دستور 2011 وتحولات الدولة والمجتمع في المستقبل المنظور إن طبيعة الدينامية السياسية والمجتمعية الداخلية وتحولات المحيط العربي وتفاعل القوى الدولية الفاعلة مع تجاذبات ورهانات الساحة الوطنية ستشكل تفاعلاتها المحصلة النهائية لطبيعة المنجز الإصلاحي الدستوري المنتظر. ذلك أن طبيعة تفاعل مصالح تلك الشبكة ستحدد الصيغة التي سيرسو عليه دستور 2011. وبالتالي وفيما يخص الداخل المغربي فإن الحد الأدنى لتحقيق مطالب المجتمع في التغيير والحد الأقصى سيكون مدار طبيعة التوازنات التي ستنحصل خلال فترة استكمال حلقات إعداد المسودة النهائية للدستور المقبل بين ثلاثي أساسي في المعادلة: الدولة، الأحزاب الفاعلية، الشباب. هناك شبه إجماع بين مختلف الفاعلين الحزبيين والنقابيين والمدنيين على أن الانتقال بالملكية المغربية من ملكية حاكمة إلى ملكية تستند إلى المفهوم العالمي للديمقراطية، تكفل ربط القرار بصناديق الاقتراع وربط ممارسة المسؤولية بالمحاسبة على جميع المستويات هو الكفيل والمطلب نحو إرساء قطيعة مع ماضي الحكم. وبالتالي فالمطلوب هو أن يسمح الإصلاح الدستوري بتداول البرامج والسلطة الفعلية بين الأحزاب طبق القواعد العامة للنموذج المتعارف عليها. وبالتالي هناك إجماع على المطالب الداعية إلى تقوية الحكومة والبرلمان بهدف إحداث التوازن الضروري بين مختلف السلط وجعل مبدأ فصل السلط مرتكزا لاشتغالها المتكامل والمتجانس القائم على التنسيق والتآزر والمسؤولية والمراقبة. كيف يمكن ضمان تحقيق فصل حقيقي ومتوازن للسلط في المعمار الدستوري المغربي؟ سؤال تتفق المذكرات الحزبية المرفوعة إلى اللجنة المكلفة بتعديل الدستور على أن تمتيع البرلمان والحكومة بصلاحيات واسعة والارتقاء بالقضاء إلى مرتبة سلطة مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، هو الكفيل بصناعة نظام للسلطة يتحقق من خلاله التوازن المطلوب. ومن أبرز عناوين فصل السلط ضرورة تعزيز مؤسسة الحكومة وربطها مباشرة بالاقتراع العام وعلى أساس تكليف الحزب الفائز في الانتخابات العامة لمجلس النواب بتشكيل حكومة مسؤولة ذات صلاحيات حقيقية وعلى أساس برنامج انتخابي حقيقي. هناك إجماع من قبل الأحزاب السياسية على ضرورة تمتيع المؤسسة التشريعية بجيل جديد من الصلاحيات والاختصاصات في إطار السعي لتحقيق التوازن بين السلط. لذلك هناك سبع خلاصات يمكن الاهتداء إليها من خلال النقاش الدائر حول قضية الدستور: 1- إن المسعى الديموقراطي الرافض لنهج الاستبداد يستحيل أن يتحقق بدون إعادة الاعتبار للمواطن باعتباره المرجع الوحيد والفاعل الأساسي في اكتساب الصفات التمثيلية النيابية وتحمل المسؤوليات التنفيذية، وهو ما لن يتجسد بدون اعتماد المعايير الدولية للديموقراطية، والقائمة على نزاهة وشفافية الانتخابات والاستحقاقات. وكذا الوصول إلى حالة من تكريس مصداقية البرلمان المنتخب وفعالية الحكومة المنبثقة من صناديق الاقتراع. 2- المراجعة الدستورية ستبقى قاصرة إن لم تواكب بمراجعة شاملة لنهج السلطوية، ووضع الآليات الدستورية والسياسية والقانونية لمحاصرته والحد من تغلغله وسط المؤسسات الدستورية ودواليب الدولة الأمنية والمدنية. كما أن معركة أخرى تتطلبها توطيد الديمقراطية وتكمن في القوانين التي يمكن من خلالها تفعيل المبادئ الدستورية. 3- يسجل أن الأطراف المتمسكة بمطلب الجمعية التأسيسية (العدل والإحسان من خلال بيان قبل فوات الأوان، والنهج الديمقراطي...) سعت إلى الخروج ببيانات تنحو منحى المذكرات التي رفعتها الأطراف السياسية والمدنية والنقابية المؤمنة بالمشاركة. مما يعني أن أصحاب الطرح الانتظاري يوجدون في موقع التهميش الذاتي 4- لقد كشفت تجارب الانتقال الديموقراطي في العالم (أوروبا الجنوبية، المعسكر الشرقي سابقا، أمريكا الجنوبية...) على أن النجاح الآمن للانتقال نحو الديمقراطية الحقيقية رهين باستثمار حقيقي في تعزيز أدوار ووظائف ومصداقية المؤسسة البرلمانية، باعتبارها قطب الرحى في تحديد الاختيارات الكبرى للدولة 5- إن مسألة علاقة المال بالسلطة تعد من العراقيل الأساسية لتكريس مطلب الديمقراطية، فعندما تكون الطبقات التي في السلطة مستحوذة على الثروات فإنها غالبا ما ستقاوم الانتقال الديمقراطي. لذلك لابد من تسويات في هذا المجال تضع حدا للتداخل بين المجالين. مع تعزيز منظومة المساءلة المالية والرقابة والمحاسبة 6- يتضح من خلال التمعن في جل المذكرات الخاصة بالمطلب الدستوري أن قضايا القيم والمرجعية والهوية ستشكل مجال الصراع والسجال المجتمعي في المرحلة القادمة. ذلك أن مطلب الإصلاح الديمقراطي، حتى وإن اختلفت التسميات وسقف المطالب، فإن هناك مساحة مشتركة معتبرة بين أبرز الفاعلين. لكن قضايا الهوية والمرجعية والقيم "تتناثر" إزائها الآراء حد التضارب. وهنا ستطرح عدة أسئلة: هل ستبقى عدد من القوى تحتمي بالدولة لتحقيق بعض مطالبها الفئوية؟ وكيف سيكون العامل الخارجي في تدبير عدد من الملفات الشائكة في المجتمع والتي تخص منظومته القيمية؟ ثم ماهي أبرز التجارب العالمية في تدبير الاختلافات المجتمعية في مثل هاته القضايا التي ينقسم حولها المجتمع؟ 7- إن الصراع حول ثلاثية الثروة والسلطة والقيم أصبح يتجه إلى حسم "ولو بجزء لا بأس به”، لأوجه من الصراع في ثنائية السلطة والثروة. وذلك في اتجاه تدعيم آليات فصل السلط والرقابة والمحاسبة على المال العام. لكن تبقى جبهة القيم هي التي ستشكل أبرز الجبهات التي ستتطلب البحث عن صيغ لإدارة الصراع مع "الغير" في المراحل المقبلة من تاريخ المغرب المعاصر. *صحفي بجريدة التجديد [email protected]