جوابا على تساؤله رقم 109 في ”استبانة“ يرى الأستاذ عبد الله العروي أن وعي شباب اليوم عال من الوجهة التقنية، واطيء من الوجهة التاريخية والسياسية. والسياسية. وقد تكون هذه سيمة كل النخب الحاكمة اليوم! منذ الحركة العربية التي عرفت خروج الشعوب العربية إلى الشوارع، ومع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي واستعمالاته من قبل شرائح واسعة، ظهرت إلى الوجود فئة من الشباب هم عبارة عن أفراد، لا جماعات، ولجوا عوالم التواصل الاجتماعي وانخرطوا في إبداء آرائهم حول قضايا اجتماعية ووطنية ودولية، غير أنهم سرعان ما صاروا يستقطبون جماهير عريضة وواسعة داخل المجتمع. إذ بالعودة إلى الأرقام المسجلة نلاحظ أن ما ينشرونه ينال رضا العامة ويحقق أرقام مشاهدات عالية جدا، بحيث تضاعف عدة مرات عدد المشاهدات المسجلة في محاضرات أو تعليقات المفكرين والباحثين العرب الذين لهم وزن في المجال الفكري أو النقدي أو العلمي. وقبل الخوض في محتوى وقيمة ما يناقشه هؤلاء الذين يتوزعون بين فنانين (شبابا) أو معلقين أو محللين، يمكننا أن نميز داخل هذه الفئة ذات الاستقطاب الجماهري والإعلامي الواسعين إلي قسمين: - قسم يمثله بعض ”المدرسين“ من الأساتذة في الجامعات، وهم في الغالب شباب حديثو العهد بالالتحاق بهيآت التدريس، ولم يكن لهم أي حضور ثقافي وفكري في السابق، لكنهم يستمدون دعمهم من انتماءاتهم السياسية الحزبية، أو الحقوقية، أو الجمعوية. وكذا ولاؤهم للواقع، أو بالأحرى واقع السلطة، وقد انخرطوا فيها، وإن أبدوا، في كل مناسبة، بعض الحياد- وهو حياد وهمي، لأن النقد الذي قد يوجهونه للسلطة السياسية أو الفكرية المهيمنة (من حيث هي خطاب)، نقد مطلوب من قبل السلطة نفسها، بل هي تدعمه، وتساهم في دعمه، حتى يبقى الخطاب النقدي المعارض تابعا وفي خدمة السلطة باعتبارها صانعة معرفة بعينها. - أما القسم الثاني فتمثله تلك الشريحة من الشباب، وهم في الغالب خريجو الجامعات أو المعاهد، وقد واجهوا صعوبات في الحصول على عمل (وظيفة) قار، كما أنهم ولجوا عالم التواصل الاجتماعي والتعليق على الأحداث من باب الهواية، ثم سرعان ما حققوا حضورا وانتشارا بالصدفة جعل منهم ”أصحاب“ رأي ينتظر منهم إبداء رأيهم حول قضايا تهم الحياة اليومية، وما يعانيه المجتمع المغربي من مشاكل يومية، من قبيل الإجرام، ومشاكل المعيشة، أو ممارسات بعض السلوكات الصادرة عن شخصيات عمومية سياسية. غير أن هذه الفئة، بقسميها، تتقاسم نفس النظرة، وتستخدم نفس الخطاب، فقط هناك تنويعات سطحية في أسلوب تصريف مضمون الفعل الذي يقدمه هؤلاء النشطاء! سطحية المضمون/النتائج لا الأسباب سواء تعلق الأمر بأولئك الذين تتم استضافتهم عبر القنوات التلفزية، العمومية والخاصة، أو على أمواج الإذاعات الوطنية والخاصة، من المنتمين إلى المؤسسات الجامعية أو أولئك الذين فرضوا حضورهم عبر موقع التواصل الاجتماعي، فإن تناولهم للقضايا لا يتم إلا بصورة سطحية، وتسطيحية، قد يوظف فيها بعض الجامعيين، بعض المصطلحات أو المعلومات التي توهم ببعدها الأكاديمي والعلمي، بحيث يجتهد بعضهم بأن يضفوا على أنفسهم سمة المثقف والأكاديمي والنخبة فيعمدون إلى إضفاء التعقيد على كلامهم، لأن الهدف ليس الرفع من قيمة الوعي وإنما تلميع صورة الجماعة التي ينتمي إليها، وأكثر من ذلك تلميع صورته داخل الجماعة التي ينتمي إليها أولا، وإيجاد مكانة رمزية داخل النسق الاجتماعي والثقافي وبالأساس السياسي الذي يتحرك فيه. وذلك بغية تسويق صورته كرأسمال رمزي من أجل الرفع من قيمته في السوق الاعلامية، وينال امتياز المثقف والشخصية العمومية والخبير المختص في قضايا وشؤون ما، وتتلون هذه الاختصاصات من مائدة إلى أخرى ومن برنامج إلي اخر ومن قناة وقضية إلي أخرى. وهذا