"الصحراء" و"الأطلس" وغيرهما أسماء لقاعات سينمائية بمدينة ورزازات صنعت فرجة وفرحة أهل المدينة وزوارها، بعرضها لأجمل ما جادت به استوديوهات السينما العالمية سنوات السبعينيات والثمانينيات من أفلام من مختلف الأصناف، قبل أن تصبح اليوم مجرد أطلال بعد أن أقفلت أبوابها منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي. هذه الفضاءات الثقافية يبكي حالها اليوم من عاش مجدها حين كانت تزدحم بعشاق الفن السابع، وأصبحت جزءا من ذاكرة مدينة وتراثها؛ بل من ذاكرة أجيال عدة من كل الأعمار. هسبريس، وفي جولة استطلاعية لهاتين القاعتين، وقفت على معالمهما التي اندثرت عبر ثنايا الزمن وتحولت إلى مجرد أطلال تحكي ذكريات ماض مشرق قد ولى. وتكاد تتقاطع رؤى شباب ورزازات ونظرتهم اليوم إلى أن هناك فرقا كبيرا بين واقع السينما في سبعينيات القرن الماضي وبين حالها في مطلع القرن الحادي والعشرين. كل شيء تغير، تقنيا وجماهيريا. وفي ورزازات أجيال كاملة من الشباب ممن تتراوح أعمارهم ما بين ال25 إلى ال35 سنة لم تطأ أقدامهم يوما قاعة سينما، واقع لم يعد خفيا على أحد؛ فكل المؤشرات تدل على أن هناك خطرا حقيقيا يهدد تلك الفضاءات الفرجوية، على اعتبار الدور الكبير الذي كانت تلعبه القاعات السينمائية في الترفيه والتوعية والارتقاء بالذوق العام، وأيضا في دعم الاقتصاد المحلي والترويج للسياحة؛ وهو ما يطرح العديد من الأسئلة المهمة والراهنة حول واقع السينما ومستقبلها في مدينة ورزازات. وبمرور السنوات على إغلاق أبواب القاعتين السينمائيتين، ترسخت أزمة الفن السابع بورزازات بعد أنْ لم يتبقَّ بالمدينة قاعة سينما واحدة، بالرغم من أن المدينة معروفة بأكبر استوديو للتصوير السينمائي بإفريقيا، ويلقبونها بهوليود المغرب. ولقد أسهمت عدة عوامل في ضعف الإقبال على قاعات السينما، بالرغم من أنها كانت خلال سنوات القرن الماضي غير كافية ولا تستوعب النمو المتزايد في عدد مرتاديها. كما أنها لم تستوعب ضخامة حجم الإنتاج السينمائي العالمي وحجم استيرادها، وهو ما أدى إلى إغلاق القاعات. وحصر الباحثون والمهتمون في مجال السينما المشاكل والإكراهات التي تؤثر على تطورها، في المحتوى أو المضمون الذي تتناوله، والتي غالبا ما تدور حول موضوعات، بعيدة عن هموم الجماهير ومشاغلها، في محاولة تغييب للواقعين السياسي والاجتماعي. ومن ثم، كان يتم اللجوء إلى طرح موضوعات "بوليسية" وأخرى غايتها التهريج والتسلية في محاولة لأخذ المشاهد من واقعه وتغريبه عنه. بعد هذه الإطلالة على واقع صناعة السينما وقاعات العرض التي اشتهرت في ذلك الزمن، ونالت قسطاً من الشهرة والازدهار، نرى القاعات قد اختفت عن شاشات العرض، وسينما الصحراء والأطلس كانتا تشغلان حيزاً مهماً منها، حتى أن جدرانهما غصتا بالملصقات الخاصة بالإعلان السينمائي. دور السينما.. رافعة للتنمية الثقافية والتلاقح الفكري محمد أوجامر، أستاذ بمعهد السينما بورزازات، أكد، في حديثه لهسبريس، أن السينما تلعب الآن دورا بالغ الخطورة على نطاق واسع، في نقل معطيات الفكر والحياة بلغةٍ قوامُها فهم مشترك، وبأدواتٍ أكثر