في الدول الديمقراطية حقاً، قد تستغرق عملية إعداد مسودة دستور جديد أشهراً وأكثر، وتشمل المشاورات جميع الأطياف والتنظيمات، وتتنقل لجنة إعداد الدستور المنتخبة (؟) إلى القاصي والداني، ثم تُمكِّن الجميع من التعبير عن رأيها في المسودة – ما دامت مسودة لا تزال - ، ثم تعرضها بعد ذلك، وبعد ذلك فقط ، على استفتاء جماهيري نزيه، ليقول الشعب كلمته المصيرية، فيكون فعلا ميلاد عهد جديد. أما في "الاستثناء المغربي"، فأجواء صياغة الدستور والتحضير للاستفتاء، تجعلنا نطرح أكثر من علامة استفهام. في أجواء صياغة مسودة الدستور: سُجلت حول أجواء صياغة مسودة دستور 2011 العديد من التحفظات، أسالت مداد الكثير من الأقلام الحرة، وإنما أكتفي هنا بالإشارة إلى بعض منها إجمالا: · قرار تعديل الدستور لا يتعدى كونه مِنحة ملكية: توقيتا، وأسلوب اشتغال، وتعيين لجنة ... · عمل لجنة التعديل جد محدود: تجلى ذلك في التعيين الفوقي، ومدة الاشتغال القياسية، وإقصاء أطراف فاعلة في الحقل السياسي المغربي – مثل جماعة العدل والإحسان – من المشاورات، وعدم تمكينها حتى الأحزاب من مسودة الدستور من أجل التنقيح قبل الاستفتاء ... في أجواء التحضير لاستفتاء "الاستثناء": لا يسعُ المتتبع للأجواء التي يُمرر فيها النظام المغربي الدستور الملكي إلا أن يفغرَ فاهُ مشدوهاً أمام جملة من المفارقات من قبيل: · الذي يُنتظرُ منه السهر على وصول صوت الشعب الحر بحيادٍ، دون إكراه أو ضغط ، إلى صناديق الاقتراع، هو نفسه يجهرُ بعزمه التصويت "بنعم"، ما يقودُ المغاربة إلى الاستفتاء على "حامي" الدستور وليس على الدستور؛ · الإعلام الرسمي الذي يُمَوَّلُ من أموال الشعب – كافة الشعب -، والذي يُفترض فيه إيصال صوت الشعب - كافة الشعب -، نجدُ لازمتهُ هذه الأيام هي "نعم للدستور"، حتى أنك لتشاهدها قبل وبعدَ كل مسلسل مكسيكي وتركي، وكذا بعد وقبل كل إشهارٍ لمُنتجات "الأونا". وكأن ال 200 ألف التي خرجت يوم 26 يونيو رافضة للدستور الممنوح بطنجة، وال 50 ألف بالبيضاء – وغيرهم – ليسوا من الشعب. · في الوقت الذي نجد فيه الدولة توفرُ كل الحرية – وأعظِمْ بها من مِنَّة – لمسيرات أنصار "نعم"، وتغدقُ عليهم من خزينة الشعب – حسب اعتراف العديد منهم -، بل وتَغُضُّ الطرفَ عن تجاوزاتٍ لهم "بالقنطار" – وأنا شاهد عيان – في ذات الوقتِ نجدها تُضيِّقُ على مسيرات "لا لا للدساتير .. في غياب الجماهير" بشتى الأصناف، وهذا مما باتَ يعلمه الخاص والعام. ولا يفوتني هنا أن أؤكد على حق جميع المغاربة في التظاهر السلمي، والتعبير عن آرائهم المُساندة أو الرافضة للدستور، وسط جو من الحرية للجميع، والمسئولية من الجميع، والمساواة بين الجميع في الاستفادة من خزينة الشعب والإعلام العمومي والحق في التظاهر و... ماذا بعد استفتاء "الاستثناء"؟ لقد عوَّدنا "الاستثناء المغربي" أن تُحسمَ نتيجة الاستفتاء سلفاً بنسبة 99.9% ، وبشكلٍ نزيه (). وحتى عندما يستطلعُ أحدنا أصوات عائلته ويجدُ أن غالبيتهم مُقاطعين للتصويت، تُقنعنا الآلة الإعلامية بأننا استثناء وسط "الاستثناء" (). فما الذي يجعل من استفتاء 2011 استثناء حقاً؟ سيما وأن الاستفتاء يمر وسط أجواء لا تبعثُ على الثقة كما أشرت. أقول: إن ثمةَ مُحَدِّدا أساسياً يمكنه إنقاذُ بعضٍ من ماء وجه النظام الحاكم الذي استنزفته سنوات "الجفاف السياسي" و"الإفلاس الاقتصادي" .. هذا المحدد ليس هو نتيجة الاستفتاء – ربما هي جاهزة الآن – ولا نسبة المشاركة، بل هو تعامل النظام مع الحركات الاحتجاجية السلمية بعد الاستفتاء، هل يكفلُ لها حقها المشروع– حسب الدستور الحالي وكذا حسب الفصلين 22 و 29 من مسودة الدستور - في التعبير عن رأيها؟، أم يضيقُ صدرهُ وتنطلقَ هراوته لتفتكَ من جديد بالشيوخ والنساء والأطفال؟