطع غيار السيارات    البيض ماكلة الدرويش.. تا هو وصل لأثمنة غير معقولة فعهد حكومة أخنوش.. فين غاديين بهاد الغلاء؟ (فيديو)    المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني يعقد اجتماعا برئاسة شي جين بينغ لمناقشة مسودة تقرير عمل الحكومة    قمة أوروبية طارئة بمشاركة زيلينسكي على ضوء تغير الموقف الأمريكي بشأن أوكرانيا    أمطار رعدية في توقعات طقس الخميس    الأمم المتحدة تحذر من قمع منهجي لنشطاء حقوق الإنسان في الجزائر    وزارة الصحة : تسجيل انخفاض متواصل في حالات الإصابة ببوحمرون    عمرو خالد: 3 أمراض قلبية تمنع الهداية.. و3 صفات لرفقة النبي بالجنة    مسؤول يفسر أسباب انخفاض حالات الإصابة بفيروس الحصبة    أمن طنجة يحقق في واقعة تكسير زجاج سيارة نقل العمال    مكملات غذائية تسبب أضرارًا صحية خطيرة: تحذير من الغرسنية الصمغية    عمرو خالد يكشف "ثلاثية الحماية" من خداع النفس لبلوغ الطمأنينة الروحية    في حضرة سيدنا رمضان.. هل يجوز صيام المسلم بنية التوبة عن ذنب اقترفه؟ (فيديو)    عمرو خالد: هذه أضلاع "المثلث الذهبي" لسعة الأرزاق ورحابة الآفاق    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كن أبا ذر
نشر في هسبريس يوم 15 - 06 - 2017

بعد الصدام الدامي بين المسلمين وجيش الروم في معركة مؤتة سنة 8ه، أراد هرقل الإنتقام من هزيمة جيشه بانتصار مدو على جيش محمد (ص)، فأعد جيشا ضخما من الرومان العرب والغساسنة سيره لحصار المدينة. لكن، وما إن تناهت الأخبار بعد وصول الحشود إلى أطراف بلاد الشام حتى قام النبي (ص) خطيبا في المسلمين يحثهم على الإستعداد لمواجهة العدو والإنفاق في سبيل الله وتجهيز جيش العسرة.
وقد كانت هذه المحطة امتحانا عسيرا لأصحاب محمد (ص)، حيث انكشف خلالها الكثير من المنافقين والإنتهازيين ممن كانوا يتسترون بأقنعة الورع والتقوى خلال أيام الدعة والسلم. حتى أن بعضهم شرع يحرض الناس على عدم الخروج مع رسول الله (ص) في هذه المعركة لبعد المسافة والحر الشديد، وجاء بعضهم يعتذر إلى النبي (ص) بأسباب واهية.
لقد كانت مسيرة الجيش فعلا شاقة، حتى اضطر رجال إلى نحر بعيرهم وشرب ما في كرشه من ماء، وأكل آخرون من ورق الشجر ونبات الأرض. وخلال الطريق شرع رجال يتخلفون عن القافلة ويعودون أدراجهم، فيقال: يا رسول الله، تخلف فلان. فيجيبهم (ص): "دعوه، إن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه". حتى قيل: يا رسول الله، تخلف أبو ذر، وأبطأ به بعيره. فقال رسول الله: "دعوه، إن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه".
وكان أبو ذر قد ركب بعيرا ضعيفا فأبطأ به، فحمل متاعه على ظهره وخرج يتبع رسول الله ماشيًا. ولما نزل الرسول (ص) في بعض منازله، نظر ناظر من المسلمين فقال: يا رسول الله، هذا رجل يمشي على الطريق. فقال رسول الله: "كن أبا ذَرّ".
فلما تأمله القوم، قالوا: يا رسول الله، هو -والله- أبو ذَرّ. فقال رسول الله (ص): "رحم الله أبا ذَرّ، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده".
ولقد كانت نبوءة الرسول (ص) صادقة كما كانت فراسته في الرجل، فقد مات أبو ذر وحده بعد أن تم نفيه إلى الربذة 1 بناء على أوامر عثمان بن عفان بعد أن ضج الأمويون بانتقاداته اللاذعة لتجاوزاتهم التي خالف فيها الكثير منهم سنة الرسول (ص) وسيرة خلفائه قبل عثمان.
فمن هو أبو ذر؟ وماهي الصفات الفريدة التي جعلت من هذا الصحابي الجليل، وكما نعت الله تعالى نبيه إبراهيم في القرآن الكريم أمة قانتا، لا يخشى في الحق لومة لائم ولم تغير الدنيا من أخلاقه ومواقفه شيئا كما فعلت مع الكثير من الصحابة حتى لاقى ربه مطمئنا وعلى نفس العهد الذي قطعه على نفسه بعد إسلامه؟
هو أبو ذَرّ، ويقال أبو الذَرّ جندب بن جنادة الغفاري (رض)، ولد في قبيلة غفار بين مكة والمدينة. وقد اشتهرت هذه القبيلة بالسطو، وقطع الطريق على المسافرين والتجار. وكان أبو ذَرّ رجلاً شجاعًا يقطع الطريق وحده، ويُغير على الناس في عماية الصبح على ظهر فرسه أو على قدميه كأنه السبع، فيطرق الحي ويأخذ ما يأخذ.
