مقدمة نقدية لكتاب مصطفى بوهندي: "الإضافة النوعية القرآنية: "مراجعة نقدية لسفر التكوين" 2: 2 سوف أبتدئ هذه المقالة النقدية لكتاب مصطفى بوهندي "الإضافة النوعية القرآنية: مراجعة نقدية لسفر التكوين" بطرح سؤال: هل ما يقوله مصطفى بوهندي وغيره من منتقدي الكتاب المقدس بخصوص تحريفه يقيني أم لا؟ دائماً ينظر الإنسان العادي على أن ما يقوله أمثال هؤلاء الكتاب عن الكتاب المقدس يقيني، لكن الجواب الجيد هو الذي يخترق هاته اليقينيات من أساسها. بهذا المعنى سنحاول أن نضع حداً لهذا اليقين في قراءتنا النقدية هاته بخصوص تحريف الكتاب المقدس؛ فاليقين يصنعه الإنسان، كما اللايقين يصنعه الإنسان كذلك.. الحل؟ أن نفكر جميعاً ونتحول إلى أبطال إيمان -أي ليس من مجرد أحصنة قوية تصنع يقينها، بل إلى أحصنة مدافعة عن مصداقية الكتاب المقدس، وصناع للأجوبة عن الأسئلة الملتبسة... هذا هو رهانناً في هذه المقالات المنشورة بجريدة هسبريس. أين يكمن نقدنا لهذا الكتاب؟ يكمن نقدنا لهذا الكتاب في الخدع التي اكتشفناها فيما يلي: فضح المغالطات غير المعللة أولاً: يقول مصطفى بوهندي في مقدمة كتابه: "أنبياء النصارى (يقصد المسيحيين) هم زكريا ومريم وعيسى" (ص 11)، وهذا غير صحيح، فلن تجد في الإنجيل بكل أسفاره السابعة والعشرين أن زكريا نبي، ومريم نبية، ويحيى نبي، والأهم حتى عيسى حسب التسمية القرآنية أنه نبي، بل إن زكريا شخصية إنجيلية وهو زوج أليصابات الهارونية العاقر التي حبلت رغم كبرها بيوحنا (يحيى بالقرآن)، حسب إنجيل لوقا (1: 57 - 66)، والذي يكبره بستة شهور. أما زكريا، فهذا الذي بارك المسيح عند ولادته، ويحيى هو إبن زكريا، ويدعى بيوحنا المعمدان، واسمه المُضاف "المعمدان" راجع إلى تعميده اليهود من أجل التوبة بنهر الأردن، ولا نقول عن هذه الشخصية بأنه نبي، رغم أنه تنبأ للمسيح قبل أن يصل إليه من أجل تعميده بنهر الأردن، فالكتابات الإنجيلية تصفه ب"المعمدان" فقط. أما مريم فلا تعتبر نبية، بل هي أم المسيح من ناحية الجسد، وهي شخصية يهودية من سبط داوود النبي، وزوجة يوسف النجار، وهي التي أتى منها المسيح، حسب رواية الأناجيل (متى - مرقس - لوقا). فهذه الشخصية النسائية قد تم تَطويبَها من لدن المَسيحيين على مر العصور إلى يومنا هذا، وتعتبر من المَطوبات امتثالاً لترنيمتها الإنجيلية (إنجيل لوقا 1: 46 - 56)، وأن المُؤمنين سَيطوبونَها لأنها حبلت من الروح القدس بدون لقاء جنسي بشري. أما المسيح الذي حرف اسمه إلى عيسى باللعب بأحرف اسمه، فهو ليس بنبي، ولكنه هو الناسوت الذي أظهر لنا اللاهوت، ويعتبر ربّا وإلها للمسيحيين الذي تنبأت به التوراة في أكثر من 315 نبوة كتابية، وهو ابن مريم بالجسد، وابن الله مجازيا لأنه ولد بدون أب بشري؛ فالمسيح ليس نبيا ولكن سميت رسالته نسبة إليه ب"المسيحية". ثم إن هناك إشكالا لم ينتبه له الكتاب المؤدلجون الإعرابيون، وهو أن المسيح هو مؤسس المسيحية، فكيف لشخصيات كتابية سابقة لفترته بزمن أن تكون شخصيات نبوية للنصرانية (المسيحية)، على حد تعبير مصطفى بوهندي. وللإضافة نقول إن مُصطلح النصرانية لا علاقة له بالكتابات الإنجيلية، بل ترجع خلفيته إلى القرآن والتراث