ما يقوي لديهم سلوكات ”انتهازية“ تتحكم في إصدار أحكام والتعبير عن مواقف مادام أن الأهم لديهم هو تحقيق منافع وامتيازات مادية بالدرجة الأولي. حتى أن الكثير منهم صار يتميز باحترافية كبيرة في المشاركة في الندوات أو إبداء آراء في قنوات فضائية محلية أو عربية أو دولية، في حين تنقصهم الإرادة العملية لفهم وتطوير المجتمع والانخراط في قضاياه الحقيقية، كما تغيب عنهم صفة الباحثين الدارسين الذين يعكفون على دراسة القضايا بجدية عن طريق البحث والدراسة والتأمل، والاطلاع على المستجدات المعرفية في المجال الذي يشتغلون فيه، بل سرعان ما يبتعدون عن مجالاتهم التي تخصصوا فيها، واختصوا بصورة سطحية وهشة ومائعة بالقضايا التي تشكل نقطا ساخنة ورواجا في وسائل الإعلام. وليس الأمر مفاجئا إذا ما نحن شاهدنا في الشوارع أو اللقاءات الخاصة مدى اهتمام هولاء ”بصورتهم“ وحضورهم والدعوات الدولية الموجهة إليهم للمشاركة في هذا البلد أو ذاك. أما القسم الآخر فحضورهم أكثر وأقوى بين الشرائح إذا ما قورن بالذي سبق، لأنهم يوظفون لغة العامة وأسلوب العامة، ويتفاعلون مع ”جماهيرهم“ بلغتهم. والأهم هو أنهم يقدمون للجمهور ما ينتظره، إذ لن نجد هناك أي انزياح عن الوعي السائد تجاه قيم أو أخلاق أو سلوكات أو قضايا تهم الجماعة المنتمين إليها. وهذا الأسلوب المتسم بالتلقائية والسطحية يتم تدعيمه ببعض الملاحظات ”الذكية“ التي تجعل هذا الجمهور أكثر تعلقا ،وإعجابا، إذ يرى في هؤلاء صفات ”الجرأة“ و ”المواجهة“ و ”التحدي“ و ”التواضع“، وهي ميزات تكسر الحاجز والهوة التي يصطنعها ”المثقف“ أو بالأحرى القسم الأول من هذه الفئة، الأمر الذي يجعل المتتبعين يحققون نوعا من ”الكاترسيس“ السياسي لأنهم يفوضون أمر النقد لهؤلاء الذين يدعمون حضورهم بمشاهداتهم وتعليقاتهم الداعمة. فهم لسانهم الذي ينوب عنهم في إيصال احتجاجاتهم ونقدهم وصراخهم. كما أنهم يرون فيهم شخصيات قريبة منهم بفعل التعبير عن همومهم وتطلعاتهم، وهذا ما يحقق لديهم إشباعا سياسيا، خصوصا أن المعجم الموظف مباشر ويتغذى من الوعي الجماعي ومن اللغة اليومية التي تكون الأقرب إلى مشاعر وأحاسيس العامة، أضف إلي ذلك كله عملية ”مسرحة“ الفعل النقدي الذي يتم خارج إطار لعبة الديكور والأستديوهات المغلقة. إذا كان لهذا الحضور جوانب إيجابية، فإن سلبياته أكثر مما يمكن تصورها، نظرا للابتعاد عن عمق مشاكل الجماعة/المجتمع، بل إنه خطاب يعمل على خلق انحراف في الوعي، يعمل على تكريس الحضور العنيف والقوي للخطاب السلطوي المهيمن، والذي لا يزداد إلا قوة مادام أن الجميع (أقصد هذه الفئة) لا يضعون أيديهيم على عمق الإشكاليات، ومادام الجميع منخرط في وهم واقع يتم حصره في النتائج وما يبدو من سلوكات ظاهرة، في حين أن ما ينبغي الاهتمام به هو الأعماق التي تنتج الظواهر. ينتج عن هذا كله تسيب في المجال الثقافي من حيث هو خطاب فكري/نقدي مضاد للسلطة وعنفها وهيمنتها، سواء السلطة الاجتماعية وقيمها السائدة وما تحتاجه من إعادة النظر، أو سلطة سياسية كل همها هو الإلهاء وشَغْلُ الناس عن جواهر الأمور. وخلاصة ذلك كله يقودنا إلى أن المنتسبين إلي القسمين معا غير منشغلين بسؤال الحداثة ومراجعات العقل العربي والوعي التاريخي والتخلص من العثرات التي تعوق مشروع الحداثة، بقدر ما هم منخرطون في مشروع انتهازي شخصي. لأن غياب مشروع فكري من جهة وهو الأساس، وغياب إرادة من جهة ثانية يجعلان من مجموع هذا الخطاب المنتج سوى سوق لاستهلاك وإعادة إنتاج أفكار تقليدية محافظة وتافهة، وليس بمقدوره (أي الخطاب) أن يخلق قطائع قادرة على صناعة التحول التاريخي. وعليه يصير هذا الخطاب المشكل لجانب كبير من المجال الثقافي مجرد أداة في يد السلطة توظفه من أجل الإلهاء من