كثيرة هي الأفلام الوثائقية والتسجيلية التي صوّرت موضوعاتها حول الإسلام والمسلمين، بكل تلاوينه الحركية والفكرية أو التعالقية. وغالبا ما تحاول تلك الأفلام تقريب الفكر الديني وتمثلاته بالتوجه صوب تصوير الجماعات الإسلامية وتفكيك آليات اشتغالها، لكن من النادر أن تجد فيلما دراميا تهمه الضرورة السينمائية بالقدر الذي يحاول سبر غور موضوعه المحكي بدقة متفانية. عرفت الشاشة السينمائية أفلاما عديدة تناولت موضوع ظاهرة العنف الديني، بمقاربات تاريخية أو سياسية أو اجتماعية ونفسية، منها ما لامس جوهر الظاهرة ومنها ما شوّه معالمها. ويصعب، في المقابل، على المشتغل في الحقل الديني أن يتابع كل ما تجود به السينما العالمية أو المحلية، لاسيما إن كان يراها سطحية لا تعالج عمق الموضوع، ولكون الفيلم السينمائي ليس مجبرا على محاكاة الواقع بتفاصيله وشخوصه. تأتي هذه السطور للوقوف عند فيلمين استطاعا، حسب ما نراه، الاقتراب من ظاهرة الإرهاب المرتبط بشكل مباشر مع الإسلام، وهما الفيلم الفرنسي "Made in France" والفيلم البريطاني "Four Lions". وهذه القراءة للفيلمين ليست نقدية بقدر ما هي تحليلية لموضوع "الإرهاب الديني"، المتمثل هنا ب"الحركات الجهادية". إذ لن نهتم بالجانب التصويري أو الإخراج ولا بأداء الممثلين، وإن كان الحديث لن يخلو أحيانا من الإشارة والالتفات إلى نباهة المخرجين نحو بعض التفاصيل الدقيقة. وسيتم التركيز على الترابط بين النص الأصلي (الواقع الجهادي) وبين بنية النص الداخلية (أحداث الفيلم). لهذا يبقى الفيلمان في نهاية المطاف أساسيان لمن يهتم بتتبع الظاهرة الجهادية في السينما وفي الواقع، على حد سواء. سياق "الجهاد" خارج الفيلمين لم يكن العالم في السنوات الأخيرة ليشهد حدة الهجمات تحت مسمى "الجهاد"، منذ ظهور "القاعدة" وما تلاه من أحداث 11 شتنبر وهجمات مدريدولندن، لولا ظهور تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" سنة 2012. فهذا الأخير أذكى، بشكل غير مباشر، حدة العمليات الإرهابية من حيث الشكل والمضمون، وبالتالي ساهم في توسيع رقعة الخطر والتأهب في العالم. ورغم بُعد موقع "داعش" جغرافيا، إلا أن آلياته الفكرية والدينية كان لها مفعول التأثير عن بعد؛ منها "المبايعة"، "الجهاد ونصرة الدين"، "الولاء والبراء"... إلى غير ذلك من أدبياته ومراجعه. في الآونة الأخيرة شهدت فرنسا أحداثا دامية، تزعمها بشكل جماعي أو فردي فرنسيون بالمولد والمنشأ. منها بالخصوص الهجوم الذي حصل في سنة 2012 على مدرسة يهودية، ثم أحداث صحيفة "شارلي إيبدو"، وصولا إلى حادثة "الباتاكلون" سنة 2015... وغيرها مما حدث مؤخرا. كل هذه الأعمال نسب منفذوها أنفسهم لتنظيم "داعش" وناصروا له الولاء، وتبنّى بدوره أعمالهم وباركها. ورغم أن بعض هؤلاء وُصفوا بأنهم "ذئاب منفردة"؛ أي الذين ينفذون دون تنسيق مباشر مع "الخلية الأم"، لكن مع ذلك يصعب تحديد طبيعة تحركاتهم. في فيديو بثه "داعش" مباشرة بعد أحداث شارلي إيبدو سنة 2015، دعا من خلاله مؤيديه في فرنسا إلى أن يهاجروا إلى "بلاد الخلافة الإسلامية" في العراق والشام، وأن يلتحقوا بالتنظيم ويبايعوا الخليفة البغدادي. وفي حالة تعذر عليهم ذلك، دعاهم إلى أن يبايعوا الخليفة من بلدهم ويباشروا عملياتهم. ويقول أحد قادتهم في الشريط حرفيا: "إن كنتم مخلصين لله في عبادتكم وعقيدتكم ولا تستطيعون الهجرة، اعملوا في فرنسا، أرهبوهم، ولا تسمحوا لهم بالنوم من الخوف والرعب. هناك أسلحة وسيارات وأهداف جاهزة، حتى السم متوفر فاجعلوه في طعام أو شراب أحد أعداء الله. اقتلوهم واتفلوا على وجوههم، واصدموهم بسياراتكم. اعملوا كل ما تستطيعون لإذلالهم فهم لا يستحقون إلا ذلك". وفي