بايتاس: ارتفاع الحد الأدنى للأجر إلى 17 درهما للساعة وكلفة الحوار الاجتماعي تبلغ 20 مليارا في 2025    "ما لم يُروَ في تغطية الصحفيين لزلزال الحوز".. قصصٌ توثيقية تهتم بالإنسان    إحباط عملية تهريب دولية للمخدرات بميناء طنجة المتوسط وحجز 148 كيلوغراماً من الشيرا    رابطة علماء المغرب: تعديلات مدونة الأسرة تخالف أحكام الشريعة الإسلامية    بايتاس: مشروع قانون الإضراب أخذ حيزه الكافي في النقاش العمومي    كربوبي خامس أفضل حكمة بالعالم    كمية مفرغات الصيد الساحلي والتقليدي تبلغ بميناء المضيق 1776 طنا    وهبي يقدم أمام مجلس الحكومة عرضا في موضوع تفعيل مقترحات مراجعة مدونة الأسرة    وكالة التقنين: إنتاج أزيد من 4000 طن من القنب الهندي خلال 2024.. ولا وجود لأي خرق لأنشطة الزراعة    بايتاس يوضح بشأن "المساهمة الإبرائية" ويُثمن إيجابية نقاش قانون الإضراب    نجاة مدير منظمة الصحة العالمية بعد قصف إسرائيلي لمطار صنعاء    توقيف القاضي العسكري السابق المسؤول عن إعدامات صيدنايا    بورصة الدار البيضاء .. تداولات الإغلاق على وقع الإرتفاع    خلفا لبلغازي.. الحكومة تُعين المهندس "طارق الطالبي" مديرا عاما للطيران المدني    احوال الطقس بالريف.. استمرار الاجواء الباردة وغياب الامطار    السرطان يوقف قصة كفاح "هشام"    الكلاع تهاجم سليمان الريسوني وتوفيق بوعشرين المدانين في قضايا اعتداءات جنسية خطيرة    قبل مواجهة الرجاء.. نهضة بركان يسترجع لاعبا مهما    "الجبهة المغربية": اعتقال مناهضي التطبيع تضييق على الحريات    في تقريرها السنوي: وكالة بيت مال القدس الشريف نفذت مشاريع بقيمة تفوق 4,2 مليون دولار خلال سنة 2024    جلالة الملك يحل بالإمارات العربية المتحدة    ستبقى النساء تلك الصخرة التي تعري زيف الخطاب    مدرب غلطة سراي: زياش يستعد للرحيل    العسولي: منع التعدد يقوي الأسرة .. وأسباب متعددة وراء العزوف عن الزواج    تحديد فترة الانتقالات الشتوية بالمغرب    نشرة انذارية.. تساقطات ثلجية على المرتفعات بعدد من مناطق المملكة    حصاد سنة 2024.. مبادرات ثقافية تعزز إشعاع المغرب على الخارطة العالمية    المغرب يفاوض الصين لاقتناء طائرات L-15 Falcon الهجومية والتدريبية    "زوجة الأسد تحتضر".. تقرير بريطاني يكشف تدهور حالتها الصحية    330 مليون درهم لتأهيل ثلاث جماعات بإقليم الدريوش    أبناك تفتح الأبواب في نهاية الأسبوع    المحافظة العقارية تحقق نتائج غير مسبوقة وتساهم ب 6 ملايير درهم في ميزانية الدولة    بيت الشعر ينعى محمد عنيبة الحمري    المنتخب المغربي يشارك في البطولة العربية للكراطي بالأردن    استخدام السلاح الوظيفي لردع شقيقين بأصيلة    إسرائيل تغتال 5 صحفيين فلسطينيين بالنصيرات    أسعار الذهب ترتفع وسط ضعف الدولار    كندا ستصبح ولايتنا ال51.. ترامب يوجه رسالة تهنئة غريبة بمناسبة عيد الميلاد    أسعار النفط ترتفع بدعم من تعهد الصين بتكثيف الإنفاق المالي العام المقبل    بلعمري يكشف ما يقع داخل الرجاء: "ما يمكنش تزرع الشوك في الأرض وتسنا العسل"    طنجة تتحضر للتظاهرات الكبرى تحت إشراف الوالي التازي: تصميم هندسي مبتكر لمدخل المدينة لتعزيز الإنسيابية والسلامة المرورية    الثورة السورية والحكم العطائية..    "أرني ابتسامتك".. قصة مصورة لمواجهة التنمر بالوسط المدرسي    المسرحي والروائي "أنس العاقل" يحاور "العلم" عن آخر أعماله    مباراة ألمانيا وإسبانيا في أمم أوروبا الأكثر مشاهدة في عام 2024    جمعيات التراث الأثري وفرق برلمانية يواصلون جهودهم لتعزيز الحماية القانونية لمواقع الفنون الصخرية والمعالم الأثرية بالمغرب    مصطفى غيات في ذمة الله تعالى    جامعيون يناقشون مضامين كتاب "الحرية النسائية في تاريخ المغرب الراهن"    هل نحن أمام كوفيد 19 جديد ؟ .. مرض غامض يقتل 143 شخصاً في أقل من شهر    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    تنظيم الدورة السابعة لمهرجان أولاد تايمة الدولي للفيلم    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الدستورالجديد: تغيير حقيقي أم مزيد من المراوحة؟
نشر في هسبريس يوم 24 - 06 - 2011

استقبل المغاربة الدستور الذي أعلنه الملك محمد السادس لبلاده في 17 يونيو بقدرٍ كبيرٍ من المشاعر المتناقضة. وعلى الرغم من أنه يبدو مُتوقَّعاً سلفاً أن غالبية المغاربة سيصوّتون ب"نعم" في الاستفتاء الذي أعلن أنه سيُجرى في الأول من يوليو، إلا أن الكثيرين سيفعلون ذلك بشيء من التحفّظ. ثم أن المتظاهرين الشبان الذين لايزالون ينظمون مظاهرات دورية منذ 20 فبراير - من هنا جاءت تسمية حركة 20 فبراير - أعلنوا أنهم لاينوون التوقّف عن نشاطاتهم. وفي الواقع، جرت مظاهرات في 19 يونيو، واستقطبت آلاف المتظاهرين في الدار البيضاء وأعداداً أقلّ في مدن أخرى.
يشير عدد كبير من المقابلات التي أجريتها خلال زيارة قمت بها مؤخراً للمغرب إلى أن الملك ربما نجح في البقاء متقدّماً على حركة الاحتجاج التي أدّت إلى زوال النظامين في تونس ومصر، وأقحمت ليبيا وسورية واليمن والبحرين في الاضطرابات والعنف. وما إذا كان هذا مجرد انتصار لن يدوم طويلاً في إطار المناوشات الأولى من معركة طويلة، أم أنه نقطة تحوّل على طريق تحويل المغرب إلى أول نظام ملكي دستوري في العالم العربي، لن يعتمد على الطريقة التي يتصرّف بها الملك في الأشهر المقبلة وحسب، بل أيضاً على قدرة ورغبة التنظيمات السياسية المغربية في الاستفادة من الفرص التي يتيحها لها الدستور. وقد يعتمد أيضاً، إلى حدٍّ ما، على استمرار حركة الاحتجاج التي لم تتمكّن حتى الآن من تعبئة حشود ضخمة كتلك التي شهدتها تونس ومصر.
صياغة الدستور
على غرار جميع الدساتير السابقة، تمت كتابة الدستور بواسطة لجنة من الخبراء المعيّنين من الملك، وليس من خلال جمعية تأسيسية مُنتَخَبة أو هيئة تمثيلية أخرى. ولذا فهو يُصنَّف ضمن فئة الدساتير الممنوحة إلى الشعب من الملك، وليس تلك التي تم صوغها بواسطة منظمة تمثيلية تجسّد السيادة الشعبية. وقد حُدِّدت المبادئ التوجيهية للدستور الجديد في خطاب ألقاه الملك محمد السادس في 9 مارس حيث عملت اللجنة لاحقاً على تجسيد مسودّة مقدّمة من القصر، أو كما يقول المغاربة، "المخزن". كانت اللجنة برئاسة عبد اللطيف المنوني، أحد مستشاري الملك، وهو ما لايدع مجالاً لأي شك بشأن الجهة التي كانت تأتي منها التوجيهات.
