لم يعد مجالا للشك أن المتغيرات الدولية والإقليمية التي عرفها العالم خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين لعبت دورا هاما في بروز الحركات الإسلامية إلى الواجهة في العالم العربي على المشهدين السياسي والمدني، وذلك بفعل مجموعة من العوامل الموضوعية والذاتية، تتمثل الأولى في انهيار المعسكر الشرقي وما لحقه من تلاش للأيديولوجية الشيوعية والقومية وتلك التي تدور في فلكيهما، إذ ساهم هذا الحدث في انتعاش الحركات الاسلامية وبروزها بقوة بعد أن اكتسبت خبرات سياسية وميدانية، خاصة في الحرب الأفغانية السوفييتية، والدعم الأمريكي المساند لها من الناحية المادية واللوجستيكية والسياسية، بينما تتجسد (العوامل) الثانية في فشل الأحزاب القومية والاشتراكية....، في تدبير الشأن العام وتحقيق المطالب الشعبية من جهة، وفي التنظيم الداخلي المحكم الذي تتميز به هذه الجماعات في علاقة هرمية منضبطة تميل في سيرورتها وتفاعلها إلى نحوٍ من القداسة (تقديس الزعماء والانضباط الصارم لتعليماتهم)، وذلك مرده لتوهمها بامتلاك الحقيقة المطلقة المستندة على الدين، وباعتبارها مشروع بديل يلامس المطالب الشعبية في شقيها المادي والمعنوي "المستلهم من الدين الاسلامي" جهة أخرى، وبالتالي يبقى كل معارض لها هو في جوهره معارض للمشروع الإسلامي. والحديث عن حزب العدالة والتنمية في إطار التحولات والمعطيات التي أشرنا إليها أعلاه، نجده يحاول تقديم نفسه كمشروع وحل وحيدين أمام الشعب وبديلا عن الأحزاب الأخرى كيفما كانت مرجعيتها، إضافة إلى استفادته من التراكمات التي حققتها مختلف الجمعيات الموازية له وعلى رأسها حركة التوحيد والإصلاح، في تأطير قاعدة مهمة تعلن الولاء للحركة والحزب، قبل المجتمع والدولة، مستغلة في ذلك الخطاب الديني الدعوي كمسكن لأتباعها، ثم الإحسان والمساعدات لضمان استمرارية الولاء للتنظيم عوض الوطن، الذي يوفر لهم كافة التسهيلات المادية الأساسية ثم المعنوية "الروحانية المتمثلة في بناء وتحقيق المجتمع الإسلامي". وأمام تراجع شعبية الأحزاب السياسية، خاصة أحزاب الحركة الوطنية التي قادت الحكومة في العقد الأول من القرن 21، في مقابل الحراك الشعبي الذي عرفته بعض دول العالم العربي الذي سمي "بالربيع العربي" المدعوم من الولاياتالمتحدةالأمريكية في إطار مشروع الشرق الأوسط الكبير التي عملت على تحقيقه عن طريق خلق الفوضى الخلاقة من جهة ومساندة الإسلاميين في الوصول إلى السلطة من جهة أخرى، فُتِح المجال لصعود الإسلاميين إلى السلطة في الدول التي عرفت هذا الحراك بتغيير الأنظمة أو تلك التي تأثرت بهذه الموجة في الدول الأخرى بصولهم إلى الحكومة كالحالة المغربية، من خلال حزب العدالة والتنمية وتصدره بالانتخابات التشريعية لسنتي 2011 و 2016، وقيادته للحكومة في لايتها الأولى وكذلك في ولايتها الثانية في حالة قيام رئيس الحكومة المكلف بتشكيلها. وبوصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكومة خلال الانتخابات التشريعية لسنة 2011، كان من المنتظر أن يعمل هذا الحزب على تطبيق برنامجه الانتخابي والعمل على تحقيق ما وعد به في الحملة الانتخابية، إلا أنه في المقابل قام بمجموعة من الممارسات لا تكاد تجد لها تمييز بين ممارسة الحزب أو (الجماعة) داخل المشهد السياسي المغربي، حيث طبعت ممارسته مع مختلف الفرقاء السياسيين سواء داخل التحالف الحكومي أو خارجه ذلك المنطق الفكري الذي يحكم في ممارساته الداخلية (الاحتواء، الانضباط الصارم، الطاعة، الهيمنة والسيطرة .....) دون مراعات مجموعة من القواعد