نفاذا وفاعلية في تشكيل فكر الجماهير ووجدانها. ومن ثم، أصبحت السينما أداة مؤثرة في إحداث التغيير الاجتماعي، وفي التنمية الثقافية. واعتبر المتحدث أن السينما تعد من وسائل الإعلام التي تستخدمها العديد من المؤسسات ذات الصبغة الحكومية لدعم جهودها من أجل التنمية، مضيفا أن الحكومات قبل السينما استخدمت الكلمة المكتوبة بواسطة الصحافة، والمطبوعات على اختلاف أنواعها، والكلمة المسموعة بواسطة الإذاعة. وأبرز محمد أوجامر أن السينما هي أداة من أدوات الثقافة والمعرفة، ووسيلة من الوسائل التعليمية الفعالة التي تهدف إلى الارتقاء بالمجتمع. كما تلعب دورا بارزا في تشكيل قيم المجتمع وعاداته وفنونه، علاوة على استخدامها كوسيلة للتوجيه والإرشاد والتنوير الثقافي، وإثارة الرغبة في تحسين المستوى الاجتماعي، والنمو والتقدم المادي لدى المشاهد، وتحفيز القدرات الكامنة لدى المواطن؛ فالسينما تعطي المشاهد القدرة على التحرك من مكان إلى آخر عن طريق ما يشاهده ومقارنته بما هو عليه، الأمر الذي يثير فيه الرغبة في تحسين مستواه، حيث يقرب الفيلم من المشاهد طرق حياة أخرى مختلفة، لذلك أصبحت السينما في الوقت الحاضر قوة تأثيرية لا يستهان بها، وقد صاحبت التقدم التقني في المجتمعات الإنسانية، وفق تعبير الأستاذ بمعهد السينما بورزازات. التأثير التربوي للفيلم السينمائي وحول التأثير التربوي الذي تلعبه السينما، أكد أوجامر "أن السينما واحدة من القوى التربوية العامة داخل المجتمع، شأنها شأن وسائل الإعلام الأخرى، وسائر مؤسسات المجتمع؛ ذلك إذا تعاملنا مع التربية بمفهومها الواسع". وتشير معطيات الواقع، حسب المتحدث، إلى وجود زيادة ملحوظة في القدرة التربوية لوسائل الاتصال والإعلام، حتى إنها استطاعت الإسهام في تشكيل البيئة بصورة واضحة، في الوقت الذي أخذ فيه التعليم العمومي يفقد احتكاره لهذه المهمة، وما يتصل بها من معرفة. إن السينما تعدّ من أيسر الطرق لتوصيل المعلومات والمعارف إلى طالب العلم والمعرفة، وهي أبلغ تأثيرا على العقول والنفوس من الكلمة المسموعة أو المكتوبة، فالصورة المتحركة لها تأثير كبير على الإنسان مهما كانت ثقافته أو حضارته أو نشأته. ويعبّر المثل الصيني القديم عن ذلك بأن الصورة الواحدة تعادل عشرة آلاف كلمة، حسب تعبيره أوجامر. الأهمية الاقتصادية لصناعة السينما أحمد الجباري، المعروف ب"سفاوين"، فاعل جمعوي، أشار، بدوره، إلى أن السينما تخلق فرص عمل لليد العاملة، فهي تحتاج إلى تخصصات من الفنيين الذين تتوافر لديهم المهارات اللازمة لأداء أعمال معينة، كما تتطلب بعض العاملين الذين تتوافر لديهم مهارات خاصة. وتعتمد صناعة السينما، في منظور سيفاوين، على مجموعة كبيرة من الصناعات والحرف الأخرى التي يعددها البعض بالعشرات الحرف والمهن. من هذه الصناعات صناعة الفيلم الخام، والأجهزة، والمواد الكيماوية، ومواد البناء، وجميع لوازم الديكور، وأدوات الكهرباء، والنجارة، وغيرها.. وعلى ذلك، فإن الأثر الفعلي الذي تضيفه الصناعة على تشغيل الأيدي العاملة يربو بكثير على الأثر الذي يستخلص بالنظر إلى عدد العاملين بالصناعة