الواقع يشهد أن قيم الإسلام في التعامل مع المخالف ديانة غير ُمتمثلة، والنصوص الشرعية التي تتأسس غير ُممتثلة، وكل قيمة منها انقلبت إلى ضدها، فالرحمة حل محلها التطرف والتشدد، والحكمة صارت إلى العبث، والعدل انزاح ليحل محله الجور، والمصلحة انقلبت مفسدة عظيمة إلى حد أن أتى الوادي بطمه على القرى بالاعتداء المروع على شعوب وطوائف وأقليات دينية عاشت في كنف الإسلام آمنة مطمئنة. إنه واقع مرير يلقي بظلاله على الفقه الإسلامي، يلزم العلماء بأن ينزلوا إلى الناس من أبراجهم العاجية، وأن يبينوا لهم صحيح المفاهيم وقويم المنهج، وأن يجيبوا عن أسئلة الواقع البالغة التعقيد، خاصة في ظل ضعف السلطة الروحية في المجتمعات الإسلامية، وما تلاها من احتجاج على السلطة الزمانية، وما نتج عن ذلك من ممارسة قوم للتدين بأبشع الممارسات، وكما هو معروف فالتدين من غرائز الإنسان كالأكل والتناسل والتملك، ولكن التعبير عن أي غريزة إذا لم يكن منضبطا بضوابطه العقلية والمصلحية التي لا نشك في أنها لا تتنافى والضوابط الدينية والقيم الأخلاقية في أنبل صورة، يصبح منافيا لمقصده ومنقلبا إلى ضده، فالإنسان وهو يلبي غريزة الأكل قد يأكل سما فيقتل نفسه. (....) التكفير، والمظالم المتبادلة، والطائفية، والثارات المزعومة، والتاريخ المزيف، والدليل المجتزأ والدعاوى ضد مجهول، والتأويل المفض ي إلى الاقتتال العبثي حتى ولو ألبس لبوس التقوى. وهذا يقتض ي منا الحديث عن الأزمة بصفة عامة، لكننا سنهتم بإحدى القضايا التي كانت من إفرازاتها، وهي قضية الأقليات في البلاد الإسلامية، وإن كان الأذى شمل الجميع، بل ربما نالت منه بعض الأكثريات كالأغلبية السنية نصيبا كبيرا ومسها منه قرح عظيم. لقد جئنا لنذكر بأصالة هذه الأقليات في البلاد الإسلامية وحقوقها الطبيعية والشرعية أيضا بالنسبة للمرجعية الإسلامية؛ مما يقتض ي الكلام أولا عن وضع الأقلية في الإسلام الذي في حقيقته لا يعترف بأقلية ولا أكثرية، ذلك من خلال النصوص الحاكمة العامة، والنصوص الخاصة المتمثلة في مقاربتنا هذه المتمثلة في صحيفة المدينة. ثم لنذكر بمنهجية التعامل مع النصوص الشرعية، هذه المنهجية التي كان التنكب عنها والعدول عن جادتها سببا لكثير من الكوارث، ليس الآنفقطبلفيالتاريخكله،فانحرفتالمفاهيمعنمدلولاتها،ولأحكامعنمقاصدها،ثمفيالنهاية لندعو الجميع للتكاثف والتعاون والتضامن لصد هجمة الكراهية، وهذا الصد لا يتعلق بالصد المادي بقدر ما يتعلق بالتعاضد الفكري، مما يفرض علينا جميعا أن تجتمع أفكارنا قبل أن تجتمع أبشارناوأجسادنا،أننفكركجهةواحدةلاكجهاتمتعددةومنفصلة «فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ » سورةهود،الآية:116. إن الواقع يشهد أن قيم الإسلام في التعامل مع المخالف ديانة غير ُمتمثلة، والنصوص الشرعية التي تتأسس غير ُممتثلة، وكل قيمة منها انقلبت إلى ضدها، فالرحمة حل محلها التطرف والتشدد، والحكمة صارت إلى العبث، والعدل