جهة، ومحاربة الوعي الفكري الحداثي المطلوب في راهننا المغربي والعربي. وهذا ما ينتج عنه هيمنة على المجال الثقاقي من أجل المحافظة على حضور ”السياسي“ (أقصد قادةالفاعل السياسي اليوم) الذي يتسم أغلبهم بصفات الولاء لولي النعمة والفساد والفراغ الفكريين، وتأجيل التفكير في بلورة مشروع مجتمعي واقتصادي وحضاري حقيقي. إذ إن المستوى الفكري الذي يتصف به الساسة اليوم متدن إلى حد مخيف، بل حتى مفهومهم للوطنية يطرح أكثر من علامة استفهام، وهذا ما عبره عنه الأستاذ العروي بقوله ”لهذه النخبة تصور آخر، تعريف آخر للوطنية“!. لأنهم يتقنون الانخراط في الآلة السلطوية المهيمنة وقنوات الفساد التي يراكمون من خلالها العديد من الامتيازات التي تسيل لعاب القسم الأول من الفئة التي نتحدث عنها. وهي عناصر مسلوبة الإرادة وأفقها ضيق، بل مسيطر عليها ومتحكم في فكرها وتحركاتها. وهذا الواقع الرمادي هو الذي يفسر لنا تراجع صمت المفكرين المغاربة، مثلا، الكبار الذين لهم أفكار كبيرة وعميقة كفيلة بأن تخلخل المجال الثقافي السائد، وتعيد طرح الأسئلة وفق للقضايا الحقيقية التي يفرضها علينا الراهن. إذ نلاحظ تراجعهم والابتعاد نسبيا عن المجال العام، حتي يستطيعوا النظر إلى المشهد في شموليته، وتتبع إواليات الاشتغال الثقافي والسياسي، لأنهم من جهة أخرى يرون أننا في حاجة إلي مناقشة الأعماق والمسببات لا الظواهر والنتائج. ولعل خطورة الفئة التي تهيمن اليوم علي المجال الثقافي، تعلب دورا كبيرا في عملية التعتيم على هؤلاء، عبر الترويج لأفكار ”منحرفة“ حول قضايا الحداثة والعلمانية والوعي التاريخي وأسئلة التنوير، وهو تعتيم يؤدي إلى عزوف عن الأفكار والمشاريع العقلانية والحداثية التنويرية. التقليد والتحديث/ لا الحداثة والعلمانية نجح التقليد في تشويه صورة الحداثة والدعوة التنويرية إلى تحرير العقل العربي/المغربي، والتحلي بالوعي التاريخي، وهذا ما تكشفه الممارسة اليومية، وما يفضحه الخطاب السائد- نقصد الخطاب الذي تصنعه الفئة التي تحدثنا عنها. لهذا يكفي أن تنعت مثقفا، كيف ما كان مستواه العلمي، بالعلمانية والإساءة للدين وللمقدسات، التي صنعها الخيال العربي/الإسلامي، حتى ينبذ ويعزل وتهمش أفكاره. وهكذا نفوت الفرصة دائما على الانخراط الحقيقي في مشاريع الحداثة من حيث هي أسئلة وإعادة قراءة التاريخ. لأن الحداثة ليست رديفة التحديث، وإنما هي سؤال، والسؤال فكر، والفكر مشروع إعادة فهم الظواهر كيفما كانت طبيعتها. لأن الحداثة مشروع سؤال لا يتوقف عن التوالد، ومن ثم فهي لا تميز بين المقدس والمدنس! في حين أن الخطاب التقليدي يجتهد من أجل تكريس الوضع السائد، واعتبار ما تعتقده العامة هو الحقيقة التي يلزم الجميع التسليم بها. وأن ما تعتبره الجماعة مقدسا ينبغي العمل على إضفاء المزيد من القداسة عليه، لا إسقاطها. والتقليدية تعتبر الوعي التاريخي عدوها الأول ولا تؤمن بالصيرورة التاريخية، ولا تري في المستقبل زمنا لتجاوز الماضي باعتبار الحاضر هو نتيحة له ومن ثم فالمستقبل يتأسس على الحاضر الذي من واجب المجتمع أن يتجاوزه من خلاله الماضي! إن مهمة المثقف -حسب عبد الله العروي- لا تكمن بالدرجة الأولى في الاستيلاء على السلطة وإنما في السيطرة على المجال الثقافي الذي أهمل وترك بين يدي السلفيين، الذين لم يقفوا عند هيمنة المجال الثقافي، بل والسياسي أيضا. غير أنه مهما كانت محاولات التقيليدية في عرقلج الصيرورة التاريخية فإن العقلانية والتحول نحو الحداثة بما هي سؤال حضاري في مواجهة الماضي من أجل بناء مستقبل يتأسس على قيم إنسانية فيها يكون الإنسان صناع الواقع والتاريخ، بل ومسؤوليته في ما ينتج عن سلوكاته وممارساته، سواء كأفراد أو جماعات، فإنها تبقى ضرورة تاريخية لا مناص منها.