شكّل القصر أيضاً هيئة استشارية للعمل بالتعاون مع لجنة من الخبراء. وكان يرأس أيضاً "آلية الرصد" ذات التسمية الغريبة، أو "الآلية المصاحبة"، أحد مستشاري الملك، محمد معتصم، الذي عمل كحلقة وصل بين واضعي الدستور وبين الأحزاب السياسية والنقابات العمالية وجمعيات رجال الأعمال ومنظمات حقوق الإنسان، وغيرها من الجماعات أو حتى الأفراد المهتمّين بأن تكون لهم مساهمة في الدستور الجديد. قدّم البعض مسودّات دستورية كاملة، فيما قدّم البعض الآخر اقتراحات فقط بشأن النقاط الرئيسة. ولكن، بعد أن تم الانتهاء من تقديم الاقتراحات، لم تكن هناك أي متابعة أو نقاش. لم يتم إطلاع المنظمات على مشروع الدستور الجديد حتى يوم 8 يونيو، وحتى في ذلك الحين لم يتم إطلاعها على وثيقة مكتوبة، لكنها تمكّنت فقط من الاستماع إلى عرض شفوي بحثته في اجتماع ماراثوني استمر عشر ساعات. كان من المحتّم أن يضجّ البلد في الأيام التالية بإشاعات متضاربة بشأن ماكان يستلزمه الدستور الجديد، عندما سرّبت الأحزاب المختلفة والأفراد نسختهم الخاصة منه إلى الصحافة. ثم أن أعضاء "الآلية" لم يروا مسودّة مكتوبة إلا في 16 يونيو، أي قبل يوم واحد من عرض الملك لها على الأمة في خطاب تلفزيوني. وبالمثل، طُلِب إلى مجلس الوزراء التصويت على مشروع الدستور في يوم الإعلان عنه نفسه.
على الرغم من الحدود الضيّقة للتشاور والمشاركة المفروضة على صياغة الدستور، ربما كانت العملية أكثر انفتاحاً من سابقتها. فقد قبلت الأحزاب السياسية الرئيسة الممثّلة في البرلمان العملية وأوضحت أنها ستقوم بحملة من أجل التصويت ب"نعم" في الاستفتاء. وهذا ليس مستغرباً، لأن الأحزاب الممثّلة في البرلمان مروّضة وتهتمّ بالحفاظ على امتيازاتها، من خلال دعم المبادرات الملكية، أكثر ممّا تهتمّ بوضع برامج خاصة بها. وكان لافتاً أن حزب العدالة والتنمية، وهو الحزب الإسلامي الذي حلّ في المرتبة الثانية في الانتخابات النيابية في العام 2007، لكنه لايزال في المعارضة، أوضح أنه يؤيّد الدستور الجديد، قائلاً إنه يحوي ضمانات ديمقراطية كافية. السبب الرئيس لموافقة الحزب، على مايبدو، هي الرغبة في مواصلة واستكمال عملية دمج الإسلاميين في العملية السياسية القانونية، وهو الهدف الذي ظلّ حزب العدالة والتنمية يعمل من أجله لسنوات.
رفضت حركة 20 فبراير، من ناحية أخرى، الدستور الجديد حتى قبل كشف النقاب عنه، بسبب الطريقة التي صيغ بها، وتعهّدت بمواصلة الاحتجاج. بيد أن هذه الحركة لم تنجح قطّ في تعبئة حشود ضخمة مماثلة لتلك التي أسقطت الرئيس زين العابدين بن علي في تونس وحسني مبارك في مصر. ووفقاً لتقديرات المشاركين بها، فقد نفذّت أنجح احتجاجاتها يوم 20 مارس في الدار البيضاء والرباط وطنجة وعدد من المدن الأخرى، لكن حتى هذه الاحتجاجات كانت صغيرة نسبياً بالمقارنة مع تلك التي شهدتها البلدان الأخرى.
على غرار حركات الاحتجاجات في الدول العربية الأخرى، فإن حركة 20 فبراير هي مزيج من الشباب الذي يفتقر إلى وجود قيادة وكيان. وهي تعقد جمعيات عامة شهرية في المدن التي تتواجد فيها، حيث إن كل جمعية مستقلة عن الأخرى. الجمعيات مفتوحة للجمهور، ويتم التنسيق بين مختلف المجموعات عبر موقع "فايسبوك"، حيث تضاعف عدد مستخدميه في البلاد خلال الأشهر القليلة الماضية. وتنظر الأحزاب السياسية الرئيسة إلى الحركة بعين الشك، على الرغم من أن الجناح الشاب في العديد من الأحزاب انضمّ إليها، كما في بلدان أخرى، من دون مباركة رسمية من جانب المنظمة الأم. ويبدو أن لدى الحركة مطالب واسعة – تتمثّل أساساً في الديمقراطية وفرص العمل - ولكنها لاتمتلك أي شيء يمكن أن يرقى إلى تسمية البرنامج.
