"الغيم لا يأتي عندما يكثر الباطل" الشيخ عمو جميل أن تقرأ في فصل الشتاء، أعْمالا أدبية في الشعر والرواية، موضوعها الغيم والمطر، في بداية هذا الفصل استمتعت بإعادة قراءة قصائد في الديوان الجديد للصديق الشاعر جمال المُوساوي، ومن بين القصائد التي ستظل عالقة في ذهني هي القصيدة التي اختارها لتكون عنوانا لأضمومته الشعرية التي كتب أغلب نصوصها في الفيسبوك قبل أن ينقلها إلى الورق ويجمعها بين دفتي ديوان بعنوان "أتعثر في الغيمة فتبكي"، الذي يَرسم فيها وفي باقي القصائد صورا بلاغية جميلة. --- قبل يومين اقتنيت من إحدى مكتبات الرباط نسخة من الرواية الجديدة للصديق إدريس الكنبوري الذي اختار لها عُنوان "الرجل الذي يتفقد الغيم"، والتي يمكن القول بدون تردد بأنها تضع لبنة في بناء أدب يمكن تسميته "أدب القرية" الذي يوجد في بلدان أخرى مثل مصر وأمريكا اللاتينية، لكن للأسف لا وجود له في بيبلوغرافيا الأدب المغربي، رغم أن نصف سكان المملكة من العالم القروي وفي هذا العالم المنسي الكثير من القصص، ومنها القصة التي أخرجها إلى النور إدريس الكنبوري في مولوده الروائي الأول "زمن الخوف" التي تجري أحداثها في سبعينات القرن العشرين في فضاء بادية بسوق أربعاء الغرب، ويحكي عن الصراع الدموي بين قبيلتين واحدة من أنصار حزبي الاستقلال والثانية من أنصار الشورى والاستقلال، وتقريبا تحكي روايته الثانية "الرجل الذي يتفقد الغيم" عن نفس المرحلة الزمنية من تاريخ المغرب، حيث سادت الفوضى واستفحل الشطط في استعمال السلطة، فوَجد أحد المُقَاومين إسمه "عمو" نَفْسَهُ حائرا أمام انتشار الظلم من بني وطنه، الذين يَجلدونه في السجن بسياط مَصنوعة من ورق الدوم حفرت في ظهره أخاديد، بينما كان الفرنسيون يَجْلدونه بسياط مصنوعة من ذيول البقر بعد اعتقاله بسبب قتله لمائة وخمسين عسكريا فرنسيا، ثأرا لمقتل صديقه حسون على أيدي الاستعمار الفرنسي، حيث يصف من قتلوا صديقه ب"الكلاب"، قبل أن يَستدرك قائلا بأن "حسون لا يُساوي أحدا منهم، ولو كانوا مائة.. لأنهم كلاب". الرواية عبارة عن استرجاع لشريط من الذكريات، وكأن صاحبها يُمارس "لعبة النسيان"، من هذه الذكريات التي يستعيدها "عمو" مُقاومة الاستعمار في قرية مغربية لم يحدد الكنبوري مكانها في خريطة المغرب، وكأنه يتحدث عن جميع بوادي ومداشر المغرب التي ناضل أبناؤها وبناتها بصلابة لطرد الاستعمار الفرنسي، رغم أن بعض العلامات توحي بأن المؤلف يتحدث عن قرية توجد بسوق الأربعاء الغرب التي جرت فيها أحداث روايته الأولى "زمن الخوف"، التي استهلها بحادثة مقتل الذئب، وفي روايته الثانية، يتذكر عمو أيام مقاومة الاستعمار كَيْف ذَبَح هُو ورفاقه ذئبا وشواه لهم صديقه علال، ولم يعترف لهم بأنه ذئب إلا بعدما أكلوا حتى شبعوا. يُعبر "عمو" عن غضبه الشديد، بسبب أصناف الظلم التي ذاقها عقب اعتقاله وإيداع السجن، في مرحلة ظن فيها أن الظلم انتهى مع خروج الاستعمار، فالسجن في نظره لا يخيف