بأي شيء تثبت المصلحة ؟ وكيف نميز بين المصالح العامة والمصالح الفئوية؟ وبين المصالح المتيقنة والمصالح الموهومة؟ وبين المصالح الراجحة والمصالح المرجوحة؟ يرى العز بن عبد السلام أن معرفة ذلك تستفاد من إعمال العقل والتفكر في تجارب الحياة، يقول : (مصالح الدنيا ومفاسدها معروفة بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات ، فإن خفي شيء من ذلك طلب من أدلته، ومن أراد أن يعرف المصالح والمفاسد راجحها ومرجوحها فليعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشرع لم يرد به ثم يبني عليه الأحكام ، فلا يكاد حكم منها يخرج عن ذلك إلا ما تعبد الله به عباده ولم يقفهم على مصلحته ولا على مفسدته)1 فأساس التمييز عنده - باستثناء ما لم يرد بيان مصلحته من العبادات – هو العقل والتجربة ، وهما العنصران الضروريان اليوم لكل معرفة علمية، وعندي أن كلام العز يحتاج إلى تفصيل وتحيين نخلص إليهما باعتماد محددات أربع، لغوية واستقرائية وعقلانية وتجريبية. المحددات اللغوية : المصلحة هي الفعل الذي جلب منفعة أو جنب مضرة، وهي في الاصطلاح القرآني البر في مقابل الإثم ، والخير في مقابل الشر ، والحسنات في مقابل السيئات ، والطيبات في مقابل الخبائث ولا شك أن المصلحة بهذا المفهوم العام مما يستوي في طلبه ومحبته كل إنسان سليم العقل سوي الفطرة مهما كان انتماؤه في اللغة أو الوطن أو المعتقد، وانطلاقا من هذا المفهوم للمصلحة تتشكل وتتطور كل القيم الإنسانية السامية – على تعدد أساليب التعبير عنها من ثقافة إلى أخرى - كالحرية والمساواة وتكافؤ الفرص والعدل والبذل ...وإنما يظهر الخلاف والشقاق في تنزيل هذه المعاني إلى الواقع ، فإذا الناس ينظرون إلى ما اطمأنوا إليه من مصالح من خلال ما انجذبوا إليه من محبة الذات أو من خلال ما اعتادوا عليه من أعراف وتقاليد قد تغلب عليها نزعات القبيلة أو الإقليم أو العرق أو الطائفة ...وإذا مفهوم المصلحة " النافع الطيب الخير " قد يتلوث بما يخرجه عن طبيعته ، من دون أن يغير لفظه ، فيصبح التماس " المصلحة " ذريعة لأغلب المفاسد ، من دون أن يدرك الأفراد ولا – أحيانا – الشعوب ذلك ، وليس الذنب ذنب المصلحة بل ما خالطها والتبس بها من غيرها ، فنحتاج إلى التذكير بجوهر المفهوم من خلال النظر إلى مرادفاته وأضداده ، فنعتبر الأمر مصلحة بقدر اقترابه من النفع والخير والبر والطيبات وابتعاده عن نقيض ذلك كله . وإذا كان الإنغلاق العرقي أو الثقافي أو الطائفي مما يلوث مصطلح " مصلحة " ويخرجه عن مفهومه الأصلي ، فإن الانفتاح مما يحفظه ويقويه ، إذ هو الكفيل بإغناء تجارب الافراد والمجتمعات وهو الممكن من رفع مداركهم وتوسيع انتماءاتهم ، ولذلك فمفهوم " التعارف " القرآني - المتضمن لمعاني الانفتاح وتقبل الآخر - يتجاوز كونه حكما تشريعيا تفصيليا إلى كونه مقصدا من مقاصد التشريع العامة ، حتى يكاد كل اجتماع بين اثنين يخلو من تحقيق التعارف أو تعميقه اجتماع مناف لمقاصد الدين وسنن الصالحين (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا) ، فإذا لم يكن التعارف هو تبادل المعروف بين الناس ، فإنه حتما أحد مقدماته الضرورية ، وأحد العناصر الأساسية المرشدة إلى مفهوم "المصلحة " وعلى الرغم من أهمية هذا المحدد اللغوي فإنه لا يستقل بتمييز