يحكى عن قصة إسلامه أنه ذهب يسأل عن النبي الجديد بعد أن وصله خبره، فلاقى عليا بن أبي طالب (ع) في الطريق، فاسترشده فذهب به إلى رسول الله (ص) حتى دخل به إليه، فقال أبو ذر للرسول (ص): اعرض عليَّ الإسلام. فعرضه (ص) عليه فأسلم، فقال له (ص): "يا أبا ذَرّ، اكتم هذا الأمر، وارجع إلى بلدك، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل".
فرد أبو ذر (رض): والذي بعثك بالحق لأصرخَنَّ بها بين أظهرهم.
فجاء إلى المسجد وقريش فيه، فقال: يا معشر قريش، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ. فقاموا وهجموا عليه ضربا حتى كاد يموت لولا أن أدركه العباس، ثم أقبل عليهم فقال: ويلكم! تقتلون رجلاً من غفار، ومتجركم وممركم على غفار. فأقلعوا عنه، فلما أن أصبحت الغد رجع أبو ذر فقال مثل ما قال بالأمس، فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ. فصُنع به مثل ما صنع بالأمس، وأدركه العباس مرة أخرى فأكبّ عليه، وقال مثل مقالته بالأمس!!
لقد كان أبو ذر من الرعيل الأول، ومن صفوة أصحاب محمد (ص) ممن لم يبدلوا ولم يغيروا ولم تستهوهم السلطة أو تجرفهم الدنيا بعد أن أقبلت. وقد قيل له يوما وقد اغتنى أمام عينيه صحابة كانوا بالأمس فقط يتعللون من الفقر بالذكر والصلاة بعد أن أقبلت الدنيا عليهم: ألا تتخذ أرضًا كما اتخذ طلحة والزبير؟
فقال (رض): "وما أصنع بأن أكون أميرًا، وإنما يكفيني كل يوم شربة من ماء أو نبيذ أو لبن، وفي الجمعة قَفِيزٌ من قمح"!!
ولما أجهزت الدنيا على بعض الصحابة فتغير قوم واستبد آخرون، لم يسكت أبا ذر (رض)، بل رج بكلماته معاقل السلطة والثروة على أصحابها، فكان كلما نزل بأرض يردد قوله تعالى2: "وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ" [التوبة: 34-35].
ولقد بدأ بأكثر تلك المعاقل سيطرة ورهبة هناك بالشام، وقد كان معاوية بن أبي سفيان يحكم أرضًا من أكثر بلاد الإسلام خصوبة وخيرًا وفيئًا. روى البلاذري في أنساب الأشراف3 عن أبي ذر أنه كان ينكر على معاوية أشياء يفعلها، فبعث إليه معاوية يوما بثلاث مائة دينار، فقال: إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا؟ قبلتها! وإن كانت صلة فلا حاجة لي فيها.
ولما بنى معاوية قصر الخضراء بدمشق، قال له أبوذر: يا معاوية، إن كانت هذه الدار من مال الله؟ فهي الخيانة، وإن كانت من مالك؟ فهذا الإسراف. فسكت معاوية، وكان أبو ذر يقول: والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها، والله ما هي في كتاب الله، ولا سنة نبيه. والله إني لأرى حقا يطفأ، وباطلا يحيى، وصادقا يكذب، وأثرة بغير تقى، وصالحا مستأثرا عليه.
فقال حبيب بن مسلمة لمعاوية: إن أبا ذر مفسد عليك الشام، فتدارك أهله إن كانت لكم به حاجة. فكتب معاوية إلى عثمان فيه.
جاء في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي عن جلاّم بن جندل الغفاري قال: كنت غلاما لمعاوية على قنسِّرين والعواصم، في خلافة عثمان، فجئت إليه اسأله عن حال عملي، إذ سمعت صارخا على باب داره يقول: أتتكم القطار، تحمل النار! اللهم العن الآمرين بالمعروف، التاركين له، اللهم العن الناهين عن المنكر المرتكبين له. فازبأرَّ (غضب) معاوية، وتغير لونه وقال: يا جلاّم أتعرف الصارخ؟ فقلت: اللهم لا . قال: من عذيري من جندب بن جنادة! يأتينا كل يوم، فيصرخ على باب قصرنا بما سمعت! ثم قال : أدخلوه عليَّ .