انزاح ليحل محله الجور، والمصلحة انقلبت مفسدة عظيمة إلى حد أن أتى الوادي بطمه على القرى بالاعتداء المروع على شعوب وطوائف وأقليات دينية عاشت في كنف الإسلام آمنة مطمئنة. إنه واقع مرير يلقي بظلاله على الفقه الإسلامي، يلزم العلماء بأن ينزلوا إلى الناس من أبراجهم العاجية، وأن يبينوا لهم صحيح المفاهيم وقويم المنهج، وأن يجيبوا عن أسئلة الواقع البالغة التعقيد، خاصة في ظل ضعف السلطة الروحية في المجتمعات الإسلامية، وما تلاها من احتجاج على السلطة الزمانية، وما نتج عن ذلك من ممارسة قوم للتدين بأبشع الممارسات، وكما هو معروف فالتدين من غرائز الإنسان كالأكل والتناسل والتملك، ولكن التعبير عن أي غريزة إذا لم يكن منضبطا بضوابطه العقلية والمصلحية التي لا نشك في أنها لا تتنافى والضوابط الدينية والقيم الأخلاقية في أنبل صورة، يصبح منافيا لمقصده ومنقلبا إلى ضده، فالإنسان وهو يلبي غريزة الأكل قد يأكل سما فيقتل نفسه. ولعل من بين أقوى هذه الأسئلة اليوم سؤال الأقليات غيرالمسلمة في الديارالإسلامية، الذي صار من واجبات الوقت التعامل معه باعتبار أن المجتمعات المسلمة اليوم بحاجة إلى قراءة جديدة لمكوناتها ونسيجها الوطني في سياق الواقع وعلى ضوء الشرع، وذلك انسجاما مع السياق الدولي، ورعيا للضرورات التي ينطلق منها منطق المعالجة، ومن باب مطالبة النفس بأداء الحقوق اعتضادا بالمقاصد والقواعد الكلية القائمة على المصالح والحكمة، وتوفير السلم ودرء الغبن والظلم، واستشهادا بالواقع الذي في ضوئه تنزل الأحكام لقيام أسبابها واستيفاء شروطها، وانتفاء موانعها، واستشرافا للتوقع والمستقبل، والنظر في المئالات والعواقب. لقد بدأنا مسيرة الجواب على هذا السؤال عندما كانت الاحتجاجات في العالم العربي خارجة عن سكة العقل والنبل والفضيلة والمصلحة، وقد شاركنا بدء هذه المسيرة مجموعة من العقلاء والحكماء في نواكشوط سنة 2011، وكان معالي الوزير أحمد التوفيق وفقه الله على رأس من لبى النداء مع كوكبة من علماء المغرب الإسلامي. وأكملنا مسيرتنا في المملكة المغربية بشراكة مع وزارة الأوقاف سنتي 20011 و2012، وكان لنا لقاء في لندن سنة 2012، لنعقد مؤتمر المواطنة والأقليات في العالم الإسلامي سنة2013،وكان لهذاالمؤتمرحضوره في صياغة الدستورالتونسي، ثم مؤتمر الكويت لتحقيق المناط في نفس السنة، وكنا نتشوف إلى مؤتمر أكبر وأوسع يضم كل الديانات والطوائف والأقليات، فتفضل صاحب الجلالة الملك محمد السادس حفظه الله بالإذن في أن تحتضن المملكة المغربية هذا الحدث الكبير. إن هذه الكلمة وإن كانت عن مسألة الأقليات من منظور إسلامي تمثله «صحيفة المدينة»، فإنني سأكون مدفوعا إلى الكلام عن مقدمتين: - الأولى: عن منهجية هذا البحث، وعن منهجية كل بحث فقهي رصين في التعامل مع النصوص المقدسة، ومع التراث بصفة عامة. - الثانية: تتعلق بسرد جملة من النصوص الكلية التي تؤسس لقيم التعايش، وتبرز المقاصد الكبرى غير