بالتوازي مع مجموعات الشباب التي تشكّل حركة 20 فبراير، أنشأ عدد من الأحزاب السياسية اليسارية والنقابات العمالية المستقلة، ومنظمات حقوق الإنسان ذات التوجهات اليسارية، والحركات الإسلامية مجلساً لدعم حركة 20 شباط/فبراير. ويبدو أن أهمّها هي الحركة الإسلامية المعروفة باسم جماعة العدل والإحسان، أو (العدل والروحانية كما باتت تصرّ على ترجمة الاسم مؤخّراً)، والحزب الاشتراكي الموحّد، والجمعية المغربية لحقوق الإنسان. ونظراً إلى نسق الأحزاب والتنظيمات التي تنتمي إليه وتنوّعها الإديولوجي، ثمة انقسام عميق في مجلس الدعم حيث يشكّل الأعضاء تحالفات ضدّ بعضهم بعضاً. ولكونه أكثر تنظيماً من الحركة نفسها، يعقد مجلس الدعم اجتماعات ويصدر بيانات، لكن ليس من الواضح أن أعضاء حركة 20 شباط/فبراير أنفسهم يتّفقون مع المواقف التي يتّخذها مجلس الدعم، أو حتى يعرفون بوجوده، كما كشفت بعض الأحاديث.
سياسة الهوية
كانت القضيتان الأكثر إثارةً للجدل اللتان طفتا على السطح خلال النقاش حول الدستور مرتبطتين بتعريف هوية الدولة المغربية: ما إذا كان ينبغي أن يعرّف المغرب كدولة إسلامية، وإذا كان يتعيّن على المغرب أن يعترف بالأمازيغية، اللغة التي يتحدّث بها أبناء الأقلية البربرية، باعتبارها لغة رسمية.
يتأثّر النقاش بشأن مكانة الإسلام بمشكلة العلاقة بين الأحزاب والمنظمات الإسلامية وتلك "المدنية"، وهي الكلمة التي تحظى بقبول متزايد للدلالة على الأحزاب التي يعرّفها الأغراب بأنها "علمانية". تلك الأحزاب ترفض أن توصَف بأنها علمانية، خوفاً من إمكانية تفسير المصطلح الأخير على أنه يعني أنها "لادينية". مصطلح "مدني" لايوحي بأنه لاينطوي على مثل ذلك المعنى الضمني وحسب، بل يضع أيضاً الأحزاب الدينية، إلى حدٍّ ما، في موقف دفاعي بوصفها "همجية" - غير مدنية. التوتر بين الأحزاب الإسلامية و"المدنية" ليس فريداً من نوعه في المغرب، لكنه شائع في جميع البلدان العربية، ولاسيما في فترة التحوّل هذه. وفي الواقع العلاقات أكثر صعوبة في تونس ومصر. ففي المغرب، حزب العدالة والتنمية هو حزب قانوني وظلّ يشارك في دورات عدة من الانتخابات البرلمانية والمحلية. وعلى الرغم من أنه لايزال يمثّل شيطاناً بالنسبة إلى البعض، فهو على الأقل شيطان معروف. لكن المسألة أبعد ماتكون عن الحلّ حتى في المغرب.
