اعتُبِر المغرب "بلاد بربر وأجلاف العربان"، مثلما نقرأ لدى ابن خلكان في "وفيات الأعيان". وفي سياق المُناكفة التاريخية للحكم المرابطي بالأندلس، ظلّ المغرب يقترن بالغربة والموت، خصوصا مع نزول المعتمد بن عباد سجينا بأغمات. وهكذا، بتنا لا نعدم إشارات تسير في الاتجاه نفسه، منها ما ورد على لسان عبد الواحد المراكشي في "مُعجبه"، مُعلِّقا على نزول أبي القاسم (المعتمد) بالمغرب: وحلّ بالعدوة محلّ الدفين". ومن المؤكد أن هذا ما عبّر عنه ابن اللبانة شعرا، راثيا المعتمد، من خلال الإشارة إلى أغمات على النحو التالي: وقل لعالمها الأرضي قد كتمت ~~ سريرة العالم العلوي أغمات والحقيقة أن ابن عباد، منذ نزوله بالمغرب أحس بأن آخر فصل من حياته يُكتب. ولعل هذا ما عبرت عنه الأبيات التالية: هذي جبال درن ~~ قلبي بها ذو درن يا ليتني لم أرها ~~ وليتها لم ترني كأنها تخبرني ~~ بأنها تقبرني ولو أن الأمر تعلّق بحالة فردية معينة، في إطار تجربة معينة، قاد صاحبها إليها قدره، لما استحقّ الموضوع كبير عناية. ولكن، أن يرادف المغرب الموت، بما يجعل من أرضه قبرا لكل عظيم وذي مجد، فذلك مما يكسب هذا المغرب قوته الرمزية، في دلالته على الموت.. وأي موت؟ إنه موت العظماء نفيا وسجنا.. وهو ما ذهب إليه أبو عيسى بن لبون في أبيات أخرى: كم بالمغارب من أشلاء محترم ~~ وعاثر الجد مصبور على الهون أبناء معن وعباد ومسلمة ~~ والحميريين باديس وذي النون راحوا، لهم في هضاب العز أبنية ~~ وأصبحوا بين مقبور ومسجون من الملاحظ أن الإحالة إلى المغرب، وفي سياقات شديدة التنوع، تتمّ من خلال أسماء بعض مدنه، من قبيل طنجة، أغمات، جبال درن، وغيرها. إلا أن مختلف تلك الأسماء لا تفترق في الدلالة على فضاء المنفى والموت. ويبدو أن أهم عامل في هذا التكريس ما حفلت به قصة المعتمد من أحداث وقصائد. وإضافة إلى جبال درن المتقدمة، تحتل "أغمات" بؤرة شعر المعتمد خلال مرحلة الأسر، حسب تقسيم محقق الديوان. وقد جاء ذكرها في الأبيات التالية على النحو الآتي: إذا قيل في أغمات مات جوده ~~ فما يرتجى للجود بعد نشور أضاء لنا أغمات قربك برهة ~~ وعاد بها حين ارتحلت ظلام تخلصتم من سجن أغمات والتوت ~~ علي قيود لم يحن فكها بعد غنتك أغماتية الألحان ~~ ثقلت على الأرواح والأبدان فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا ~~ فساءك العيد في أغمات مأسورا غربان أغمات !لا تعدمن طيبة ~~ من الليالي وأفنانا من الشجر أما بالنسبة لطنجة، التي حلّ به المعتمد أولا، قبل أن يتم تسييره إلى أغمات، فقد ورد ذكرها في سياق لقائه بالشاعر الحُصري، وهو لقاء تسامع به الشعراء، فتعرضوا له سائلين عطاياه. شعراء طنجة كلهم والمغرب ~~ ذهبوا من الإغراب كل مذهب سألوا العسير من الأسير، وإنه ~~ بسؤالهم لأحق منهم فاعجب كما ورد ذكر لفاس، في سياق شعري مفعم بالألم، بعد أن تم الإفراج عن أسرى من المدينة، في حين ظل المعتمد في سجنه أسيرا. والبيت، هو: هبوا دعوة يا آل فاس لمبتل ~~ بما منه قد عافاكم الصمد والفرد! غير هذا، ورد ذكر المغرب، كفضاء عام، بصيغة المفرد، مقترنا بطنجة في السابق، أو بصيغة المثنى، كما في: غريب بأرض المغربين أسير ~~ سيبكي عليه منبر وسرير أو بصيغة الجمع، كما هو الحال في مراجعته لابن اللبانة في خمسة أبيات، منها هذا البيت: يا أبا بكر الغريب وفاء ~~ لا عدمناك في المغارب ذخرا! زيادة على ذلك، تعضدت كلمة المغرب بالإحالة إلى دلالة الغربة (الغريب، الغربان، الإغراب)، في سياق اشتقاقي دال بكثافته الإيحائية/الفجائعية. ومثلما شملت الغربة الحياة بإسارها، شملت بالإسار الموت. ويتجلى المعنى الأخير في قوله: قبر الغريب سقاك الرائح الغادي ~~ حقا ظفرت بأشلاء ابن عباد! هذه هي السياقات التي ورد فيها ذكر المغرب، وهي سياقات تقدم البلد باعتباره مكانا للإقامة القسرية. ولذلك، بات من الطبيعي أن يصير ذلك المكان رديفا للنفي والموت. والواقع أن المعتمد لم يعمل، وحده، على تكريس هذا المعنى، بل ساهم في ذلك كل من زاره من شعراء بلاطه وأصدقائه. ويأتي على رأس هؤلاء، شاعره الوفي ابن اللبانة الداني. فقد خلف هذا الشاعر قصائد قوية، جسدت ملحمة النفي/الموت لدى بني عباد، أكثر مما خلفها ابن عباد عن نفسه. وأجد أن تلك الملحمة تقوت دلالتها من جراء سوقها في إطار من الحكمة الإنسانية.. تلك الحكمة التي ما فتئت تذكر الإنسان بضعفه، وبالتالي بزواله. من هنا، انطلقت سهام قصائده لتقتحم القلوب الحية: موضوعها ملك إشبيلية الشاعر وما تعرض له بفعل سطوة الزمان الفاجع، وتقلبه الغادر من حال إلى حال. ومن تلك القصائد، وهي غير قليلة بالطبع، تأتي تائية "ابن اللبانة الداني" أثناء زيارة المعتمد في سجنه: لكل شيء من الأشياء ميقات ~~ وللمنى من مناياهن غايات وفي قصيدة أخرى، بنفس النفس الحكمي/ الفجائعي، نقرأ هذه الأبيات: تبكي السماء بمزن رائح غاد ~~ على البهاليل من أبناء عباد على الجبال التي هدت قواعدها ~~ وكانت الأرض منهم ذات أوتاد لما دنا الوقت لم تخلف له عدة ~~ وكل شيء لميقات وميعاد أن يخلعوا فبنو العباس قد خلعوا ~~ وقد خلت قبل حمص أرض بغداد حموا حريمهم حتى إذا غلبوا ~~ سيقوا على نسق في حبل منقاد