بل ما يرعبه هو سجن الظلم الذي وصفه بأنه "أكبر سجن في السجن"، غير أنه رغم معاناته، كما يقول له صديق إسمه عبد الحميد يلازمه طيلة أحداث الرواية "دخلت رجلا وخرجت رجلا، أما هم فقد كانوا كلابا"، فينهاه "عمو" عن ظلم الكلب الحَارس الأمين، بينما هَؤلاء الظلمة لا يحرسون شيئا، وحتى عندما يَصف صَديقه الظالمين بالشياطين، يرد عليه بأنهم رؤوس الشياطين. --- رغم ارتكاب عمو جريمة قتل ذهب ضحيتها رجل أسمه قدور، إلا أنه ظل طيلة حياته يعتبر إيداعه السجن ظلما وعدوان، لأن قدور يستحق القتل لأنه " لا يساوي قملة، وكان يذبح شجر الغابة، ويبيعه ويجمع الثروة، حتى أصبح من كبار الأعيان"، وبعدما باءت مُحاولات ردعه حمل "عمو" بندقية صديقه حسون التي لم تعد تقتل أحدا منذ رحيل الاستعمار، وذهب ليقتص منه بنفسه، في عودة اضْطرارية إلى منطق العدالة الخاصة، حيث يقتص كل واحد لنفسه بطريقته، حيث تسود الفوضى ولا توجد أي سلطة تسهر على تطبيق القانون، وفي ذلك إشارة من الرواية إلى الفراغ الذي كان قبل ظهور إرهاصات تشكيل دولة الحق والقانون. في مشهد استنطاق، يُعبر فيه مؤلف الرواية عن القلق الذي يعيشه جيل من المُقاومين غالبا ما يعيش الواحد منهم وضعا مماثلا ل"عمو" وهم في مرحلة متقدمة من عمرهم ليجدوا أنفسهم في مُواجهة منطق جديد أصبحت تتعامل به الدولة بعد حصولها على الاستقلال، وفي الرواية مجموعة من الحوارات التي تعبر عن هذه الحالة، لنقرأ واحدا منها : "قال لهم عمو أمام المحكمة بأنه قتل من أجل القرية كلها ومن أجل الغابة، وعندما استنكروا ذلك، وعدوه معتوها أجابهم مستغربا : "سبحان الله، بالأمس كنتم تصفقون لي عندما كنت أقتل من أجل البلد كله، واليوم تريدون سجني عندما قتلت من أجل القرية، أجابوه اليوم ليس أمس، اليوم صار هناك قانون ودولة". يتساءل عمو، كيف أنفق ثلث عمره في مقاتلة المستعمر، وفي أرذل العمر يُذيقه بلده الذل. لنتابع مرة أخرى حوارا دراميا من شريط ذكريات رجل "يتفقد الغيم": قالوا له : أنت تتحدى القانون. رد عليهم: أنا أتحدى قانونا يجعلني غريبا بين أهلي، القانون معناه الميزان، وهذا القانون ليس لديه ميزان. قالوا له: عقوبتك فوق خمس سنوات، ونحن فقط نعطيك خمسا لأنك رجل كبير السن. رد عليهم: حتى لو حكمتم علي بأكثر منها لا يهم أنا قضيت ثلاثين عاما أقاتل من اجل حرية بلدي لكن بلدي تحررت، وأنا ليس بعد. وفي انتقاد صريح للذين استفادوا من ريع المقاومة يقول عمو "لم نأخذ لأننا لم نكن نعطي لنأخذ يوما، فعلنا ذلك لوجه الله أما الذين أخذوا فهم الخونة". --- يُواصل "عمو" استنكار انتشار الباطل، الذي يتسبب في انحباس المطر، كما يواصل أيضا صعود التلة لتفقد الغيم من بداية الرواية إلى نهايتها، وكأن المؤلف يحاكي به شخصية "سيزيف" في الميثولوجيا الإغريقية، الذي حكمت عليه الآلهة بدفع صخرة إلى قمة الجبل، التي تتدحرج إلى الأسفل بسبب ثقلها فيحملها من جديد، شخصية "عمو" في الرواية تحمل صخرة من الهموم وتريد