فجيء بأبي ذر بين قوم يقودنه، حتى وقف بين يديه، فقال له معاوية :
يا عدو الله وعدو رسوله! تأتينا في كل يوم، فتصنع ما تصنع! أما إني لو كنت قاتل رجل من أصحاب محمد من غير إذن أمير المؤمنين عثمان، لقتلتك، ولكني أستأذن فيك.
قال جلاّم: وكنت أحب أن أرى أبا ذر، لأنه رجل من قومي، فالتفت اليه، فإذا رجل أسمر ضَرب (خفيف اللحم) من الرجال، خفيف العارضين، في ظهره جَنأ (حدب) فأقبل على معاوية وقال:
ما أنا بعدوّ لله ولا لرسوله، بل أنت وأبوك عدوّان لله ولرسوله. أظهرتما الاسلام، وأبطنتما الكفر. ولقد لعنك رسول الله (ص) ودعا عليك مرّات ألا تشبع. سمعت رسول الله (ص) يقول: إذا ولي الأمة الأعين، الواسع البلعوم، الذي يأكل ولا يشبع، فلتأخذ الأمة حذرها منه.
فقال معاوية: ما أنا ذاك الرجل .
قال أبو ذر: بل أنت ذلك الرجل، أخبرني بذلك رسول الله (ص) وسمعته يقول وقد مررت به : اللهم إلعنه، ولا تشبعه الا بالتراب..إلخ
وهكذا كان أبو ذر شديدا في الحق ولا يداهن فيه أحدا مهما علا شأنه. لقد كان مثالا للمناضل الملتزم الذي لا يساوم على مبادئه مهما عرض عليه من مال ومتاع4. وقد كان أبو ذر وبضع رجال ممن كانوا يلتفون خصوصا حول الإمام علي (ع) ويتخذونه نموذجا في الزهد والتقوى والإلتزام بنهج الرسول (ص) كسلمان الفارسي وعمار بن ياسر وبلال بن رباح وحذيفة بن اليمان وعبد الله بن مسعود (رض) من أبرز الأصوات التي علت في مواجهة الخط الأموي الذي ترعرع واستبد في عهد عثمان ليتمكن من إخراج أنصار الخط القبلي الذي دشنه عمر وأبو بكر من معادلة السلطة، بل ويستفرد بها بعد اغتيال الإمام علي بن أبي طالب(ع).
جاء في رواية للواقدي: أن أبا ذر لما دخل على عثمان بعد أن استقدمه من الشام، قال له :لا أنعم الله بك عينا يا جنيدب!
فقال أبو ذر : أنا جندب، وسماني رسول الله (ص) عبد الله، فاخترت اسم رسول الله (ص) الذي سماني به على اسمي .
فقال له عثمان: أنت الذي تزعم أنا نقول: يد الله مغلولة، وأان الله فقير ونحن أغنياء!
فقال أبو ذر: لو كنتم لا تقولون هذا، لأنفقتم مال الله على عباده، ولكني أشهد أني سمعت رسول الله (ص) يقول: "إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا، جعلوا مال الله دُولا، وعباده خَوَلا، ودينه دَخَلا.
فقال عثمان لمن حضر: أسمعتموها من رسول الله ؟
قالوا: لا.
قال عثمان: ويلك يا أبا ذر! أتكذب على رسول الله ؟
قال أبو ذر لمن حضر: أما تدرون أني صَدقتُ !؟
قالوا: لا والله، ما ندري.
فقال عثمان: ادعوا إلي عليا5. فلما جاء، قال عثمان لأبي ذر: أقصص عليه حديثك في بني العاص. فأعاده.
فقال عثمان لعلي (ع): أسمعت هذا من رسول الله (ص).
قال: لا. وقد صَدق أبو ذر.
فقال: كيف عرفت صِدقهُ؟
قال: لأني سمعت رسول الله يقول: "ما أظلَّتِ الخضراء، ولا أقلَّت الغبراء، من ذي لهجة أصدقُ من أبي ذَرِّ"، فقال من حضر: أما هذا، فسمعناه كُلُّنا من رسول الله .
فقال أبو ذر: أحدثكم أني سمعت هذا من رسول الله (ص) فتتهموني! ما كنت أظن أني أعيش حتى أسمع هذا من أصحاب محمد!!