الظرفية التي لا يمكن أن يعتريها نسخ أو تبديل، والتي تمثل صحيفة المدينة تطبيقا عمليا ومظهرا من تمظهراتها. فذلكة عن منهجية التعامل مع نصوص الشريعة الإسلامية منهجيتنا منهجية أصولية، تتغيى إثبات أن الرحمة مبدأ راجح على كل الجزئيات، وأن أي علاج لأمراض الأمة لا يمكن أن يكون إلا من صيدلية الإسلام، وأن أي حلول لمعضلاتها لا يمكن أن تخرج إلا من رحم هذا الدين بالأدلة البينات والحجج الواضحات. إننا نعي أن كل نصوص الشريعة لها موقعها وموضعها، وأن التعامل معها تلقيا وفهما وتنزيلا ليس أمرا عبثيا، وليس تابعا لهوى الأفراد أو الجماعات أو إملاءات المصالح الوهمية أو المتوهمة، وهو وعي متحناه من منهج السلف الصالح من العلماء الراسخين، وفهمهم الذي أحاط بأقطار الكون والكينونة، وأبعاد الوجودات الخارجية والذهنية، فأصلوا للعلاقة بين أقسام الخطاب الشرعي، وبين منظومة الأوامر والنواهي، وأحوال المأمور، ودرجات التكليف، ولاحظوا ميزان الزمان والمكان والإنسان، ووزن المصالح والمفاسد، والعلاقة بين الواقع والمتوقع، فأقروا بتغير الأحكام بتغير الأزمان بناء على نصوص منضودة وسيرة للنبي ( صلعم) وخلفائه مشهودة. كانت هذه هي الوسائل، أما أسس منهجيتنا فتقوم على تذليل جملة من العقبات، وإصلاح عدد من الأخلال التي تعترض تجديد الخطاب الإسلامي. منهجيتنا تنظر إلى الإنسان ككائن مكرم، تلاحظ السياق الزماني والمكاني والإنساني في حالتي النزول والتنزل باعتبار أن الأوضاع السائدة تفسر النصوص لغة ومضمونا من حيث تفاعلها معها، وتؤثر في فعاليتها في الأوضاع اللاحقة والفقه الإسلامي واجتهاد المجتهدين. لا نريد فهما للشريعة لا يدرك علاقتها بالزمن، أو ينزلها بطريقة حرفية تنأى بها عن مقاصدها المعقولة وعن المصالح البشرية المنشودة، لأن الجمود على المنقولات أبدا ضلال وإضلال كما يقول القرافي ( ت684ه / 1285م). منهجيتنا (تموقع النصوص) في بيئتها الأصلية، وبنفس الروح (تموضعها) في البيئات الزمنية والبشرية، وبذلك تحقق مقاصدها الباحثة عن مصالح العباد وهو أصل وضع الشريعة كما قال الشاطبي ( 790ه/1388م)، وإن عكسها سيؤدي إلى ضد المطلوب، ويجني على النص وعلى مصلحة الإنسان المستهدفة. وانطلاقا من هذه النظرة الكلية لعلاقة الشرع بالإنسان والواقع، نتعامل مع نصوص الشرع من خلال ما يلي: 1- الشريعة كلها بمنزلة النص الواحد: ونحن هنا ننطلق من مسلمة أن نصوص الشريعة بمنزلة نص واحد في نظام الاستدلال والاستنباط، فمن لم يحط بها علما ولم يجمع أطرافها لم يسعه أن يفقه معانيها، وفي ذلك يقول أبو علي الفارسي: "ا ْلقرآن ُكله كالسورة الواحدة وِلهذا يذكر الشيء ِفي ُسورة، وجوابه ِفي ُسورة أخرى نحو وقالوا يأيها ٱلَّذي نزل عليه ٱلَّذكر إنك لمجنون 6( الحجر ) وجوابه « ما أنت بنعمة ربك بمجنون»2 (القلم). ويقول الشاطبي:«كثيرا ما ترى الجهال يحتجون لأنفسهم بأدلة فاسدة، وبأدلة صحيحة اقتصارا على دليل ما، واطراحا للنظر في غيره من الأدلة» . ويقول: «إن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها ، وعامها المرتب على خاصها ومطلقها المحمول على مقيدها ، ومجملها المفسر ببينها . . . إلى ما سوى ذلك من مناحيها ، فإذا حصل للناظر من جملتها حكم من الأحكام؛ فذلك الذي نظمت به حين استنبطت...