ذاتها. "حميد. ص" شاب من ورزازات له رأي آخر، حيث أكد أن قاعات السينما سنوات التسعينيات من القرن الماضي بالمدينة كانت تعاني من محدودية الإقبال لأسباب عدة يختزلها صناع السينما في غياب ثقافة سينمائية لدى المواطن العادي تدفعه إلى تخصيص جزء من وقته وميزانيته لارتياد السينما وتزايد محلات القرصنة وفضائيات الأفلام إضافة إلى مستوى الأشرطة المعروضة ورداءة أغلبية القاعات وغياب إنتاج محلي بغض النظر عن استيراد أفلام من الخارج، وهو "ما يجعلنا في ذيل قائمة إنتاج الأفلام وعدد فضاءات العرض لتتقدم علينا دول عربية ما زالت تحبو في هذا المجال؛ ولكنها نجحت في تطوير هذا القطاع". استوديوهات التصوير متنفس الشباب والزوار اليوم وبعد أكثر من عشرين سنة على ذلك التاريخ تئن ورزازات تحت وطأة غياب قاعات العرض، وتأتي أستوديوهات التصوير والإنتاج كبديل لا يمكن له أن يملأ ذلك الفراغ، فهي غير مهيأة لاستقبال الجمهور وتفتقر لحميمية السينما وتجهيزاتها. هذا الواقع أرخى بظلاله على علاقة الجمهور مع السينما في مدينة قدمت خلال السنوات من القرن الماضي للفن السابع ممثلين ومخرجين تركوا بصمتهم على المستوى الوطني والعالمي، منهم من قضى نحبه ومنهم مازال حيا يتألم على ما وصلت إليها الأحوال. كثيرون حملوا المسؤولية فيما وصل إليه واقع السينما بورزازات إلى وزارة الثقافة والمركز السينمائي المغربي اللذين يقع على عاتقهما الجزء الأكبر، فهما المعنيان بالشأن السينمائي بالدرجة الأولى، ويأتي من بعدهما القطاع الخاص والعاملون في الحقل السينمائي. مسؤول بالمديرية الإقليمية لوزارة الثقافة بورزازات، فضّل عدم الكشف عن اسمه، رفض تحميل مسؤولية غياب قاعات العرض للمؤسسة وحدها، موضحا في حديثه لهسبريس "لا يمكن لنا أن نحمل العبء بمفردنا، فالقطاع الخاص له دور أيضا؛ لكنه يتجاهل السينما، على اعتبار أنه رأسمال غير صالح يسعى إلى الربح السريع، والموضوع السينمائي موضوع ثقافي ولا يحقق له الريعية التي يتمناها بوقت قياسي، مما يدفعه إلى الابتعاد عنه". مواطنون آخرون ممن تحدثوا لهسبريس، قالوا إن العوائق التي أدت إلى انهيار وإقفال القاعات السينمائية الخاصة بهذه الصناعة كثيرة، ومن أهمها الأضرار التي ألحقتها القنوات الفضائية والفيديو، لا سيما الأخير الذي اعتبروه نصف المشكلة، فأكثر الأفلام الخاصة بالفيديو انتشرت في المحلات قبل عرضها في القاعات، ونسبة التأثير تتعدى ال50 في المائة إذا ما قورنت بما تبثه التلفزيونات، إضافة الى الاختراعات الأخرى التي طرأت على الساحة السينمائية مثل الحاسوب و"الإنترنت" وغير ذلك، وهذا ما يعتبر مضاربة غير مشروعة من ناحية "إباحة" الأفلام التي تباع بالسوق قبل العرض الأول بالسينما. وتتمنى الساكنة المحلية لورزازات أن تقوم الجهات المعنية بإعادة الاعتبار لهذا الصرحين الثقافيين "سينما الصحراء" و"سينما الأطلس"، بالرغم من أنهما في ملكية الخواص وتخصص لهما جزءا من الميزانية لإعادة تأهيلهما، علما أنهما القاعتان السينمائيتان الموجودتان بورزازات، حيث يضطر القائمون على الشأن الثقافي لتخصيص قاعة قصر المؤتمرات في كل الأنشطة.