فيديوهات أخرى يستحل داعش دم "الكفار" والأجانب ممن يسخرون ويستهزؤون من نبي الإسلام والمسلمين، كما لا يتوانى عن الدعوة إلى الانتقام "نصرة لله" في كل مكان. توظف جل الجماعات الجهادية مفاهيم ذات حمولة دينية "حساسة"؛ كالهجرة والجهاد والقتال والكفر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والغز والخلافة... الخ. ولا يستقيم كلامهم إلا بدعمه بآيات من القرآن ومن الحديث النبوي، وحتى من سير الصحابة والأحداث التاريخية (منحولة كانت أو صحيحة)، وما تبثه قنوات "داعش" وإعلامهم وكتبهم خير دليل (انظر مثلا كتاب إدارة التوحش)! لكن مع هذه الدعوات وطريقة التفكير، كيف تتم تحركاتهم؟ وما هي دوافعهم التي حاول الفيلمان، المذكوران أعلاه، تقريبها سينمائيا؟ "صنع في فرنسا" فيلم "صنع في فرنسا" (Made in France) كان مقررا عرضه يوم 18 نونبر من سنة 2015، لكن وقوع هجمات 13 نوفمبر في فرنسا حال دون ذلك. فقررت الشركة المنتجة عدم عرضه في القاعات، واكتفت ببيعه عبر الأنترنت. وناهيك عن الظرفية التي مرت بها فرنسا في تلك السنة، كان ملصق الفيلم مرعبا؛ إذ تمّت إزالته من محطات المترو والحافلات. ويروي هذا الفيلم، الذي أخرجه "نيكولا بوخريف"، قصة صحافي فرنسي من أصول جزائرية، يحضّر لكتابة تحقيق حول الظاهرة الجهادية. ومن أجل ذلك، يتقرب من خلية تتكون من أربعة شبان مسلمين، يقودهم شخص عائد من باكستان لتنفيذ تعليمات، وللجهاد في فرنسا. ولسبر غور هذه الظاهرة، كان على الصحافي أن يرتاد أماكن تجمع المسلمين ومخالطتهم لمدة 6 أشهر في المساجد الخاصة، لمعرفة لغة الخطاب ووسائل الاستقطاب، لدى خطباء المساجد أولا "الذين يشبهون زعماء الطوائف والخلايا؛ حيث يجد المستمعون لهم من الشباب راحتهم النفسية؛ إذ يكون الأمر في أوله أشبه بالفضول، فيتحول إلى اقتناع ثم إلى تعصب. هكذا يفقد هؤلاء الشباب القدرة على الاعتماد على تفكيركم المستقل". هذا التحليل السوسيو-نفسي في بداية الفيلم، على لسان الصحافي، يلخص فكرة الانتماء الديني وبعض أنماط التدين المغالي منه، والذي استطاع المخرج بهذا المدخل التحليلي أن يحكم نصه الفيلمي للظاهرة الجهادية (الدينية) ليبني عليها نتائجه وحبكته الدرامية. "الأسود الأربعة" في الإطار نفسه، استطاع الفيلم البريطاني "الأسود الأربعة" (Four Lions)، لمخرجه كريس موريس، أن يعالج هو الآخر ظاهرة الجهاد في الدول الأجنبية، وإن على طريقة "الكوميديا السوداء". وبالرغم من أن صدور الفيلم كان في سنة 2010؛ أي قبل ظهور "داعش"، لكن أوروبا والعالم سبق أن شهدا هجمات من "القاعدة" باسم "الجهاد". يصور هذا الفيلم الكوميدي أربعة أشخاص تظهر عليهم سمات الغباء وقلة الفهم، يخططون للقيام بعمليات "جهادية" في لندن؛ وذلك بالاعتماد على فهمهم للنصوص الدينية وللإسلام، وبالاقتداء بما تفعله وتبثه "القاعدة". وسيضطر قائدهم للذهاب إلى باكستان للتدريب ولأخذ المباركة والتعليمات، قصد الرجوع إلى لندن للجهاد ولقتل الكفار. رغم أن الفيلم كوميديا درامية ساخرة، لكن السيناريو محبوك بجدية تعتمد على المقصد الديني لدى الشخصيات، وبشكل دقيق عندما يرتكز على الاعتقاد المبني على الأدلة الخلافية بين علماء الإسلام. يتجلى هذا برسم اتجاهين إسلاميين داخل الفيلم؛ أحدهما سلفي تقليدي، وهو "المتهم" بحكم مظهره الخارجي في أوروبا؛ أي مظاهر التدين والانتماء المتمثلة في اللحية واللباس والتشدد في الفروع. والآخر هو الذي لا تظهر عليه علامات التخطيط أو الإرهاب، بل وتنطلي عليه سمة الغباء والسذاجة، التي تحول دون الشك في تصرفاته. هذا الغباء والسذاجة وظفهما الفيلم في أبسط حوارات أعضاء "الخلية" الأربعة؛ أي بغض النظر عن التخطيط والوازع الديني