فشأن الراسخين تصور الشريعة صورة واحدة يخدم بعضها بعضا كأعضاء الإنسان إذا صورت صورة متحدة.» فهذه النصوص دليل على فساد منهج الاجتزاء – إن منحناه شرف أن يكون منهجا –، وهذا من أخلال ثقافة الفكر المأزوم الذي يعمد أصحابه إلى التعمية على مجموع النصوص والأدلة التي إذا نظر إليها على أساس وحدتها أفضت إلى ما ينسف تعللاتهم ومزاعمهم. 2-عرض النصوص على اللغة: وذلك لإدراك الاحتمالات والحمولة اللغوية التي تهيئ النص للتأويل، المجاز ، وحمل المشترك على أحد معنييه أو معانيه ، ومنه أيضا حمل المطلق على المقيد، وحمل العام على الخاص وحمل الأمر على غير الوجوب ، والنهي على غير التحريم ، وتقدير المضمر في دلالة الاقتضاء وغير ذلك مما تناوله الأصوليون. 3-الجمع بين النصوص التي يوحي ظاهرها بالتعارض: إن محاولة الجمع التي هي الخطوة الأولى التي يخطوها المجتهد قبل اللجوء إلى وسائل الترجيح تتمثل في محاولة الجمع بين الدليلين. يعني أن الجمع بين الدليلين المتقابلين من الكتاب أو السنة أو منهما أو من نصين للمجتهد ولو كان الجمع من وجه كتخصيص العام بالخاص وتقييد المطلق بالمقيد وتأويل الظاهر منهما بما يوافق الآخر الذي هو نص واجب. وقد ذكر الإمام الرازي في المحصول أن الجمع يكون تارة بالحمل على جزئيتين وتارة على حكمين وتارة على حالين. 4- الموازنة بين الجزئي والكلي: وهذه الموازنة ضرورية لتفادي صورة أخرى من صور الاجتزاء أي: الاكتفاء بالجزئي والإعراض عن الكلي، وعدم فهم التجاذب الدقيق بين الكلي والجزئي، فالشريعة ليست على وزان واحد، فلا هي مجموع الأدلة الجزئية، ولا هي مجرد كليات عائمة، أو قيم مجردة، وبالتالي لا ينظر إلى الجزئي إلا من خلال الكلي، كما لا قوام للكلي إلا بجزئياته، مع مراعاة أنه حال التعارض بينهما لا الكلي يقدم بإطلاق، ولا الجزئي كذلك، وذلك راجع إلى ميزان المجتهد الذي يستخدمه في عملية تحقيق المناط. والواقع يشهد أن أصحاب الفكر المأزوم حكموا بالجزئي على الكلي، وتجاهلوا الواقعوعاشوا في القواقع، فقدموا فتاوى تتضمن فروعا بلا قواعد، وجزئيات بل مقاصد، تجانب المصالح وتجلب المفاسد، فخلقوا فوض ى فكرية سرعان ما استحالت دماء مسفوكة رغم عصمتها وأعراضا منتهكة رغم حرمتها. إن النظر الكلي من شأنه أن يواجه الأزمات، ونحن بحاجة اليوم إلى نظر متين يربط العلاقة بين الكليات والجزئيات، وهي جزئيات تنتظر الإلحاق بكلي، أو استنتاج كلي جديد من تعاملات الزمان وإكراهات المكان والأوان، أو توضيح علاقة كلي كان غائما أو غائبا في ركام العصوروغابر الدهور، حتى لا تضيع مصالح معتبرة بكلي الشرع مقدمة على الجزئي في الرتبة والوضع. 