دأب الخليفة عثمان بن عفان على نفي الناقمين عليه والكارهين لحكمه، ومن ذلك ما وقع له مع الصحابي أبي ذر الغفاري الذي كان غاضباً من سياسته المالية مجاهراً بنقمته على ممارسات بني أمية. وقد أفضت هذه المعارضة التي اتسمت بجذرية لا هوادة فيها إلى نفيه إلى الشام. وينقل ابن أبي الحديد، شارح «نهج البلاغة»، أن «أصل هذه الواقعة: أن عثمان لما أعطى مروان بن الحكم وغيره بيوت الأموال، واختص زيد بن ثابت بشيء منها، جعل أبو ذر يقول بين الناس وفي الطرقات والشوارع: بشر الكافرين بعذاب أليم، ويرفع بذلك صوته ويتلو قوله تعالى (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل لله فبشرهم بعذاب أليم). فرفع ذلك إلى عثمان مرارا وهو ساكت. ثم أرسل إليه مولى من مواليه: أن انتهِ عما بلغني عنك! فقال أبو ذر: أو ينهاني عثمان عن قراءة كتاب لله تعالي ؟! وعيب من ترك أمر لله تعابى. فوا لله لَأَن أُرضي لله بسخط عثمان أحب إلي وخير لي من أن أسخط لله برضا عثمان. فأغضب عثمان ذلك وأحفظه، فصابر وتماسك، إلى أن قال عثمان يوما، والناس حوله: أيجوز للإمام أن يأخذ من المال شيئا قرضا، فإذا أيسر قضى؟ فقال كعب الأحبار: لا بأس بذلك. فقال أبو ذر: يا ابن اليهوديين، أتعلمنا ديننا؟! فقال عثمان: قد كثر أذاك لي، وتولعك بأصحابي، اِلْحَقْ بالشام. فأخرجه إليها». وقال علي بن أبي طالب عن أبي ذر في «نهج البلاغة»: «يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ غَضِبْتَ للهِ، فَارْجُ مَنْ غَضِبْتَ لَهُ، إِنَّ الْقَوْمَ خَافُوكَ عَلَى دُنْيَاهُمْ، وَخِفْتَهُمْ عَلَى دِينِكَ، فَاتْرُكْ فِي أَيْدِيهِمْ مَا خَافُوكَ عَلَيْهِ، وَاهْرُبْ مِنهُمْ بِمَا خِفْتَهُمْ عَلَيْهِ; فَمَا أَحْوَجَهُمْ إِلَى مَا مَنَعْتَهُمْ، وأَغْنَاكَ عَمَّا مَنَعُوكَ! وَسَتَعْلَمُ مَنِ الرَّابحُ غَداً، وَالاَكْثَرُ حُسَّداً. وَلَوْ أَنَّ السَّماَوَاتِ وَالاَرَضِينَ كَانَتَا عَلَى عَبْد رَتْقاً، ثُمَّ اتَّقَى للهَ، لَجَعَلَ للهُ لَهُ مِنْهُمَا مَخْرَجاً! لاَ يُؤْنِسَنَّكَ إِلاَّ الْحَقُّ، وَلاَيُوحِشَنَّكَ إِلاَّ الْبَاطِلُ، فَلَوْ قَبِلْتَ دُنْيَاهُمْ لاَحَبُّوكَ، وَلَوْ قَرَضْتَ مِنْهَا لاَمَّنُوك». ويروي ابن شبه في تاريخ المدينة حادثة النفي إلى الشام؛ فعن ابن عباس أن عثمان قال لأبي ذر لما دخل عليه «أنت الذي تزعم أنك خير من أبي بكر وعمر؟ قال أبو ذر رضي لله عنه: ما قلت هذا. قال عثمان: إني أقيم عليك البينة. قال: ما أدري ما بينتك؟ قد عرفتُ ما قلتُ. قال: فكيف قلتَ؟ قال: قلت إن رسول لله (ص) قال (إن أحبكم إليَّ وأقربكم مني الذي يأخذ بالعهد الذي تركته عليه حتى يلحقني). وكلكم قد أصاب من الدنيا غيري. فأنا على العهد، وعلى لله البلاغ. قال له عثمان رضي لله عنه: إلحق بمعاوية. فأخرجه إلى الشام». لقد كان أبو ذر الغفاري يرفع صوته في الطرقات قائلا: «وبشر الكافرين بعذاب أليم». فمن هم هؤلاء الكافرون الذين يبشرهم «بمكاوٍ من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم»؟ إنهم بنو أمية (معاوية وعبد الله بن عامر ومروان بن الحكم والوليد بن عقبة الذين عينهم عثمان ولاة) الذين كان يقول عنهم: «إن بني أمية تهددني بالفقر والقتل، ولَبطن الأرض أحبّ إليّ من ظهرها، والفقر أحبّ إليّ من الغنى»، وكانوا يحاولون عزله، ودفع الناس إلى نبذه، وومنعهم من الاقتراب منه، حتى وصل الأمر أن الناس كانوا يفرّون منه عندما يقبل! وهذا ما انتهى بالخليفة عثمان إلى نفيه إلى الشام، حتى يكون تحت مراقبة معاوية. غير أن معاوية، وبوصول أبي ذر الذي أخذ بقلوب الناس وأبكى عيونهم وأوغر صدورهم، استشعر خطرا ماحقا، فحاول استمالته بإعطائه أموال بغير حق ليتم فضحه بين الناس. وقال ابن شبة: «فبعث إليه معاوية رضي لله عنه جنح الليل بألف دينار. أراد أن يخالف فعله قوله وسريرته علانيته. فلما جاءه الرسول قسم الألف فلم يصبح عنده منها دينار ولا درهم. فلما أصبح معاوية رضي لله عنه دعا الرسول فقال له: انطلق إلى أبي ذر فقل له: أنقذ لي جسدي من عذاب معاوية، أنقذ لله جسدك من النار، فإنه أرسلني إلى غيرك فأخطأت بك. فقال له أبو ذر: اِقرأ على معاوية السلام، وقل له: يقول لك أبو ذر ما أصبح عندنا من دنانيرك دينار واحد. فإن آخذتنا بها فأنظرنا ثلاث ليال نجمعها لك. فلما رأى معاوية أن فعله يصدق قوله، وسريرته تصدق علانيته، كتب إلى عثمان رضي لله عنه: إذا كان لك بالشام حاجة فأرسل إلى أبي ذر، فإنه قد أوغر صدور الناس عليك. فكتب إليه عثمان رضي لله عنه: أن ألحق بي».