الابتعاد عن الأرض ومشاكلها والصعود إلى الأعلى للاقتراب من السماء، في انتظار الغيم وفي انتظار الموت أيضا، والالتحاق بمن يحب من الذين غادروا إلى دار البقاء، وعلى رأسهم زوجته التي يَختار أن يطلق عليها لقب أم القاسمية قبل أن يفصح عن إسمها الحقيقي "مكة" عند منتصف الرواية، وهو اسم له دلالات كثيرة، حيث يشتاق إلى الرحيل إليها، لكن ليس قبل أن يكون هو أول من ينقل خبر وصول المطر إلى القرية، ومن كثرة تردده على التلة "صار مذكورا في العالمين بأنه صاحب التلة يخرج من بيته لصلاة العصر ثم لا يرجع إليه و لايَحمل مفتاحا في جيبه يعرف أن بيته ليس بيتا للسطو، هل هُناك أحمق يسطو على بيت مُوحش؟". إلا أن هذا البيت المهجور تدب فيه الحياة، كلما زارته ابنته القاسمية، إذ "يكون غيم آخر في بيته، ولا يشعر بأي حنين للتلة التي يعتبرها مجرد سلما توصله إلى رأس الجبل، لكن السماء بدون غيم مثل رأس رجل أصلع، سماء صلعاء". --- رغم حزنه الشديد، وشجبه للظلم المنتشر، إلا أن قلبه ظل مسكونا بالعشق الإلهي، حَيث "يرفض أن يرافقه أحد، رغم أن التلة بعيدة"، ويرد على صديقه عبد الحميد قائلا "لا أكون وحيدا في التلة يا عبد الحميد، ما من أحد منا وحيد الله في كل مَكان ومع كل واحد منا إذا فكر احدنا انه وحيد ضاع". ربما يريد أن يظل وحيدا ليطلق العنان لدموعه بالبكاء، فهو "يحبس دموعه ويمنعها من أن تنزل، حتى لا يتلطخ إباء الرجال لكنه حين يعود إلى خلوته يعتذر لدموعه ثم يبكي"، ويقول "خلق الله الدموع لتغسل لنا العيون، ولتريحنا، البكاء نعمة، لكن في الخلوة، لا أمام الناس". ويتواطأ معه عبد الحميد، الذي يخشى على عمو البكاء، ويفهم أنه حين يخلو إلى نفسه يفعل ذلك، لأنه هو أيضا يفعل ذلك ككل الناس، لأن الحاجة إلى البكاء كالحاجة إلى الطعام لكنه لا يريد أهانته أمام عينيه. لنقرأ هذه الصورة البلاغية من الرواية : "تتفجر عيون من عينيه تسيل ماء مالحا، قال في نفسه : سبحان الله العظيم، لماذا طعم الدموع مالح" فسر ذلك، بينه وبين نفسه، بوجود بحر في أعماق الإنسان، لذلك تخرج الدموع مالحة حين يبكي الناس، في داخل كل أنواع البشر بحر، وفي باطن البحر غليان وموج، وفي الأعلى سفائن". غير أنه يواجه مشكلة في ممارسة البكاء عندما كان في السجن، فقد كان يبكي أمام الذين معه، ويخبر من يسمعون لحكايته الحزينة بأن "السجن ليس فيه مكان للخلوة، ورغم استعطافه السجان لكي يأخذه إلى البهو كي يشم الهواء ويبكي، رد عليه بضحكة ساخرة فاضطر إلى أن يبكي أمام السجناء"، غير أن "بكاؤه الشديد في الزنزانة، تلاه فرح شديد حيث استمر يغني وتحلقوا حوله وعندما اخبرهم بقصة ولادة ابنته القاسمية، شرعوا في البكاء، وعندما علم السجان بالقصة أشفق عليه، وقال له "إذا أردت أن تبكي وحدك أخبرني". وصفته "مكة" زوجته الراحلة، بأنه سيظل جبلا شامخا، ولو أخذوه إلى السجن، ولن يصعدوا فوقه، إلا أنهم "في السجن عاملوه كالكلب، أولاد الكلب، كانوا يعوون طوال الليل، يأخذون