5- عرض الخطاب الآمر"التكليف" على بيئة التطبيق"خطاب الوضع": وهذا ضمن البيئة الأصولية لعملية تحقيق المناط والمجال الناظم للدلالة التي تحوطها. فمن المعلوم أن الخطاب الشرعي قسمان: خطاب تكليفي، وخطاب وضعي. فالقسم الأول أحكام معلقة بعد النزول على وجود مشخص، هو الوجود الخارجي المركب تركيب الكينونة البشرية في سعتها وضيقها، ورخائها وقترها، وضروراتها وحاجاتها، وتطور سيروراتها، فإطلاق الأحكام مقيد بقيودها، وعمومها مخصوص بخصائصها، ولذلك كان خطاب الوضع - الذي هو الأسباب والشروط والموانع والرخص والعزائم- ناظما للعلاقة بين خطاب التكليف بأصنافه: طلب إيقاع وطلب امتناع،وإباحة،وبين الواقع بسلاسته وإكراهاته. وبعبارة أخرى، خطاب الوضع هو البيئة الأصولية لإنزال الحكم، وهو الذي يحوط خطاب التكليف ويكلؤه، ولهذا كان خطاب الوضع بالمرصاد لخطاب التكليف، ليقيد إطلاقه، ويخصص عمومه، فقيام الأسباب لا يكفي دون انتفاء الموانع، ولن ُتنتج صحة أو إجزاء دون توفر الشروط سواء كانت للوجوب، أو شروط أداء أو صحة، فلا بد من تحقيق المناط للتدقيق في ثبوت التلازم طردا وعكسا. 6- مراجعة سياقات النصوص: وهذه المراجعة تعني تحيين العديد من الأحكام على مر التاريخ لتلائم الزمان، وقد كانت هذه المراجعة حاضرة في وعي فقهاء الصحابة رضوان الله عليهم، فقد كانت لهم اجتهادات في مقابل ظواهر نصوص تحقيقا لمناط ، وبناء على مصلحة تطرأ، أو مفسدة تدرأ، بناء على واقع متجدد قد لا يكون مشمولا بعموم النصوص أو داخلا في إطلاقها، لكون تطبيقها عليه قد يكون مخلا بمقصد من مقاصد الشرع، وبالتالي قد يكون معارضا لكلي علم من الشرع بأدلة أخرى. وبتأملنا في ثقافة الفكر المتطرف، نجد أن عدم حضور هذه المراجعة والتعدية المجردة للنصوص دون اعتبار لسياقاتها العامة والخاصة هي أهم أخلالها، إذ تعمد إلى تصورات مبتوتة عن سياقاتها الأصلية، وتسقطها على سياقات مغايرة من غير تكييف ولا تحقيق مناط، وهذا ظاهر جدا في دعواهم الجهاد، وفرضهم الجزية على الأقليات الدينية التي ساموا أهلها الخسف والذلة في بعض البلاد الإسلامية دون نظر لبيئة التنزيل، أو أسباب النزول أو الورود، أو إعمال لقواعد النظر في السياقات. 7- اعتبارالعلاقة بين الأوامروالنواهي ومنظومة المصالح والمفاسد : وإهمال هذه العلاقة هي إحدى مظاهر أزمة الخطاب المتطرف، وهو ما يعارض قيمة الحكمة التي هي إحدى القيم الكبرى للشريعة الإسلامية، ويحيلها إلى خطاب عبثي يعود بالضرر على قيم الرحمة والعدل والمصلحة، ويجعل منها خطابا يوحي ظاهره بكراهية الآخر نتيجة تصرفات طائشة مجنونة تلبس لبوس التقوى دون اعتبار للعلاقة بين منظومة الأمر والنهي ومنظومة المصالح والمفاسد المنضبطة بالضوابط الشرعية، وهذا يصدق عليه قول حجة الإسلام الغزالي: «اعلم أن كل من طلب المعاني من الألفاظ ضاع وهلك، وكان كمن استدبر المغرب وهو يطلبه». وهذا هو الخلل الذي يشير إليه الشاطبي رحمه الله حين