صنوف المصالح حتى تنضم إليه باقي المحددات . المحددات الإستقرائية : الأحكام الشرعية نوعان ، جزئية نتوصل إليها بالاستنباط ، وكلية نتوصل إليها بالاستقراء 2، تغوص الأولى في ملابسات الزمان والمكان3 بهدف الإجابة عن أسئلة واقعها ، فتصحح الأخطاء وتقوم الاعوجاج وترشد إلى ما ينبغي القيام به وفق سياق التنزيل وفي ظروفه الخاصة 4 ، وترتفع الثانية فوق الزمان والمكان محددة بوصلة الاتجاه وقوانين الحركة إلى المستقبل ، وبهذا لا يمكن تحديد المصالح والمفاسد بمعزل عن النوع الثاني 5 ، وهو الذي تتحدد به مقاصد الإسلام الكبرى التي استخلصها العلماء عن طريق استقراء مجموع النصوص وتصنيفها وإعادة تصنيفها جيلا بعد جيل بالطريقة التي تزيدها وضوحا وقابلية للتوظيف لإعمار الحياة ، ومن هنا نعتبر الكليات الخمس ( حفظ الدين والعقل والنفس والنسل والمال) من أهم المحددات التي بها يتم ضبط المصالح وتوجيهها بشرط تحيينها وتفصيل القول فيها باستمرار ، وهو ما حدث ببطء في الماضي إلى أن جاء ثلة من المجددين في العصر الحديث يتقدمهم الطاهر بن عاشور وعلال الفاسي فأسلما عصارة فكرهما إلى سلسلة من المجتهدين المعاصرين منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر . المحددات العقلانية : لا يكفي الاستغراق في معاني الألفاظ ولا الاستقراء بحثا عن مقاصد الأحكام حتى يكون العقل رائد ذلك كله ، فبمسلمات العقل يتم فهم النصوص وتوجيه معانيها ، وبها يتم التصحيح والتضعيف ، والقبول والترك ، والأخذ والرد ، و بها يتم الترجيح ، وعلى أساسها يتم التنزيل ، وكل إنكار لدور العقل في شيء من ذلك مكابرة أو استكبار ، فناتج فقه الفقهاء وعلم العلماء عبر ترامي القرون وتوالي الأجيال إنما هو إعمال عقول في نصوص ، وإعمال العقول في النصوص وفي غيرها من مظاهر الحياة كفيل بإدراك الفروق بين المصالح والمفاسد ، وبين المصالح وما هو أصلح ، والمفاسد وما هو أفسد ، إذ ليست المصالح على نفس الدرجة من الحسن ، ولا المفاسد على نفس الدرجة من القبح 6، ولقد طورت البشرية جميع علومها باعتماد العقل والتجربة ، وكانت الرياضيات عماد العقل في أغلب ما توصل إليه الإنسان من منجزات مادية ، كما كانت الفلسفة عماده في أغلب منجزاته المعنوية ، وذلك على الرغم من حيرة الفلاسفة واختلاف مذاهبهم ، فبالفلسفة تم تعميق النظر في القيم والأخلاق وما يصلح وما لا يصلح منهما ، و بها تم تفسير التاريخ للوقوف على عوامل نشوء الحضارات وأسباب سقوطها ، وبها تدرب الإنسان على ربط الأسباب بمسبباتها والنتائج بمقدماتها ، و بها تمكن من تطوير وتحيين وسائل التدبير السياسي من إقرار الحقوق وفصل السلطات واحترام الأقليات والتداول على السلطة .... يوصلنا هذا التحليل إلى القول أن كل تكوين في العلوم الشرعية يخلو من دراسة مباحث الفلسفة هو تكوين أعرج أهوج لا يمكن من فهم المصالح ولا المفاسد ، ولا من جلب هذا ولا من درئ ذاك ، ولا أقصد بالفلسفة دراسة تاريخ الفلسفة وإسهام فلاسفة المسلمين فيها ، بل أقصد دراسة أحدث المدارس الفلسفية الحالية مع إعمال العقل في التحليل والمقارنة ، والنقد والاستنتاج ، فبذلك تتطور السليقة الفكرية والبديهة الذهنية بما يمكن من معرفة المصالح والمفاسد على حقيقتها ، أو على نحو قريب من الحقيقة . المحددات التجريبية : لا