السجين مثل قطعة لحم وينهشونها"، حتى أن عمو كان يظن أن هؤلاء "المغاربة" الذين يعذبونه أحفاد الفرنسيين يسعون إلى الانتقام مما أذاقه لأجدادهم من عذاب. بعد اعتقاله طلب من صديقه "قدور" في الطريق، بنقل الخبر إلى "مكة" عند انقضاء ثلاثة أيام وعدم عودته، هذه المرأة التي يرسم شخصيتها المؤلف على لسان "قدور" فيرى القارئ فيها المرأة التي صبرت مع زوجها وتقاسمت معه المعاناة "مكة كانت امرأة بعشرة رجال لكن ليس من رجال اليوم بل من رجال أيام زمان، أما من رجال زماننا فيمكن أن تكون بألف". كانت عندما تزوره في السجن، تقول له بضع كلمات، ثم يفترقان، "هي إلى القرية، وهو إلى الزنزانة"، حيث يتخيل القارئ في هذا المشهد الدرامي تتساوى المسافة التي تفصل بين السجن والقرية، مع المسافة التي تفصل بين ساحة الزيارة والزنزانة، حيث يمشي في الزمن طويلا قبل أن يدخل إلى زنزانته. --- أصبح "عمو" يحسد الموتى، الذين ارتاحوا من الظلم، ويطرح أسئلة وجودية، وبطريقته "الصوفية" يجد أجوبة لها بسهولة، فبعد خروجه من السجن "توجه إلى قبر صديقه حسون، فوجده فقد الكثير من ارتفاعه، فكر عمو في نفسه : إذا كان القبر يفقد ارتفاعه من الأعلى فلا بد أن يتسع أكثر من الأسفل، حسون لديه فسحة تحت الأرض أوسع مما لدي أنا الذي فوقها"، بل يحسد الموتى حتى على النباتات التي تخرج من تربة قبورهم، "عندما رأى نبتة غريبة اسمها القيصوم فوق قبر حسون، فكر أن النبات تؤنس الموتى ويكلمهم، لأن الله علمه التسبيح ولايمكن للنبات أن يسبح إذا لم يكن يعرف الكلام". تحكي الرواية ذكريات شخصية عمو، وتنتقد "الحياة التي تغيرت كثيرا هذه الأعوام، وصارت تبدو تافهة، فالناس يعيشون بدون ذكريات"، وفي الوقت الذي يعترف فيه عمو بأنه أصبح من المَاضي، يتأسف على "أبناء الحاضر الذين لايتحملون الماضي وأصحابه، لكن وجهة نظر عمو غير صحيحة، بدليل أن زوجته مكة خافت عليه من أن يتحول إلى رجل يتطلع إلى العيش في الماضي، سيما عندما كان يأخذ البندقية ويضعها على كتفه ويخرج ليجلس أمام الباب، مما دفعها إلى إخفاء البندقية، ولأنه مبتلى بممارسة رياضة "التفقد" تفقد المسمار الذي كان يعلق عليه البندقية التي لم يجدها، فنزع المسمار فظهر له ثقب مفتوح أسكته بحفنة طين. رغم ذلك، ظل "عمو" يتفقد مكان دفن البندقية، وبعد مُرُور سنوات نَبش مكانها فلاحت له بقايا معدن مغطى بالتراب، وبدأ يجذب بعض القطع المعنية اللاصقة بالأرض، مثل استعادة ذكرياته، فهل هذه الذكريات مثل "البنادق التي لا تصنع مَجْدا"، ولا تستحق إلا أن تدفن، حملتها ثلاثين عاما لكنها لم تحملني بعد ذلك، ففي الذي كان ينتظر أن يرفعه الوطن، مثلما رَفع بندقيته في وجه الأعداء من أجله، يعتقد بأن هذا الوطن هضمه حقوقه، وظلمه، ولهذا عندما تنتهي الصلاة يغادر المسجد، ولم يعد يتوقع أن ينزل الغيث بسبب دعاء الخطيب، ويظل يطرح أسئلته المحرجة، لماذا يقولون أحيي بلدك الميت ؟ "إذا كانت بلد الله لماذا يسود فيها الظلم ؟ نعم، يا عبد الحميد الدنيا بلد الله ، لكنهم ملئوها ظلما فصارت مليئة بالأحزان في حجم ما يحمله "زيزون" إحدى شخصيات الرواية أحد الرحل الذي يُطلق بعفوية على الشخصية المحورية في الرواية لقب "الشيخ عمو"، فهما معا يشتركان في الأحزان "التي يشعر بأنها مخلوقات تعيش بين الناس وتقتات منهم، وإلا لماذا يُصبح الإنسان أكثر نحولا وهزالا حين يستبد به الحزن، ألم تكن الأحزان تَشرب من دماء البشر لكي تعيش ؟ في نهاية الرواية، توجد إرهاصات بتحول "عمو" إلى ناسك متعبد، يبتعد عن الأرض ويقترب من السماء، صَنَعَ لنفسه طُقوسا خاصة، فمثلا عندما يقترب من قبر زوجته يخلع نعليه، "لا يعرف لماذا فعل ذلك أول مرة ثم اعتاد عليه، في ما بعد صار يفهم لماذا نصحه قلبه بذلك الطقس الخاشع في اليوم الأول، فسكان المقبرة يقيمون في التراب ومن غير اللائق أن تكون هناك نعال تفصل بين الزائر وبين التراب النعال حاجز يحول بين المرء وقلبه". --- ظلت الرواية مفتوحة على أسئلة كثيرة، سيما بعد توجه عمو في الفصل الأخير من الرواية المعنون ب"الغيم بعيد" إلى الشرق وحيدا، بعدما يكتشف أن جميع الشيوخ الذين في سنه يصعدون إلى التلة لتفقد الغيم، وكان كل واحد منهم يعتقد بأنه هو الوحيد الذي يقوم بهذه المهمة. هل رحيل "عمو" للالتحَاق ب"مكة" زوجته أو هو سفر إلى الحجاز طلبا لجوار الله تعالى، مثلما كان يفعل الناس قديما ؟ من الأسئلة التي يطرح قارئ الرواية، لماذا تعمد مؤلف الرواية وضع فهرسا، حيث اختار أن يكون عبارة عن عناوين لفصول في الرواية تحمل أسماء أصدقائه، "حسون، علال، موحة، زيزون"، مع استثناء "عبد الحميد" صديقه الذي لازمه طيلة أحداث الرواية، كما خصص لأسرته الصغيرة فصلين الأول لابنته القاسمية، والثاني لزوجته "أم القاسمية"، ولم يفته تخصيص فصل من ذكرياته لحماره "مسعود"، الذي رسم له بورتريها وجعله أقرب إلى بني البشر، إلى جَانب تخصيص فصول لأسماء بعض الأمكنة، "التلة، الحائط، القبر، بلد الله" ؟ من الأسئلة التي تتناسل أيضا، يمكن طرح السؤال التالي : هل تمت كتابة الرواية على شكل رسم بورتريهات لشخصيات وأمكنة في ذاكرة المؤلف، باعتماد الجمل القصيرة، و"إبداع" صور بلاغية على كل أقوال للعارفين بالله، ثم قام بجمعها في خيط ناظم، نَسَج به "عمو" أحداث الرواية ؟ وهل يمكن أن تتحول شخصية الرواية في عمل روائي ثالث لإدريس الكنبوري إلى أحد أعلام التصوف المغربي، سيما أن المؤلف لم يضع مثل الأديب السوري حنا مينة، "نهاية لرجل شجاع" يتفقد الغيم، بل تحدث عن رحيل رجل يبحث عن مكان يبكي فيه مع الغيم، ولعل حرص المؤلف على جعل قولة للإمام الحافظ شمس الدين الذهبي، جاء فيها "واحزناه على قلة حزني..واشوقاه إلى إخوان يعاونونني على البكاء"، لتكون عتبة للرواية، اختيار موفق حيث يدلف القارئ إلى فضاء روائي ليعيش لحظات حزينة من حياة رجل شجاع يتألم ويبكي ويعشق "مكة"، وبعدما تعب من صعود التلة قرر الرحيل وفي نفسه غصة بسبب انتشار الظلم.