يقول: «: الأوامر والنواهي من جهة اللفظ على تساو في دلالة الاقتضاء، والتفرقة بين ما هو منها أمر وجوب أو ندب، وما هو منها تحريم أو كراهة لا يعلم من النصوص، وإن علم منها بعض؛ فالأكثر منها غير معلوم. وما حصل لنا الفرق بينها إلا باتباع المعاني، والنظر في المصالح، وفي أي مرتبة تقع، وبالاستقراء المعنوي، ولم نستند فيه لمجرد الصيغة، وإلا يلزم في الأمر ألا يكون في الشريعة إلا على قسم واحد لا على أقسام متعددة. والنهي كذلك». 8- مراعاة التطور الزماني والواقع الإنساني: فالتطور الزماني والواقع الإنساني يقترحان صورا مغايرة للصور التي نزلت فيها الأحكام الجزئية، فالواقع مقدمة لتحقيق المناط. وواقعنا اليوم يفرض قراءة جديدة في ضوء الشرع للتذكير بالكليات التي مثلت لبنات الاستنباط، تحت تأثير ما يمكن أن نسميه بكلي الزمان أو العصر أو الواقع سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وعلميا وتكنولوجيا؛ فهو واقع فيه اليوم معاهدات دولية، وحدود، وأسلحة دمار شامل، وتعددية دينية وثقافية وإثنية داخل البلاد الإسلامية وخارجها، وتغيرت فيها الولاءات القبلية والدينية إلى أخرى تعاقدية، وصارت السيادة في واقع الحريات شبه ناقصة، والمعاهدات والمواثيق الدولية شبه حاكمة، وأصبحت العولمة سيدة العالم وليست حالة عابرة يحضر فيها الآخر حضورا اختياريا في ظاهره لكنه في عمقه إجباري. إنه واقع يؤثر في النظم والقوانين ومدى ملاءمتها للنصوص الشرعية مجردة عن مقاصد التعليل وقواعد التنزيل. إن واقع اليوم يقتضي البعد عن الخيال الرومانسي حول التاريخ، والتخلي عن الوهم الإمبراطوري للأمة، وعن التاريخ المعسكر والمنتصر، أو الذي يجب أن يكون كذلك، وعن أوهام جعلت الأمة اليوم في حالة عداء للإنسان والكون عوض أن تبقى على أصلها كونها شريكة في بناء الكون وعمارته. إن عالم اليوم لم يعد يعرف هويته بالدين، وإنما أصبح يعرفها بالثقافة والمصالح والتكنولوجيا والمعاهدات، وهو لا ينفي أن يكون فيه متدينون ومحافظون، لكنه لم يعد أن يقبل أن يفرض المتدينون عليه هوية ليس هو عليها، ولم يعد الواقع يقبل تقسيمات المعمورة، فالخطأ في التشخيص قاتل، لأن العالم اليوم عالم متعدد الثقافات، قيمته في التعدد التي هي في حد ذاتها فضيلة تفتح فرصا واسعة للسلام الذي هو الأصل الطبيعي للبشرية. 9- النظرفي المئالات والعواقب: فالمآلات مسلك من مسالك معرفة الواقع والأدوات التي بإمكانها أن تكتشف المستقبل بعد أن يكون الناظر قد عرف الواقع بكل تضاريسه ومتوقعاته ليضمن التوازن في تنزيل الحكم عليه ومعرفة توجه المستقبل من خلال معطيات الحاضر التي أفرزها الماض ي، إنه توقع عقلاني بعيد عن التوهم أو عن معنى الاستباق وإن تقاطع معه، يتأسس على واقع يحقق ويثبت العلاقة بين الأحكام وبين الوجود المشخص، ولا يهمل فيه أي عنصر من عناصر العلاقة بينه وبين الدليل الشرعي الذي يقع التدقيق في شقيه: الكلي والجزئي، كما يدقق في تقلبات وغلبات الواقع والأثر المحتمل للحكم في صلاحه وفساده، بحيث لو تنزل بالفعل لكان محمود الغب جار على مقاصد الشريعة. 