وأمام تعنت أبي ذر، وتصلب مواقفه في مواجهة ما كان يراه انحرافا عن جوهر الإسلام وتعاليمه التي تشربها من معين النبوة عندما كان يصحب الرسول (ص)، فيأتم بسيرته ومواقفه وكلماته -ولا يتوقف عند طقوس العبادات وشرح المتون وتلك التفاصيل التي كان يقصده من أجلها بعض السطحيين، ممن لم تصل عقولهم إلى جوهر الرسالة- لم يجد عثمان بدا من نفي أبي ذر إلى قرية الربذة ليموت هناك وحيدا، حيث لم تجد زوجته ثوبا لكفنه، ولم تقو على القيام بتجهيزه، حتى مر جماعة كانوا في طريقهم من الكوفة إلى المدينة، فوجدوه في قارعة الطريق!! وكان فيهم صدفة الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود (رض) الذي قام بتكفينه وتغسيله والصلاة عليه، ولسان حاله يردد: "رحمك الله يا أباذر، فقد صدقت فيك نبوءة الرسول (ص) كما صدقت فيك فراسته".
جاء في شرح النهج لابن أبي الحديد، عن ابن عباس (رض)، قال :لما أخرج أبو ذر إلى الربذة ، أمر عثمان، فنودي في الناس: ألاّ يكلم أحد أبا ذر، ولا يشيِّعه وأمر مروان بن الحكم أن يخرج به. فخرج به، وتحاماه الناس إلا عليّ بن أبي طالب (ع) وعقيلا أخاه، وحسنا وحسينا(ع)، وعمارا (رض) فإنهم خرجوا معه يشيعونه.
فتقدم علي (ع) إلى أبي ذر وجعل يعزيه فيما قد نزل به، ويأمره بالصبر والإحتساب إلى وقت الفرج. قال: وتقدم مروان بن الحكم إلى علي (ع) فقال: أليس أمر أمير المؤمنين أن لا يخرج مع هذا الشيخ، ولايشيعه أحد من الصحابة!! فإن كنت لاتعلم فاعلم ذلك.
فحمل علي (ع) على مروان فضرب بالسوط بين أذني راحلته، وقال: تنح لحاك (نحاك) الله إلى النار!
فرجع مروان مغضباً إلى عثمان: فأخبره الخبر، فتلظى على علي(ع).
وكان من أبلغ ما قاله الإمام علي (ع) في لحظة وداع أبي ذر:
يا أبا ذر، إنك غضبت لله فارج من غضبت له.
إن القوم خافوك على دنياهم، وخفتهم على دينك، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه، واهرب منهم بما خفتهم عليه. فما أحوجهم إلى ما منعتهم، وما أغناك عما منعوك. وستعلم من الرابح غداً، والأكثر حُسَّداً.
ولو أن السماوات والأرضين كانتا على عبد رتقا ثم اتقى الله لجعل الله له منهما مخرجا، ولا يؤنسنك إلا الحق، ولا يوحشنك إلا الباطل. فلو قبلت دنياهم لأحبوك، ولو قرضت منها لأمنوك6.
إن سيرة أبي ذر الغفاري (رض) تبقى من نوادر السير التي لا يطرقها إلا القليل ممن تشبعت روحه بقيم الحرية والكرامة ورأى جوهر الدين في العدالة الاجتماعية والإستقامة. وقد كان باستطاعته أن يداهن عثمان أو معاوية فيصيب منهما مايشاء من متاع الدنيا ولا يعرضه نفسه للتهلكة، لكنه آثر الزهد وقال صراحة ما كان يواريه بعض الصحابة الذين استفادوا من الوضع الجديد، فخرج عن الإجماع المزعوم. وأتعب من بعده من اتخذ سيرته وموافقه الجريئة نبراسا للسير في طريق الحق..والمواجهة.
الهوامش:
1- قرية صغيرة تقع في جنوب شرقي المدينة المنورة، وتبعد منها حوالي 200 كلمً. وتنتشر فيها المرتفعات الصخرية التي تتداخل أحيانا مع الجبال المرتفعه.
2- كان فقهاء بني أمية يروجون بين الناس بأن هذه الآيات إنما نزلت في أهل الكتاب.
3- أنساب الأشراف 5 / 52 - 54 .
4- لذلك تجد أغلب المفكرين اليساريين يحتجون بمواقف وأقوال أبي ذر الغفاري (رض) ويقدمونه على من اشتهر عند القوم من باقي الصحابة.
5- وقد أراد بذلك إحراج أبي ذر (رض) وقد كانوا يعلمون بأن عليا (ع) كان الأكثر ملازمة للرسول (ص) حتى جعله باب مدينة علمه، ورغم ذلك سوف يسعى الأمويون في إبعاده عن مشورة عثمان والإستفراد به حتى انتهى الأمر إلى قتله بعد أن غضب الناس عليه وهاجوا في كل الأقطار تبرما من سياسات الأمويين من بني أبيه.
6- نهج البلاغة (بشرح عبده) ج2 ص12 الخطبة رقم 130 و شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج8 ص252 وعيون الحكم والمواعظ للواسطي ص552 وموسوعة أحاديث أهل البيت للنجفي ج4 ص113 وج8 ص18 ونهج السعادة ج4 ص11.
*باحث في اختلاف المذاهب الإسلامية
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.