لايزال من الصعب أن نفهم بدقّة ماحدث بالضبط في النقاش حول مكانة الإسلام في الدولة المغربية، ويعود هذا في جزء منه إلى الخلط بين ماقالته المنظمات المختلفة في الواقع وبين مازعم أنها قالته، وفي الجزء الآخر إلى استخدام الكلمات المشفّرة التي ليست واضحة دائماً. وقد اتّهمت الأحزاب المدنية الإسلاميين بأنهم أصرّوا على أن المغرب لايزال يُعرَّف بأنه دولة إسلامية. ينكر الإسلاميون أن يكون هذا هو الحال، ويقولون إنهم يفضّلون تعريفاً للمغرب بوصفه "دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية". ومن ناحية أخرى، ليس ثمّة شك في أن الاقتراح القاضي بأن يتضمّن الدستور إشارة إلى "حرية الضمير"، بدلاً من ضمان أن يكون الأشخاص الذين ينتمون إلى ديانات أخرى أحراراً في ممارسة شعائرهم الدينية، تمّت إدانته من جانب الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، بوصفه يفتح المجال أمام سلوك غير مقبول واستفزازي مثل الإظهار العلني للمثلية الجنسية وانتهاك الصيام في رمضان علانية. وفي نهاية المطاف، فإن الدستور يعرّف المغرب بوصفه دولة مسلمة في ديباجته، وينصّ على أن الإسلام هو دين الدولة في المادة (3)، التي تضمن أيضاً حريّة ممارسة الشعائر الدينية لجميع الأديان. بالمقارنة مع نصوص معظم الدساتير العربية - التي تنادي بالشريعة باعتبارها أحد مصادرها، إن لم تكن المصدر الأول للتشريع – فإن الدستور المغربي الجديد ليبرالي جداً، على غرار سابقه. وينبغي أن يُشار أيضاً إلى أن الدين في المغرب جزء لايتجزّأ من سلطة الملك: ولكونه معترفاً به رسمياً بوصفه "أمير المؤمنين" فإن الملك سيعتبر أن مكانته ضعفت، إلى حدٍّ ما، إذا لم يتم تعريف المغرب بوصفه دولة إسلامية.
يعترف الدستور الجديد أيضاً بالأمازيغية كلغة رسمية، على الرغم من اعتراضات العناصر المحافظة، وأولئك الذين يعتقدون أن مثل هذا الاعتراف سيؤدّي إلى تمييع هوية المغرب العربية. وهو يحوي أيضاً إشارة إلى تعدّد التأثيرات على الثقافة المغربية، بما في ذلك الأندلس، وثقافة البحر الأبيض المتوسط على نطاق أوسع، والناس في منطقة شبه الصحراء، والمسيحية واليهودية. ويبدو أن الحلّ الوسط في هذه الحالة هي اللغة التي توضح أنه سيتم تطبيق الوضع الرسمي للغة الأمازيغية تدريجياً.
سلطة الملك
تسبّبت قضايا الهوية بمعظم الجدل أثناء صياغة الدستور، ولكن في المدى البعيد، فإن القضية الحقيقية تتمثّل في مدى السلطة التي سيمارسها الملك في إطار الدستور الجديد، وبالتالي مدى التقدّم الذي أحرزه المغرب في اتجاه التحوّل إلى ملكية دستورية، أو في اللغة المفضّلة في المغرب: ملكية برلمانية لايحكم فيها الملك.
حتى أكثر المؤيّدين المتحمّسين للدستور الجديد لايدّعون أن الميثاق الجديد يضعف الملك بحيث يملك ولايحكم. وهم يقولون إن ذلك ليس ممكناً ولامرغوباً فيه في المغرب. فالدستور الجديد يبقي للملك ثلاثة مجالات بوصفها مجاله الحصري: قضايا الدين والأمن، والخيارات الاستراتيجية الرئيسة للسياسة العامة. بالإضافة إلى ذلك، فإن الملك يبقى الحَكَم النهائي بين القوى السياسية. وبموجب هذه الألقاب، يمكن للملك أن يسيطر تماماً على جميع القرارات الهامة، إن هو اختار ذلك.
ثمّة قيود أساسية جديدة على سلطة الملك. فهو غير قادر على اختيار أي رئيس للوزراء يريده، بل يتعيّن عليه احترام نتائج الانتخابات وتسمية "رئيس الحكومة"، كما يسمّى رئيس الوزراء الآن، من الحزب الذي حصل على أكبر عدد من الأصوات. ولن يشارك الملك بعد الآن في جلسات مجلس الوزراء ويترأسّها، وإنما رئيس الحكومة هو الذي يترأس الآن ما أُعيدت تسميته بمجلس الحكومة. ومع ذلك، فإن الملك يرأس مجلس الوزراء، وهو في هذه الحالة لايزال يسمّى مجلس الوزراء، عندما تكون القضايا الأمنية أو القرارات السياسية الاستراتيجية على المحكّ. وبما أن الدستور لايحدّد بوضوح مايمكن أن يشكّل قراراً استراتيجياً، يبدو أن القرار متروك للملك نفسه. فموقعه كحَكَم يمنحه أيضاً سلطة المشاركة في القضايا الأكثر أهمية.