10- ملاحظة موارد الخطاب طبقا للوظائف النبوية: فالنبي (صلعم) مبلغ، وقائد مجتمع، وقاض في الخصومات...وهي وظائف لاحظها العلماء – كالقرافي- . وليس ذلك خاصا به (ص)، بل إن الأنبياء والرسل كانت تصرفاتهم تختلف طبقا للوظائف التي يجدون أنفسهم مسؤولين عنها، وهو اختلاف أدوار ووظائف، فعيسى عليه السلام بقي في مجتمعه، وكذلك نوح قبله بقي يدعو قومه حتى دعا عليهم، بينما موسى كان مسؤولا عن مجتمع بني إسرائيل بعد النزوح، فكانت له وظائف غير وظائف من سبقه من الأنبياء، وكذلك كان النبي داوود الذي حارب جالوت وساس بني إسرائيل. وهكذا فإن النبي الخاتم محمدا(ص)في مكة كان يقوم بوظيفة الدعوة، ولكن عندما انتقل إلى المدينة واتبعه أهلها انضافت إليه وظيفة إدارة المجتمع. 11- استحضارالبعد الإنساني والإنتماء إلى الكون: وذلك باعتبار وحدة الأصل والخلق، قال الله تعالى:« يأيها ٱلناس إنا خلقنكم من ذكر ََََََٰۡوأنثى وجعلنكم شعوباوقبائل لِتعارفوا» ،فالأصل هوا لتعاون بين البشرية والسعي إلىإصلاح الأرض واستدامة صلاحها « ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها»، فالبشرية في حاجة إلى التعاون على البقاء بدل الصراع الذي يؤدي إلى الفناء، في حاجة إلى حلف كوني لإصلاح الخلل الحضاري الكبير الذي يعتبر الإرهاب فرعا من فروعه ونتيجة من نتائجه، والحد من من مخاطر صناعة السلاح التي أصبحت تحت تصرف العقلاء والمجانين، إنها في حاجة إلى أولي بقية يتداركون ما يمكن تداركه قبل الخراب، يرفعون المظالم ما أمكنهم ويعيدون الحقوق ويطالبون النفس بأدائها ما وسعهم. هذه منهجيتنا التي ندعو إليها، هي منهجيتنا من رحم الإسلام، كانت موجودة وممارسة في واقع الحياة، وإن كانت اليوم غائبة عن الذاكرة الجمعية فإننا نريدها أن ترجع مرجعية للعلماء والحكام كما كانت من قبل، ولم يكن يشذ عنها إلا المنشقون الخارجون عن المجتمع وعن الأمة الذين لهم في الشرع وضع محدد وصفات معينة يتحقق بها المسلم من أمرهم كما بينتها نصوص الشريعة. وعلى هذه المنهجية تقوم مقاربتنا ومخرجات عملنا اعتمادا على تحقيق المناط من خلال الواقع والتوقع، والتأصيل المنبثق عن الأدلة الحاكمة والممارسة التاريخية من خلال اشتغالنا بصحيفة ووثقيه المدينة التي نرشحها أن تكون مرجعا وأساسا في مقارباتنا ومخرجات عملنا، فهي بعد أزيد من 1400 سنة على كتابتها لا تزال مرجعا تطبيقيا لعلاقة المسلمين بمحيطهم وتعددية المجتمعات التي يعيشون فيها أغلبية حاكمة. وهي المنهجية ذاتها التي قامت عليها ملتقياتنا السابقة، اعتمادا على التعليل بناء على الحكم والمقاصد؛ على اعتبار أن عملية تنزيل الأحكام المنوطة بالواقع والتوقع قد أحيلت طبق ًا لما قامت عليه شواهد الشرع وقواعد الأصول إلى أجيال الأمة المتعاقبة بناء على اختلاف الوقائع طبقا لاختلاف الواقع.