يتحقق التمييز في المصالح ما بين الراجحة والمرجوحة ، ولا في المفاسد بين الحقيقية والمتوهمة بمجرد الاستعانة بالمحددات الثلاث المذكورة حتى ينضم إليها التجريب ، فبه تتميز الاستنتاجات العلمية عن الاستنتاجات العقلانية الذهنية ، إن الواقع - وهو محل تنزيل الأحكام - دائم التغير من حال إلى حال ، ومن الأحكام الجزئية التفصيلية ما هو قطعي ثابت في ذاته ، مصلح لأوضاع الناس في حياتهم الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية ...لكن بتغير واقع الناس تتبدل حاجاتهم ومشاكلهم ومتطلباتهم ، وتصبح الأحكام المصلحة بالأمس مفسدة اليوم ، لا بذاتها بل بذهاب مقتضياتها ، ويصبح الحفاظ عليها عبئا تتحمل المجتمعات تبعاته ، فينقسم الناس ما بين محافظ على القديم لأنه عليه نشأ وإليه اطمأن ، أو لأنه الأقرب إلى الدين عنده ، وساع إلى الجديد لأنه الأقرب إلى المصلحة في اعتباره ، ويصبح الدين في ركن والمصلحة في جهة ، والكل مقر معترف بأن الدين إنما جاء لتحقيق مصالح الناس وما بين هؤلاء وهؤلاء قد يشتد الصراع من دون الاهتداء إلى وسائل فضه، وليس يوجد ما يؤهل لذلك كدراسة آثار قرارات وأحكام قد مضت ومقارنتها بآثار قرارات وأحكام ترتجى ، وعند التجريب الممنهج- المعتمد على وسائل الرصد والإحصاء والتوثيق المتجددة - يتم التعرف على الأكثر تحقيقا للمصالح فيعتمد ، وعلى الأقل فيترك ، يصدق ذلك على كل أحكام المعاملات المالية والأسرية والجنايات وغيرها ، فمبحث تعدد الزوجات مثلا لا يمكن الفصل فيه بمجرد الاستنباط من النصوص ولا بالمقارنة بين أدلة المجيزين وأدلة المانعين، ولا بالبحث في المحددات الثلاثة المسطرة أعلاه ، بل أيضا بالإقدام على دراسة آثار التعدد على المستويات الاجتماعية... والاقتصادية والتربوية ، ومقارنتها بآثار المنع منه في إقليم أو بلد أو قطر معين .... وقد تغلب الآثار الإيجابية فيعتمد ، أو السلبية فيترك ، وقد تتغير أوضاع الناس المالية أو الأخلاقية أو الاجتماعية كل ذلك أو بعضه ، فيحتاجون لأحكام جزئية جديدة تلبي واقعهم الجديد ، ولا ينبغي أن يوجد ما يمنع من تغيير الأحكام إذا تغيرت المقتضيات 7، وما يسري على التعدد يسري على غيره من أحكام المعاملات التفصيلية كأحكام الوصية والوقف وجلد الزاني وقطع يد السارق ....إلخ ، فبالتجريب ودراسة آثار الأحكام على واقعها تتحدد درجة المصلحة ونوعها ، ذلك ما هدى إليه الفكر ووجه إليه النظر من تحيين لكلام العز بن عبد السلام - المسطر أعلاه - من قبل نحو ثمانية قرون . هوامش: 1- قواعد الاحكام ص 10 2-حينما يوصف الإسلام بصلاحه لكل زمان ومكان فبقوة أحكامه الكلية وبفاعليتها 3-من نماذج ذلك أحكام مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ....)...... وأحكام الظهار (والذين يظهرون منكم من نسائهم ....) ....... 4- رافق التنزيل تغير سياقات التشريع بما يعرف بالنسخ ، وفيه تم استبدال أحكام بأخرى أكثر استجابة لمقتضيات الواقع المتجدد. 5- بل لا يمكن فهم النوع الأول ولا تنزيله إلا به. 6- (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ، ادفع بالتي هي أحسن ، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ) 7-مع استثناء العبادات وأصول المحرمات الثابتة المعروفة فهي طبعا مما لا يلحقه التغيير ولا التبديل