المشترك بينهم، فإن المتلقي والمشاهد للفيلم سيستنتج استحالة العيش والتفاهم بين هؤلاء ولو في الحياة العادية. هي إذن السذاجة في الحياة قبل سذاجة التأويل والفهم الديني. ولم يكتف المخرج بهذا الحد، بل حافظ على الثيمة نفسها، ثيمة "الغباء والارتباك"، فجعل الغباء والسذاجة محركين فاعلين في الأحداث، من خلال تجسيد "غباء" الشرطة والأجهزة الأمنية كذلك. ليكون للغباء دور في سير الأحداث، ولم لا في صناعة التاريخ، كالذي نجده في حكايات إريك دورتشميد في كتابه "دور الصدفة والغباء في تغيير مجرى التاريخ". الفيلمان.. والواقع ارتباطا بما يعرف في أدبيات الحركات الجهادية، بالخصوص "داعش"، وبما ذكر أعلاه، فإن الفيلمين لامسا حقيقة التنظيمات وما يسبق العمليات الإرهابية؛ كواليسها الدينية والمجتمعية. وهما يشتركان في أمور عدة نقف عند بعضها: يلتقي الفيلمان في كونهما يتناولان موضوع "خلية" تتكون من أفراد عدة لا دراية علمية لهم بالدين، تُأمّر عليها قائدا "أميرا" ذا معرفة بالتخطيط والاستهداف وبالجهاد. ويحاول الفيلمان كشف زيف ارتباط الخلايا في أوروبا بما يسمى "الخلية الأم"؛ حيث يتبين أن العمليات الإرهابية في الواقع قد تكون مجرد اجتهادات فردية. واشترك الفيلمان كذلك في تصوير "الارتباك والتشويش" اللذين يسبقان الإقدام على عمليات "الجهاد". فعدم التفكير وغياب الضمير في هذه الحالات، إما سببه الانتقام والسخط (شخصيات الفيلم الفرنسي)، أو بسبب الغباء والسذاجة (شخصيات الفيلم البريطاني). إضافة إلى ذلك، صور الفيلمان إمكانية "الاجتهاد" و"الكذب" للوصول إلى الغايات لدى الجماعات والخلايا الإرهابية. كما جسدا إزاء ذلك (لاسيما الفيلم الفرنسي) مفهوما دينيا في غاية الأهمية وهو "التقية". هذه الأخيرة تعني في الفكر الديني التظاهر والعمل بما يخالف الاعتقاد والباطن، بالمخالطة وإتيان المحرمات؛ وذلك درءا للشبهات؛ أي "النفاق الشرعي" بصيغة أخرى. لم يغب عن الفيلمين الإشارة إلى أن "الطبع يغلب التطبع"؛ فأحد شخصيات الفيلم الفرنسي سيرسم الثالوث المسيحي بيديه في لحظة موته، ناسيا أنه أصبح مسلما. والجهادي الآخر في الفيلم البريطاني لم يتخلّ عن حبه لموسيقى الراب وللمغني "توباك". من جهة أخرى، تطرق الفيلمان لقضية "مشيئة الله"؛ وذلك بحكم التزام السيناريو بالمفاهيم المؤسِّسة في النصوص الدينية. فأعضاء خليتي الفيلمين ناقشوا فيما بينهم قضية القضاء والقدر والجهاد على مضض، متسائلين: "هل مشيئة الله أن يقتل الأطفال والأبرياء، وأن يموت أحدهم قبل تنفيذ العمليات؟!". فكان جواب الفيلمين أنها "حرب مقدسة، لا يكون فيها المرء مجاهدا إلا بالقتل والتضحية". مثل هذه الإشكالات لم تكن سجالا تاريخيا لدى المتكلمين والفرق الإسلامية فحسب، بل إنها لا تزال تؤرق الفكر الديني أثناء بحثه في القضايا الوجودية. تشترك شخصيات الفيلمين في الوازع الإيماني الاعتقادي، وفي تقنيات الاستهداف والتخطيط، مع ما يدعو إليه "داعش" والحركات الجهادية في الواقع اليوم. ومع أنهما -أي الفيلمان-سلطا الضوء على سوء فهم معنى الجهاد ومعنى الهوية الإسلامية، فهما حاولا تقريب الدواعي النفسية والعقلية للجهاديين في الدول غير الإسلامية، وليس بربط العنف بالظروف الاجتماعية والاقتصادية. نجح الفيلمان، إلى حد ما، في تقريب ما توصلت إليه بعض الدراسات والأبحاث الأكاديمية، التي يمكن تلخيصها في أن تحول المرء إلى جهادي يرجع بالأساس إلى عوامل سوسيو نفسية، منها: الانتقام، البحث عن تحقيق الذات والهوية، الحاجة إلى الانتماء، الملل والبحث عن التغيير... وغيرها مما يذكي قابلية تحوله. هذا التقريب السينمائي قد يساعد في تفسير السر وراء جاذبية "التنظيمات الجهادية" في العالم.