مرة أخرى يخلف الجالس على العرش موعدا ناذرا مع قدره السياسي، ضيعه سلفه الملك الراحل الحسن الثاني، وهو العليم بتاريخ الملكيات، العربية والعالمية، ومآلاتها المأساوية في الكثير من الحالات، حيث تواجه مصيرها لوحدها في اللحظات الحرجة، ساعة الأفول الأبدي، لا تجد من يقف معها أو يؤازرها أو يرد عنها قساوة الأقدار وحكم الشعب الذي لا يرد بأسه، لا جيش ولا أجهزة أمنية ولا قوات خاصة ولا تنظيمات موازية ولا مهرجانات ولا أحزاب موالية ولا لجنة تعديل دستوري ولا مستشارين ولا عائلات ومصاهرات ولا إعلام رسمي ولا شرائح المجتمع المهللين، سذج وأصحاب المنافع، كل هذا الفولكلور والنفاق السياسي والاجتماعي والعبث يذهب ويختفي، وتبقى الملكية في لحظة فراغ زمني ووجداني تمشي وحيدة وتموت وحيدة. تريد قوى النفاق السياسي من الأحزاب والنخبة المثقفة الفاسدة أن تقنع عامة الشعب وقواه الوطنية الغيورة على الوطن بأن ما أقدم عليه النظام السياسي من مراجعات دستورية يعتبر تنازلا ملكيا وتحولا تاريخيا في حياتنا السياسية والدستورية، وبأن هذه الوثيقة هي من الشعب وبمثابة تعاقد بين العرش والشعب سيؤسس لمغرب ديموقراطي وملكية برلمانية، تريد أن تقنعه ببضاعة فاسدة منتهية الصلاحية قبل انتاجها. لا يريدون أن نناقشهم منهجية تعيين لجنة تعديل الدستور ولا الآلية السياسية التي عينت لمراقبة عملها وكان لها القوم الفصل في الصيغة النهائية للنص الدستوري بعد عمل اللجنة والأحزاب والهيئات النقابية والمجتمعية التي أدلت برأيها، ولا أسلوب عمل اللجنة ولا الجدول الزمني الاستعجالي والضاغط الذي فرض على الأحزاب والمنظمات النقابية ولا مضمون المسودة ولا خطاب 9 مارس ولا خطاب 17 يونيو ولا المخالفات الدستورية والقانونية التي ارتكبها الملك حينما أعلن أنه سيصوت ب"نعم" في خطاب موجه للأمة، والمصادقة عليه وإصداره بالجريدة الرسمية قبل تصويت الشعب عليه، فيما الخطب الملكية تتحدث عن إرادة الشعب وعلى أن هذا المشروع هو من الشعب وإليه. لنعد لمشروع الدستور ونقف عند الفصل الأول منه، حيث يحدد طبيعة نظام الحكم بالمغرب بأنه "ملكية دستورية، ديمقراطية برلمانية واجتماعية". إن مطلب عامة الشعب المغربي وقواه الوطنية التي تمثل هذه المرحلة التاريخية، منذ أن عبرت عنه حركة 20 فبراير وكل حركات التغيير الاجتماعية والقوى السياسية الوطنية، في حده الأدنى وفي سياق الربيع العربي المبارك، هو إقامة ملكية برلمانية يسود فيها الملك ولا يحكم. إن هذه العبارة الأخيرة لا يقصد بها النيل من الملكية أو التنقيص من الاحترام الواجب لشخص الملك، وإنما استمرار الملكية وتأكيد هذا الاحترام، لأن ملك المغرب، كما هم الملوك دائما، لا يمكن أن يحاسب ويساءل ويعاقب، وإنما يقع ذلك على من ينتخبهم الشعب، من رئيس الوزراء والوزراء ونواب البرلمان وأعضاء المجالس الجهوية والإقليمية والجماعية، ويفوض لهم إرادته وشرعيته على أساس تعاقد سياسي مقيد ببرنامج سياسي وجدول زمني ودفتر تحملات اجتماعية واقتصادية وخدماتية وغيرها. كيف يمكن أن تكون الملكية دستورية وقرارات الملك واختصاصاته تطال وتهيمن على جميع السلطات، ولا تخضع للمراقبة والمحاسبة من قبل نواب الأمة وقضائها ومؤسساتها الدستورية، قررات وسلطات خارج المتن الدستوري، خاصة صفة أمير المؤمنين ومواد أخرى في الدستور تحمل أكثر من معنى وتفسير؟ كيف يمكن الحديث عن استقلالية القضاء والملك يرأس مجلس الوزراء، بصفته أعلى سلطة تنفيذية، والمجلس الأعلى للقضاء، مما يطعن في مبدأ فصل السلط؟ كيف يمكن الحديث عن تقوية مؤسسة رئيس الحكومة وتوسيع صلاحياته ودسترة مجلس الحكومة، في الوقت الذي يبقى "تداول التوجهات الاستراتيجية لسياسة الدولة من مهام مجلس الوزراء برئاسة الملك، وكل الصلاحيات التي فوضت لرئيس الوزراء، تعيين العمال والولاة مدراء الإدارة المركزية والسفراء، تقرر في مجلس الوزراء برئاسة الملك؟ دون الحديث عن "القائمة المدنية" التي هي من صلاحيات الملك. كيف يمكن الحديث عن الديمقراطية واحترام إرادة الشعب، والملك هو من يعين رئيس وزراء منتخب من قبل الشعب ويعفي وزراء اختارهم الشعب، بعد استشارة رئيس الوزراء، أما رئيس الحكومة، الذي قيل أن صلاحياته توسعت، فلا يمكن أن يقيل أي وزير، إلا بعد طلب ذلك من الملك، وهو أمر منطقي دستوريا لأن الملك هو من يعين الوزراء، فصاحب سلطة التعيين هو من يمكن سلطة إلغاء التعيين، كما ينص على ذلك القانون الإداري. إذا، نحن أمام حكومة معينة وليست منتخبة وأمام ملكية تنفيذية وليست برلمانية وأمام إرادة ملكية تقود شؤون الدولة وليست إرادة الشعب فوضها لحكومة منتخبة ومسؤولة، يعاقبها أو يزكيها الشعب عبر نوابه في البرلمان بشكل غير مباشرة أو عبر صناديق الاقتراع مباشرة. إن دور الملك، في ملكية برلمانية، كما هو معروف في الملكيات البرلمانية، بشأن تعيين رئيس الوزراء عقب حصول حزبه على أغلبية الأصوات المعبر عنها في الانتخابات الشريعية، هو بروتوكولي وليس تراتبي. كيف يمكن الحديث عن حرية ممارسة الشؤون الدينية والفصل (41) يعتبر المجلس العلمي الأعلى، الذي يرأسه الملك، "الجهة الوحيدة المؤهلة لإصدار الفتوى"؟ لقد رفض علماء الأمة، على مدى التاريخ الإسلامي، وعلى رأسهم إمام المدينة مالك بن أنس، صاحب مذهب الدولة المغربية، والذي رفض أن يصبح كتابه "الموطأ" مذهبا يفرض قهرا على الأمة؟ كيف يمكن أن ينص مشروع الدستور المعدل في الفصل (7) بأن "نظام الحزب الوحيد نظام غير مشروع"، ثم يأتي في الفصل (41) ليفرض على الأمة فهما وحيدا للإسلام ومقاصده ويحصر الفتوى في علماء السلطان والكلمة الفاصلة في شؤون الدين من اختصاص الملك بصفته أمير المؤمنين؟ كيف يكون الملك الحكم الأسمى بين مؤسسات الدولة وهو طرف في الحراك السياسي، بل هو الطرف المهيمن على جميع السلطات والفاعل الأساس في إدارة شؤون الدولة سياسيا وقضائيا وعسكريا وأمنيا ودينيا واقتصاديا ودبلوماسيا واجتماعيا؟ إن دولة المؤسسات والقانون لا يمكن أن يسهر فيها شخص أو أشخاص على احترام الدستور وحسن سير المؤسسات الدستورية وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات وعلى احترام التعهدات الدولية وضمان استقلال البلاد، حسب منطوق الفصل (41). إن اختصاصات بهذا الحجم وسلطات بهذا المدى لا توجد في ملكية برلمانية وإنما في ملكية تنفيذية مطلقة بمفهوم الحق الإلهي. كيف يمكن الحديث على أن صاحب الشرعية الأصلية والإرادة الأساسية هو الشعب في الوقت الذي تؤكد فصول مشروع الدستور المعدل جينيا أن الملك هو أصل كل شيء في النظام السياسي المغربي وفي الدولة المغربية، وتدور حوله حياة المغاربة وجودا وعدما؟ علما بأن الملك يمارس كل هذه المهام المطلقة "بمقتضى ظهائر"، أي قرار غير قابل للطعن لدى محاكم الدولة بكل درجاتها واختصاصاتها، فأين دولة المؤسسات وأين الرقابة التشريعية واستقلالية القضاء وسمو القانون على كل شيء؟ إن هناك ملاحظات على مشروع الدستور المعدل تكشف عن أهداف النظام السياسي في تدوير الأزمة التي يواجهها ومحاولة الخروج منها بأقل الخسائر، أزمة تطوير نفسه نحو نظام ديمقراطي والتجاوب مع مطالب الشعب المغربي، خاصة إقامة ملكية برلمانية يسود فيها الملك ولا يحكم ومحاكمة الفساد، وذلك من خلال وضع نص دستوري لا علاقة له باللغة والفلسلفة الدستورية وروح ونسق الدساتير، نص فيه من الحشو السياسي أكثر من المبادئ العامة لتنظيم السلطة والمؤسسات الدستورية والإطار العام لمشروع مجتمعي ينتقل بالمغاربة نحو الأفضل سياسيا وثقافيا واجتماعيا وأمنيا واقتصاديا. لقد حشر تجار الدساتير الذين وكلت إليهم هذه المهمة، ممن هم من أهل الفقه الدستوري أو من المتطاولين عليه، ومن الأحزاب السائبة والفاسدة التي فضلت خيانة مستقبل المغرب والتواطؤ مع النظام لتمرير هذه الوثيقة الفاسدة مقابل عمولة نقدية الآن وسياسية عند الاستحقاقات التشريعية المقبلة، حشروا كل شيء في هذا المشروع، الدين والسياسة واللغات والتقاليد والأمن والشباب والمرأة والأسرة والبعد الإفريقي والعربي والإسلامي والأندلسي والحساني والأمازيغي والعبري، إضافة إلى بلقنة الاختصاصات بين الملك وباقي المؤسسات الدستورية. إنه عبارة عن متاهة أو معضلة رياضية بدون حل أو جواب. إن القصد من هذا النص الدستوري هو تعويم وإخفاء سلطات الملك باستحداث مؤسسات تحت رئاسته، غايتها إفراغ العمل الحكومي من مضمونه. إن الملك لا يدرك المأزق السياسي الذي وضعه فيه من كلفهم بهندسة وثيقة دستورية تعطي بيد وتأخذ بيد أخرى، ولا حتى تلك الأحزاب والهيئات التي تهلل باسمه وبالوثيقة الدستورية الفاسدة. قد يمر الاستفتاء لصالح مشروع الدستور الملكي وسيهلل الأفاكون والمتزلفون من الأحزاب والمنظمات السياسية والنقابية وتزف وسائل الإعلام الرسمية إلى الملك هذه البشارة، ولكن سيكون من الخطأ في التسديد والخطر في التقييم بأن يعتقد النظام أن الأمر قد انتهى وبأن المغاربة الذين خرجوا يوم 20 فبراير وما تلاها من انتفاضات ومسيرات واحتجاجات واعتقالات واغتيالات واعتداءات على حرمات المواطنين وحقوقهم المدنية في التظاهر السلمي، قد بلعوا الطعم وانطلت عليهم هذه الخدعة، بالعكس سيكون المخزن قد عاند وعزم على المكابرة وتجاهل حقائق التاريخ والسياسة والظرفية العربية والعالمية التي تموج من حوله وفي أكثر من قطر عربي، ثورات وأنظمة سقطت وأخرى آيلة للسقوط. قد ينتصر في معركة ولكن لن يفوز في الحرب، لأن الحرب جولات. إن الذين يدعون، من الأحزاب المنافقة وغيرها، بأنهم ملكيين أكثر من الملك، إنما يغررون بالملك ويضعون لها السم في العسل، لأنه لا يمكن لأحد أن يكون ملكا أكثر من الملك نفسه، وعليه يبقى الملك محمد السادس المسؤول الوحيد عن مستقبل العرش العلوي، وليس في المغرب من يمكن أن يقرر ذلك معه ويقبل به ويساهم في بقائه، كما كان الشأن دائما في تاريخ السلالة العلوية وغيرها من السلالات التي تعاقبت على حكم المغرب، سوى المغاربة الذين يطالبون اليوم بنظام ملكي برلماني يسود فيه الملك ولا يحكم، وإذا قالوا يوم فاتح يوليو "لا" لمشروع الدستور الملكي، فإن ذلك سيحمل معنى واحد، وهو "لا للملك". [email protected]