التي سطرتها منظومة علم السياسة والقانون الدستوري، سواء في تنظيراتها الفكرية كمبدأ الفصل بين السلط أو مبدأ التعاون والتوازن عوض الهيمنة والسيطرة، المتمثل في عدم سيطرة وهيمنة حزب سياسي على باقي الأحزاب احتراما لمفهوم الاختلاف والتعددية الحزبية التي تعكس التنوع والتعدد الذي يعرفه المجتمع على اعتبار أن الحزب وهو تمثيل لفئة أو فئات اجتماعية والدفاع عن مصالحها داخل المؤسسات النيابية، وهذا هو جوهر الخلاف الذي يعرقل تشكيل الحكومة الحالية، حيث عرفت الأحزاب السياسية كيفية التعامل مع هذا الوافد الجديد من الحقل الدعوي إلى الحقل السياسي. هذا التصور الفكري والسياسي والدستوري، تمت ترجمته من خلال أنماط الاقتراع التي تختارها الدول في عملية تمثيل الشعب داخل المؤسسات التمثيلية، ومن بين هذه الأنماط ما يحافظ على التعدد والاختلاف وعدم هيمنة وسيطرة حزب سياسي على آخر، كنمط الاقتراع بالتمثيل النسبي الذي يعطي لمختلف الأحزاب السياسية تمثيلية نيابية تعكس الشريحة التي تعبر عنها كما وكيفا، كما أن هذا النمط من الاقتراع يمنع كل أشكال الهيمنة الأحادية الحزبية، حيث يصعب على الاحزاب الحصول على الأغلبية المطلقة، إذ يستلزم ذلك عقد تحالفات سياسية بين مختلف المكونات على أسس متعددة قد تكون أيدولوجية أو برنامجية .....، كما أن تصدر الانتخابات في هذا النمط من الاقتراع لا يعني حتما وبالضرورة امتلاك قاعدة ميدانية عريضة من أصوات الناخبين أو الكتلة الناخبة. وبالتالي يظل التمييز في هذا الصدد مسألة مهمة بين نتيجة الاقتراع من الناحية العددية وبين التحالفات السياسية كقوة سياسية تعبر عن قوة الفئات الاجتماعية التي تمثلها، وبالتالي لا يمكن الارتهان لنتيجة الاقتراع لوحدها كأساس للتعامل مع باقي المكونات الحزبية، سواء بنظرة فوقية أو تحكُمية أو ابتزازية، على اعتبار أن التحالف يبقى ضروري لاستكمال الأغلبية وبالتالي تشكيل الحكومة. وهذا التحليل يجد مبرراته على المستوى النظري من خلال التطور الذي عرفته مجموعة من المفاهيم النظرية المرتبة بالديمقراطية واتخاذها مجموعة من المفاهيم والأشكال التي تلائم وخصوصيات وبنيات كل نظام سياسي على حدة، فالديمقراطية لم تعد تعني انضباط الأقلية للأغلبية، حيث تطور المفهوم ليشمل مختلف المكونات السياسية لتصبح الديمقراطية التشاركية، التي تعد من الأكثر تطبيقا على مستوى النظم السياسية لرفضها منطق الهيمنة والسيطرة على المشهد السياسي. من خلال ما تقدم يمكن اعتبار أن ما يجري حاليا على المشهد السياسي المغربي على مستوى مؤسستي البرلمان والحكومة ما هو إلا تطبيق سليم لمبدأ الديمقراطية التشاركية ورفض الهيمنة والسيطرة لحزب على آخر كيفما كانت مبرراته، هذا المنطق الذي لم يستطع حزب العدالة والتنمية التفاعل معه، وذلك بالنظر إلى المنطق الفكري الذي يحكم هذا الحزب/الحركة على مستوى بنياتها الفكرية والتنظيمية، والذي يحاول ترجمته في علاقته مع باقي الأحزاب، وهو ما جعله يعرف حالة من العزلة السياسية لعدم قدرته على مواكبة التحولات التي يعرفها المغرب ومؤسساته الدستورية وخصوصيات النظام السياسي المغربي، وبالتالي ففشله في مسايرة هذه التطورات ليس من منطق "التحكم" و"نظرية المؤامرة" كما يحاول أن يبينها للرأي العام وللمتعاطفين على الخصوص، بل لعدم قدرته على التحول من منطق السياسي/الدعوي إلى المنطق السياسي المحض، وبالتالي اعتبار الحزب كباقي الأحزاب السياسية تنظيما وممارسة يخضع لقواعد وأعراف الممارسة السياسية. *دكتور في القانون العام /مجال العلوم السياسية والعلاقات الدولية.