في أيام مُراهقتي، كنتُ قد قرأت في إحدى المجلات التي اعتدتُ متابعتَها حينئذ، مقالا طريفا في ظاهره، عميقا بفضل التساؤل الذي يطرَحه. لا أتذكّر تفاصيله بدِقة.. لكن الفكرة العامة تدور حول قصة واقعية لكلبٍ يعيش في كَنف أسرة تحبه وترعاه، إلا أنّ المسكين يعاني من مرضٍ في عضلة القلب، لذلك منعه الأطباء -البيطريون طبعا !- مِن القيام بأي نشاط يتطلَّب جُهدا شديدا، لأنّ مِن شأن ذلك أن يودِعَه القبرَ في ساعتِه. هذا خبر عاديّ جدا، فأين المشكلة؟ المشكلة هي أنّ الكلب المَعني، كان على صداقة حيوانية بكلبةِ الجيران. وفي فترة التزاوج فطِن أصحابُه أنهم واقعون بين اختيارين في غاية الصعوبة: مَنع كلبِهم مِن تلبية نداء الطبيعة حتى يُحافظوا على حياته، أو السماح له بالتصرّف وِفق غريزته الحيوانيه ولو كان في ذلك نهايتُه. أستطيع أن أتذكّر بشكل جيّد أنّ أصحاب الكلب قد قرروا تبني الخيار الأول.. فالمهم كان، بحسَب رأيهم، هو أن يعيش الكلب ويُعمِّر طويلا. هذه القصة بقيت عالِقةً في ذهني منذ ذلك الأمَد، وما جعلها كذلك، هو أني صادفتُها مرات ومرات خلال حياتي.. لقد كانت تظهر في كل مرّة بقناع مختلف، لكن ذلك لم يمنعني من التعرّف عليها. إني، قطعا، لا أتحدث عن ذلك الاختيار بين أن تسمَح لحيوانك الأليف المريض أن يُمارس الجنس أو أن لا تسمَح له بذلك. ليس هذا هو الموضوع.. الفكرة تكمن في ذلك الاختيار الذي كثيرا ما نجِد أنفسنا مُتيبِّسين أمامَه: أَنقومُ بما يُسعدنا ويُرضينا ولو كلّفنا ذلك أمنَنا وسلامَتنا أم أنّ الأهمّ هو الحِفاظ على هذين الأخيرين ولو كلّفنا ذلك كلّ سعادتِنا؟ في الغالب، نميل نحن البشر نحو الاختيار الثاني.. نُفضّل السلامة على الفَرح، وحِفظ الحياة على حِفظ الحبّ والكَرامة وكلّ شيء.. نفضِّل أن نبتلِع ألسنتنا، على أن نصرّح بما قد يتسبّب في إيذائنا. نفضل الرُضوخ للظلم على الوقوف في وجهِه وتلقّي رصاصات في الصدر المفتوح.. نُفضل أن نحمي حياتنا ولو كلّفنا ذلك أن نعيش مقهورين محرومين بائسين خائفين.. نُفضل أن نعيش بلا حب على أن نتحمّل عذابه وآلامه.. نُفضِّل ونُفضِّل.. وقلّة قليلة منا تُفضل أن تثور وتنتَفِض ضدّ المألوف والاعتيادي.. وهذه الفئة من الناس غالبا ما نَصِفُها بالحمقاء الخرقاء المتهوّرة التي لا تعرف مَصلحتها.. لكن عن أية مصلحة نتحدث؟ ومن يُحدِّد مصلحة من؟ وأين تكمُن المصلحة؟ في أن تجرّب مُتعة تسلّق إحدى أعلى القمم مع خَطر تعرضّك للسُّقوط فالمَوت أو أن تبقى مُدّثرا في فراشك الدافئ مُتجنّبا بذلك كل أشكال الخَطر؟ غنّيٌ عن الذكر أنّ الكائن الحيّ مُعرّض لكل أشكال الخطر في كلّ المواقف والأوضاع.. لكن أحد أشكال الخطر الذي نتجاهلَه ونتناساه هو خَطر المَرض النفسيّ.. هل تعلمون أنّ الحيوانات تعرف بعض الاضطرابات النفسية التي يعانيها الإنسان ويمكن أن تصاب بالاكتئاب؟ الأسوء هو أنّ الاكتئاب والذي يمكن أن يفاقمه أو يشعل شرارته بعض أشكال الحرمان، يمكن أن يؤدي إلى الانتحار عند الإنسان والموت عند الحيوان ! هذه ليست نكتةً بالتأكيد، فقد أكدّت الدراسات أنّ القِطط الأليفة يُمكن أن تصاب بالاكتئاب إذا ما حُرمت من ممارسة حقِّها الطبيعي في التزاوج. وإذا كان الإنسان يتحكّم في رغباته الجنسية بحكم تحكّم دماغه في مستوى الهرمونات في جسمه (بما فيها الهرمونات الجنسية) فإنّ العكس هو ما يحدث عند الحيوان. وهذا ما يفسّر أن التزاوج عند الحيوانات يتمّ في فترات محدّدة من السنة.. إنها الفترة التي تعرف فيها هرموناتها الجنسية ارتفاعا عن معدلها الاعتيادي. ليس الجنس هنا إلا مثالا فرضته علينا قصة الكلبِ ذي القلبِ العليل.. والذي أكاد أجزم أنه الآن في عداد الموتى ما دام قد مرّ على هذه القصة وقت طويل.. نعم، لقد مات هذا الكلب في كلّ الأحوال ! فالموت، للتذكير، مصيرٌ تلقَاه كلّ الكائنات الحيّة، لكن لا يحصل الأمر ذاته مع السعادة التي قد يقتضي الحُصول عليها خَوض مُغامرة تضَع حياة الكائِن الحيّ على المِحكّ. يصبح هذا الاختيار (بين التعرّض للخطر أو التعرّض للفَرح) مُعقّدا جدا حين يتعلّق بالآخر الذي يُفتَرض أنه تحتَ رعايتك.. إذ عليك أن تُقرّر عِوضا عنه، وتختار له الأفضل، من وجهة نظرك أنت. هَبْ أن إحدى والديك مُصابٌ بداءِ السكري مع ارتفاع في الضغط وبعض الزيادة في نسبة كوليسترول الدم.. أعرف أنك فهمتَ ما أعني. فماذا أنت فاعل ساعَتها مع إنسان عليلٍ في آخر العمر لا يشتهي مِن المأكولات، ولا تتوق نفسه إلا لما قد يقتُله؟ أتتركه محروما يتحرّق شوقا لتناول أكلة دَسمة حتى تُضيف لعُمره (والأعمار بيد الله) بضع سنوات أو شهور أو أيام لعلّه لا يريدها ولا يرغب فيها، أو تتركه يتحصّل على بعض المُتعة، هو الذي يعيش كآبة آخر العمر، ولا يهم أن تكون آخر المُتع في حياته؟ بعبارة أخرى؛ ماذا تختار له: حياة طويلة ولو كانت مُملّة بئيسة.. أو حياة ممتعة ولو كانت قصيرة؟ هذا هو السؤال الجوهري في الموضوع.. وبعيدا عن الحاجات البيولوجية الأساسية مِن أكلٍ وشربٍ ونومٍ وممارسةٍ جنسية..إلخ، مع عدم تحقيرها؛ فإن مَن يختارون النمط الثاني من الحياة لأنفُسِهم، هم الذين يُعمّرون طويلا.. قد يموتون في رَيعان الشباب لكنّ ذكراهم، بما حقّقوه، تعيشُ طويلا. لا أحد منا يستطيع أن يجزم بما كان سيحدث لو أنّ ذلك الكلب المِسكين أمكَنه أن يُعرب عن رأيه: هل كان سيختار أن يُنهي حياته بلَحظة حب عارمة أم أن يعيش عمرا طويلا مُتشابها بلا تَجديدٍ ولا إثارَة؟ لا أحد يعرف ! فماذا تختار أنت؟ [email protected]