على بعد كيلومترات قليلة من محلات تزينت واجهاتها بأشجار عيد الميلاد، وغصت فضاءاتها بمغاربة يتهافتون على شراء هدايا رأس السنة، هناك، في مكان شبه منعزل عن بنايات العاصمة الاقتصادية الدارالبيضاء، التم، خفية، العشرات من المغاربة من معتنقي الديانة المسيحية في كنيسة منزلية للاحتفال بعيد ميلاد السيد المسيح. صلوات وترانيم الساعة تشير إلى الرابعة بعد الزوال، سكون المكان بدأ ينقلب إلى حركة وصخب بشكل تدريجي. شباب في مقتبل العمر، فتيات منهن محجبات، وأسر صغيرة يتقدمها الأب والأم ومعهما الأطفال. الكُل هنا مبتهج مسرور، فاليوم بالنسبة إليهم "يوم عظيم"، فيه يحتفلون بميلاد "المسيح المخلص"، حسب تعاليم الديانة المسيحية. الوافدون جاؤوا من أماكن عدة، من الرباطوالبيضاء، وبعضهم من أكادير ومراكش. "أنا لا أعرفهم جميعا، وهم أيضا ربما لا يعرفونني، لكننا نندمج مع بعضا بشكل سريع"، يعلق مرافقنا المغربي الذي قرر اعتناق المسيحية منذ عقد من الزمن. ما هي إلا دقائق قليلة حتى ذاب جليد التعارف الأول بين الحاضرين، ليجلس الجميع إلى طاولاتهم التي ضمت زهورا وشموعا، وعلى بعضها وضعت قصائد تمجد المسيح وتتغنى بحبه، فيما حوت أخرى نُسخا من الكتاب المقدس. بعد افتتاح الحفل من طرف أحد مسؤولي الكنيسة، توالت صلوات بعض "المؤمنين"، بحسب تعبيرهم. فهذه تشكر الرب على نعمه الكثيرة وتتوسل إليه أن يعم السلام الكون أجمع، وما إن تنتهي حتى يشرع آخر في الدعاء بالمغفرة ويرجو أن تكون البلاد آمنة. انتهت الصلوات واعتلى المنصة أحد الحاضرين، شاب طويل القامة، نحيل البنية، أسمر البشرة وأمازيغي اللكنة، بيمينه حمل نسخة من الإنجيل فيما ظل يلوح بيُمناه في الفضاء متحدثا عن خصال سيدنا عيسى عليه السلام وما جاء به من خير للعباد، داعيا الحاضرين إلى إشاعة الحب والمودة بين الناس. بأيادي متشابكة تارة، وموزعة بين الأكتاف تارة أخرى، تمايل ثلاثة شبان مرفوقين بفتاة على منصة القاعة، وبأصوات شجية رددوا رفقة الحاضرين مجموعة من الترانيم، وهي قصائد دينية تتغنى بتعاليم الإنجيل ووصايا المسيح، إلا أن ما ألهب حماس الحاضرين واحدة باللهجة الدارجة تقول: "نتشفع ونصلي .. يا يسوع الغالي، حتى نشوف بلادي.. تسبح ليك يا الفادي، يا ربي العالي .. المغرب بين يديك، ها كنيستك تناديك.. بلادنا محتاجة ليك، بلادي أنت داويها .. من الجراح تشفيها، اعطف وحن عليها .. ومن الشر نجيها، ومن كل البركات يا ربي جود عليها". إلى جانب الصلاة والترانيم، تضم بعض اللقاءات الأخرى مسرحيات وعروضا تعكس أبرز المحطات في حياة المسيح، تقدم للحاضرين في طابع فني مبسط، على حد قول مرافقنا. خروج حذر احتفالات هذه السنة كان لها طابع خاص، فالمسيحيون المغاربة في مختلف الكنائس بالمملكة اختاروا الاحتفال بطريقة مغايرة لتلك التي اعتادوا عليها طيلة سنوات. فعوض إقامتها سرا بكنائس بيتية منفصلة، قرروا الخروج بها إلى الوجود في احتفال كبير يضم جميع المسيحيين، وينظم بفندق معروف، إلا أن السلطات المعنية لم تسمح لهم بذلك، فعلى الرغم من تقدمهم بطلب ترخيص لإقامة الحفل، امتنعت السلطات عن ذلك دون تقديم أي مبرر. عدم ترخيص السلطات للمسيحيين المغاربة بإقامة شعائرهم وطقوسهم بشكل علني لم يمنع عددا منهم من الخروج إلى الإعلام بوجه مكشوف، وهو ما يؤكده لهسبريس المسيحي محمد سعيد، الذي أدلى مرارا بتصريحات عدة لوسائل إعلام محلية ووطنية. سعيد أوضح لهسبريس أن "المسيحية في المغرب ما تزال فتية"، مشيرا إلى أن "التستر هو طريقة العديد من المؤمنين في أداء طقوسهم"، في حين "هناك أفراد خرجوا إلى العلن وبدؤوا يدافون عن