الإسلامي، فكلمة "المسيحيين" أطلقت أول مرة من طرف الغلاظيين بآسيا الصغرى (تركيا)، ولم يطلقوا على أتباع المسيح نصارى كما بالكتابات المُؤدلجة الإسلامية منذ أربعة عشر قرناً. ثانياً: جاء بتمهيد الكتاب "الإضافة النوعية القرآنية" (ص 155) أن "النصارى اعترفوا بكتب اليهود، إلا أنهم نسخوها واعتبروا ما فيها عهداً قديماً انتهت صلاحيته بأسفار العهد الجديد، التي تمثلها الأناجيل ورسائل التلاميذ ورؤاهم"، وهذا غير صحيح. ففكرة النسخ غير موجودة في العهد الجديد، والمسيح جاء مكملاً للناموس وليس لاغياً له، وهو القائل: "لم أت لأنقض الناموس بل لأكمل"، وعلى هذا الاعتبار المسيحيون يؤمنون بالكتب السابقة (التوراة)، وليس هناك مسيحي يقول إنه يؤمن بالعهد الجديد (الإنجيل) ولا يؤمن بالعهد القديم (التوراة)، بل يسمون العهدين معاً بالكتاب المقدس؛ أي الأسفار الستة والستين، ومن المعروف أن النسخ أتى به القرآن في متنه "ما ننسخ من آية أو ننسها نؤتي بخير منها أو مثلها..." وليس له علاقة بالأناجيل. ثالثاً: في سياقه عن سجود الملائكة لآدم بالصفحة (288)، يقول مصطفى بوهندي: "ذكرت قصة السجود في أسفار أبوكريفية عديدة، لكنها لم تذكر في سفر التكوين القانوني، لما تحمله من تعظيم للكائن البشري يفوق تصور الكهنة والكتبة اليهود الذين لم يقبلوا إنسانا بتلك القيمة التي تتجاوز قيمة الملائكة وتدفعها للسجود له"، لكن المعضلة أنه لم يذكر ولا سفرا واحدا أبوكريفيا يتكلم عن سجود الملائكة لآدم، بل قال فقط "ذكرت قصة السجود في أسفار أبوكريفية عديدة..."، فالعنوان الفرعي لكتاب مصطفى بوهندي هو "مراجعة نقدية لسفر التكوين"، لكن في الصفحات 16، 17، 18 لا يتكلم الكاتب عن مراجعة نقدية، بل عن سياقات إسلامية ومفارقات قرآنية لا علاقة لها بسفر التكوين. رابعاً: الصفحتان (21 -222) أتى لنا الكاتب بمفهوم "الاستواء القرآني" مدعيا أنه تصحيح لمفهوم "الراحة التوراتي" (الراحة باللغة العبرية "نخم" أي استراح)، الذي يعني العياء، حسب نظر الكاتب. وهنا نقول إن مفردة "الراحة" التوراتية إذا وضعناها في سياقها الكتابي، تعني "أن الله انتهى من عملية الخلق"؛ إذ لا توجد ترجمة دقيقة لهاته الكلمة العبرية "نخم" التي تعني "الراحة" بالعربية و"reested" باللغة الإنجليزية، فإذا كان ما قاله مصطفى بوهندي صحيحاً! فأين نضع الفقرة بإشعياء (40: 28) "إله الدهر خالق أطراف الأرض لا يكل ولا يعيا"، فإذا رجعنا إلى مفهوم الاستواء فهو غير واضح كما عبّر عن ذلك أنس بن مالك الذي لم يفارق نبي الإسلام لمدة سبعة سنوات، حسب الأثر، والذي يقول عن الاستواء: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة". خامساً: لم يرنا الكاتب أين هي النصوص أو الفقرات التي تقول إن الله اتخذ صاحبة وولداً، أو إن الناس ادعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه، فهذه التيمة تتكلم عن الخلق وليس عن الادعاءات (أنظر ص 23). ويقول مصطفى بوهندي إن "سورة آل عمران تعالج موضوعا أساسياً في المسيحية واليهودية... يتعلق بالذات الإلهية، وبالتزوير الذي لحق التاريخ والمعتقد والدين..." (ص 185)، لكن للأسف لا يبدي لنا أين عالجت هاته السورة التحريف المسيحي واليهودي في كتابات التوراة والإنجيل؟ سادساً: لنقرأ معا هذين السطرين اللذين أتيا بالصفحة (411) من المصدر نفسه: "التلاوة القرآنية إذا أعادت إلى الذكر الإلهي الموجدة في التوراة بعده الرباني والإنساني والكوني، الذي فقده بسبب القراءات العنصرية والتاريخية الضيقة..."، لاحظوا معي أن الكاتب يصف التوراة بالذكر الإلهي، ثم يعرج على ما سبق ويقول "إن التوراة فقدت قيمتها بسبب القراءات العنصرية والتاريخية الضيقة..."، فإذا كانت التوراة كلمة إلهية -فلماذا تحتاج إلى تلاوة أخرى كما يقول الكاتب؟ ثم إذا كانت هناك قراءات مخالفة لما هو موجود بالتوراة فهذا شأن قارئيها وليس شأن التوراة. ثم يعرج مصطفى بوهندي بالصفحة (44) في معرض حديثه عن ابَنْي أدم، قائلاً: "هكذا تعيد التلاوة القرآنية البعد الإنساني لقصة ابنَيْ أدم، وتخرجها من الإطار العنصري..."، يدعي الكاتب هنا أن الحاخامات كتبوا قصة ابَنيْ أدم بإطار عنصري، لكن كما هو معروف أن التوراة لا ترجع للحاخاميين، إذ هي كتابات كتبت قبل حضور الحاخامات في المجتمع اليهودي، فزمن مُوسى ليس زمن الحاخامات؛ لأن هؤلاء أتوا بعد زمن مُوسى، ثم إن الحاخامات رجال تعليم وليسوا كتبة كالفريسيين اليهود، فكيف لحاخام أن يتحول إلى كاتب نصوص التوراة؟ فهناك قصص تاريخية قديمة ذكرت بالنصوص المسمارية الأشورية والبابلية شبيهة بروايات التوراة التاريخية، لكن لا أحد طعن في مصداقيتها؟ فلماذا الطعن في التوراة وعدم الطعن في غيرها؟ زيادة على ذلك نقول إن التسمية التوراتية (haksotahh)؛ أي الأسفار الستة (التكوين - الخروج - اللاويين - الثتنية - العدد - يشوع)، تنسب عند أصحاب النقد العالي (نقاد الأسفار المقدسة) إلى موسى وهارون، فكيف ينسب مصطفى بوهندي التوراة للحاخاميين الذين لم يوجدوا بعد؟ إذ مصطلح الحاخامات لم يظهر إلا مع بناء الهيكل بأورشليم (القرن التاسع قبل الميلاد)، ثم تكلم الكاتب عن عنصرية الكتاب المقدس، لكنه لم يوضح لنا أين تكمن هاته العنصرية (أنظر الصفحات 44 و51). سابعاً: يتساءل الكاتب في معرض الكلام بين الأخوين (قايين وهايين) فيما بينهما - "فكلم قايين أخاه... كلم أخاه بماذا؟"، وهنا نقول - كلمه إذ قال له "هيا نخرج للحقل..." هكذا في الترجمات القديمة (أنظر حاشية الكتاب المقدس = الترجمة المشتركة / الإصدار 1995). فالكاتب يدعي أن التوراة لم تتطرق إلى حوار الأخوين (ص 455)، والسؤال هو لماذا يفترض الكاتب بضرورة نقل الحوار هنا؟ فالنص يتكلم عن حوار الرب (سفر التكوين 4: 5 - 9). ثامناً: يقول الكاتب إن الروح الحاخامية لا تسمح بالمساواة بين الناس في موضوع الحياة، ووعد بتفصيل هذا الإشكال، حسب زعمه، "الإشكال الحاخامي"، لكنه لم يف بوعده (أنظر - ص 46). تكلم الكاتب أيضاً في الصفحة نفسها عن "الإحسان والرفع" (ص 466) دون أن يحدد ماذا يعني بهما؟ ثم مصطلح "الإحسان والتقوى" (ص 47). وصلنا الآن إلى ثماني مغالطات غير معللة بكتاب "الإضافة النوعية القرآنية: مراجعة نقدية لسفر التكوين" للكاتب مصطفى بوهندي، وسنتمم هذه القراءة النقدية في مقالتين قريباً بعونه تعالى. *عضو المكتب التنفيذي لمركز الدراسات والأبحاث الإنسانية مدى