ما من شك في أن الدستور يوسّع سلطة البرلمان، ويسمح له بإجازة القوانين الخاصة بمعظم القضايا، وهو يتّخذ خطوات لحماية استقلال القضاء، ويزيد دور عدد من اللجان المستقلة. لكن مالَم يفعله الدستور بشكل واضح لالُبس فيه هو الحدّ من سلطة الملك.
أي قدر من التغيير
قد يؤدّي الدستور الجديد إلى إحداث تغيير كبير، ولكن فقط إذا واصل المغاربة ممارسة الضغوط على الملك. فتاريخ الإصلاح السياسي في المغرب يدلّ على أهمية الضغط. فأول موجة كبيرة من التغيير جاءت عندما كان الملك الراحل الحسن يقترب من نهاية حياته، وفَهِم أهمية فتح النظام السياسي لتسهيل صعود ابنه إلى العرش. كان يتعرّض إلى ضغوط لإجراء تغييرات. وقد سار الملك محمد على طريق الإصلاح، لكن تم إحراز التقدّم ببطء متزايد لأنه شعر بثقة أكبر في موقفه. استغرق الأمر الربيع العربي، الذي انطوى على نموذج لما يمكن أن يحدث للأنظمة التي ترفض التغيير، وبداية مظاهرات الشوارع في المغرب، كي يستنتج الملك بأن الوقت حان لإعادة إطلاق عملية الإصلاح.
يعتمد تأثير الدستور الجديد على الطريقة التي يتم تطبيقه بها. وكما قال أحد النواب المعارضين لكاتبة هذا المقال، فإن النص الدستوري ينطوي على إمكانات. ولكي تتحقّق تلك الإمكانات، لابدّ للبرلمان من اعتماد التشريعات اللازمة والتأكّد من أنها توفّر المساحة القصوى للقوى السياسية. يشير أداء البرلمان في الماضي إلى أنه ليس متوقَّعاً أن يفيد البرلمان من هذه الإمكانات. على الرغم من أن المغرب لديه إرث من الأحزاب السياسية أقوى من معظم البلدان العربية الأخرى، إلا أن الأحزاب تعاني من المشاكل نفسها مثلما يعاني النظام السياسي برمّته: هي أحزاب آيلة للسقوط وغير ديمقراطية من الداخل، ولاتجدّد قيادتها إلا فيما ندر.
وبوصفه حزباً أحدث عهداً وأكثر التزاماً بالتغيير، فقد يكون حزب العدالة والتنمية أقلّ عناداً وضيق أفق من غيره من التنظيمات، لكن وجود حزب واحد لايكفي. علاوة على ذلك، إذا فاز حزب الأصالة والمعاصرة في الانتخابات البرلمانية، التي من المحتمل أن تُعقَد في أكتوبر المقبل، فمن المرجّح أن تظلّ سلطة الملك قوية. فقد تم إنشاء حزب الأصالة والمعاصرة على يد أحد أصدقاء الملك قبل انتخابات العام 2009 البلدية. لم يقتصر الأمر على أن الحزب أبلى بلاءً حسناً على مستوى البلديات، بل إنه أسّس حضوراً قوياً في البرلمان من دون أن يشارك على الإطلاق في انتخابات برلمانية، وانتقل أعضاء من أحزاب أخرى ببساطة الى الحزب الذي تأسّس حديثاً. قبل فبراير، كان من المتوقّع أن يكون أداء حزب الأصالة والمعاصرة في الانتخابات البرلمانية جيداً للغاية، لكن من غير الواضح كيف ستؤثّر عليه الأحداث الأخيرة. ومع ذلك، ليس ثمّة شك في أنه إذا مافاز حزب مُقرَّب من الملك في الانتخابات، فمن الممكن أن يتبدّد زخم الإصلاح بسهولة. وستتأثّر النتيجة بقدرة حركة 20 فبراير على البقاء على قيد الحياة، إذا ماوافقت أغلبية عظمى من المغاربة على الدستور في استفتاء يُعتَدّ به بموثوقية.
وعلى أي حال، المدى الذي يمكن أن يمضي إليه الإصلاح، الذي يقوم به الملك من أعلى إلى أسفل، ربما يعتمد أيضاً على قوة الدفع من أسفل إلى أعلى من جانب الأحزاب السياسية والمحتجّين.
*مديرة برنامج كارنيغي للشرق الأوسط في واشنطن العاصمة
http://arabic.carnegieendowment.org


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.