حقوقهم". الخروج إلى العلن ليس بالشيء الهين، فسارة، اسم مستعار، المتزوجة بدورها من مسيحي مغربي، ولها منه ثلاثة أولاد، عانت كثيرا بعد ما عُرفت وأولادها لدى محيطهم بأنهم مسيحيون؛ إذ وصل الأمر، وفق ما روت لهسبريس، إلى درجة مقاطعة زملاء ابنها في المدرسة له، واضطهادهم من طرف بعض الموجودين في محيطهم، ما اضطرهم إلى تغيير المدينة بحثا عن حياة أكثر هدوء وأمانا، على حد قولها. سارة وغيرها من المسيحيين المغاربة يتقاسمون فيما بينهم تجارب يصفونها بالمريرة؛ فكُثر هم من فقدوا عملهم بمجرد اكتشاف أمرهم، وآخرون لم تتقبل عائلاتهم فكرة التحول من الإسلام إلى المسيحية. بدوره يقول "م.أ"، 40 سنة من الدارالبيضاء، الذي اعتنق المسيحية في أبريل 2009، "لم يحن الوقت بعد من أجل أن نخرج إلى العلن، فنحن في مجتمع إسلامي تربينا بشكل يجعلنا نكفر الآخرين ولا نسعى إلى التعرف على الطرف الآخر والديانات المخالفة، بل نحكم عليها انطلاقا من خلفيتنا". من جانبه يقول رشيد إيمونان، 40 سنة، راعي الكنيسة بأكادير: "ما لا يجعل المسيحيين المغاربة يخرجون إلى العلن هو تعرضهم للاضطهاد، خاصة من أقرب الناس إليهم"، مؤكدا أنه تم طرده من عمله بعد أن علم رب العمل بديانته، مضيفا: "نصلي من أجل أن يستطيع المسيحيون المغاربة الإعلان عن ديانتهم والصلاة في الكنائس بشكل عادي". الله محبة تتعدد قصص الوافدين على الديانة المسيحية، وتختلف ظروف التحاقهم بالكنائس، إلا أن استمرارهم ضمنها كان لسبب واحد، على حد قولهم، يتمثل في أن "الله محبة"، وهي عبارة في الانجيل تعني أن الديانة المسيحية تدعو بالأساس إلى إشاعة الحب والسلام بين الأفراد. وفي هذا الإطار يقول رشيد: "تعود قصة اعتناقي للمسيحية لما قبل 12 سنة... كبرت في عائلة مؤمنة ومتصوفة في أجواء المديح والذكر إلا أنني كنت أقف على بعض الممارسات التي كانت لا تروق لي، من قبيل التمييز ما بين الفقير والغني". يضيف رشيد قائلا في حديثه مع هسبريس: "عشت فترة كنت أفكر فيها في ما مدى صحة حياتي آنذاك، نقطة التحول كانت حينما بدأت موجة الإرهاب آنذاك. تساءلت حول إمكانية وجود إله يأمر بقتل الناس، وهو ما دفعني إلى البحث والتعمق أكثر في الديانات لأكتشف المسيحية التي تقوم على مبدأ: الله محبة". بعد "إيمانه" اختار رشيد نقل ما تعلمه إلى المحيطين به وإشراك الناس معه فيه ليشكل بعدها مجموعة ويكون كنيسة، ويؤكد أنهم يجتمعون كل يوم أحد ببيته لإقامة الصلوات، ويقدر عدد الأشخاص ضمن مجموعته بستين فردا منقسمين ما بين عائلات وشباب. قصة "ح.ف"، البالغ من العمر 48 سنة، والذي يشتغل بائع فواكه بأحد أحياء الدارالبيضاء، مختلفة بعض الشيء؛ إذ قال إنه كان في سنة 1994عضوا في أحد التنظيمات الإسلامية بالمغرب، وكان مواظبا على حضور لقاءاتها، ووصل به الأمر إلى اتخاذ قرار بالهجرة نحو أفغانستان "للجهاد" هناك أثناء الغزو الروسي سنة 1994، لتكون نقطة الفيصل في حياته ويتحول بعدها لاعتناق المسيحية. ويضيف قائلا في تصريح لهسبريس: "بعد انسحابي من الجماعة، بدأت أمارس حياتي بشكل طبيعي وأواظب على صلواتي الخمس إلى حدود عام 2004. وحين لقائي صدفة ببعض الأفراد الذين كانوا يتحدثون عن المسيحية، أثارني حديثهم فطلبت منهم بعض الشروحات". يفيد المتحدث بأنه بعد مرور أشهر عديدة على هذه الحادثة، ارتاد أحد المقاهي وهناك التقى مجموعة ثانية من المسيحيين، وحين سماع حديثهم طلب منهم مزيدا من التوضيحات فقرروا عقد اجتماع آخر كان كفيلا بإدخاله في هذه الديانة السماوية، ليتم تعميده في غشت 2008، "تم تعميدي وصرت خالقة جديدة خاليا من جميع الذنوب وانطلقت حياتي الحديثة".