استطاع الملك الشاعر المعتمد بن عباد أن يعود من قبره بمدينة أغمات، لينبعث حيا بيننا، رافعا صوته بشموخه الشعري المدوي، وبأنفته الأبية التي وسمت مسيرته السياسية في إطار تفاعل مزمن مع ضغط الدولة المرابطية التي حكمت المغرب خلال زمن غير يسير من عقود العصر الوسيط المغربي. ينبعث المعتمد بن عباد بيننا هذه المرة، عبر الكتاب التركيبي الذي أنجزه المبدع عبد الدين حمروش حول السيرة الذهنية والثقافية لملك إشبيلية، ومن خلاله لمجمل التراث الأندلسي الذي أضحى عنصرا لاحما لعناصر الهوية الثقافية والحضارية لمغاربة الزمن الراهن. يتعلق الأمر بكتاب " المعتمد بن عباد ضيفا على المغرب"، الصادر خلال مطلع السنة الجارية، ضمن منشورات مركز الدراسات والأبحاث الإنسانية بالدار البيضاء، في ما مجموعه 210 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. بين السياسة والتاريخ لقد استطاع عبد الدين حمروش إعادة تحيين مجمل القيم الإنسانية والأبعاد الجمالية التي ارتبطت بالسيرة الذهنية والإبداعية للمعتمد بن عباد، فيتقاطع مع التطورات السياسية الكبرى للعصر، وفي سياق أجواء التدافع المزمن لدولة بني عباد، سواء في إطار علاقاتها المستكينة / المتوترة مع يوسف بن تاشفين، أمير دولة المرابطين، أم في إطار ارتجاجات هذه العلاقات مع ألفونسو السادس، ملك قشتالة وحامل لواء " تطهير " الأندلس من الوجود الإسلامي الذي مثلته إمارات ملوك الطوائف الشهيرة. ورغم أن للأمر بعدا تاريخيا وسياسيا موجها، فالمؤكد أن عمق القيم الإنسانية والثقافية، ظل أكثر تأثيرا في المخيال الجماعي لسكان العدوتين، المغرب والأندلس، وأفرز سيلا لامتناهيا من التعبيرات الإبداعية والتحليلية، للسياقات وللموروثات الحضارية، منذ مرحلة " نكبة " المعتمد بن عباد وإلى يومنا هذا. ونكاد نجزم أن الموضوع قد نال من الاهتمام بالبحث وبالتوثيق وبالتفكيك، بشكل لا نجد مثيلا له في أي "موضوع أندلسي " آخر داخل رصيد المنجز العلمي والثقافي المغربي المعاصر. لم يعد الأمر مرتبطا بتدافع سياسي عرفته العدوتين في أعقاب معركة الزلاقة التي انتصر فيها يوسف بن تاشفين على الإسبان سنة 1086 م ( 479ه)، ولا بمجرد نزوة عابرة لترسيخ سلطة زمنية أندلسية مستقلة عن هيمنة المركز المرابطي هناك بعيدا في أقاصي صحراء المغرب، بل ولا بمحاولة للحسم في الإشكال القديم والنقاش المتجدد حول ظلم ابن تاشفين للمعتمد، وهو الظلم الذي يختزل أقصى سمات طغيان سلوك " البداوة " المرابطية تجاه " الحضارة والمدنية " الأندلسية.. ليس الأمر كذلك على الإطلاق، بقدر ما أنه محاولة لإعادة البحث في الروابط القائمة / والمفترضة بين قطع فسيفساء الهوية الوطنية للمرحلة الراهنة من جهة، وبين مكوناتها الأندلسية القائمة من جهة ثانية، سواء في مستوياتها المادية والسلوكية المتوارثة، أم في تعبيرات هذه المستويات الرمزية والثقافية المجردة لمغاربة الزمن الراهن. ولعل هذا ما اختزلته الكلمة التقديمية للكتاب، حيث يقول عبد الدين حمروش : "..حين تلتقي السياسة بالأدب، في سياق أحداث كبرى، يكتب للتاريخ صفحات عميقة ومثيرة في نفس الآن. العمق كان مصدره خيالا شعريا جامحا، ظلت تسكنه قيم إنسانية قوية وعنيفة، سواء في لحظات سموها ورفعتها، أو في لحظات ضعتها وانحطاطها. ذلك ما لاحظناه من خلال اقتراب قصة الملك / الشاعر من التاريخ الشعبي، بما باتت تهجس به من خرافة وأسطورة. هذا في حين كان مصدر الإثارة، تلك الانقلابات الدراماتيكية التي شهدتها الأحداث في مختلف مجرياتها. ومن الانقلابات الحاصلة، كان للمعتبر بالتاريخ فرصة تجريد حكم مضيئة بشأن تقلب الحال، وبالتالي غدر الزمان .. المعتمد، نفسه كان في مقدمة المعتبرين في سجنه بأغمات ... وإن ظل من الصعب الفصل بين الحاكم والشاعر في شخص المعتمد، فإن انتصارنا الحقيقي سيكون للثاني، أي بما صدر عنه من شعر في غاية من السمو الإنساني والجمالي. بعبارة أخرى، فإن ما قد يلاحظ من استفاضة تاريخية في بعض الأحيان، ليس من شأنها أن تغطي على الجانب الأدبي في هذا العمل ... " ( ص 4 – 5 ). لم يكتف عبد الدين حمروش بإعادة استحضار معالم رصيد المنجز الإبداعي للمعتمد بن عباد، ولا بتجميع ذخائر " المغربيات من قصائد الأندلسيين" سواء بالنسبة للنصوص التي كتبها المعتمد أثناء " استضافته " بالمغرب أم بالنسبة لنصوص " مغربيات " التي كتبها شعراء آخرون استوحوا حدث اعتقال المعتمد في أغمات وظروف هذا الاعتقال، بقدر ما أنه سعى إلى تفكيك إواليات انتظام عطاء هذا الرصيد وخصوبته المتجددة والمؤسسة لمعالم التواصل الثقافي بين المغرب والأندلس. سيرة متجددة وقد انتبه المؤلف إلى أن هذا التواصل، الذي أضحى قدرا محتوما، بات يفرض نفسه على المغرب وإسبانيا منذ ذاك التاريخ، ليشكل مفتاحا لتفكيك الكثير من الأنساق الثقافية الناظمة لعناصر تميز الهوية الجماعية لمغاربة المرحلة، بإفرازات ذلك على مجمل أوجه النبوغ والسمو في تجارب الإبداع المؤطرة لمعالم هذا التميز. لذلك، فقد أضحت سيرة المعتمد بن عباد موضوعا متجددا، له أعلامه وفرسانه، قضاياه وإشكالاته، منغلقاته وتوابعه. باختصار، إنه – وكما أوضحت في الكلمة الاستهلالية التي كان لي شرف وضعها للكتاب – كتاب المعتمد بن عباد المشرع على رحابة فعل السؤال، وعلى شساعة ملكة التخييل، وعلى غزارة روح الاستلهام. " كتاب " متجدد بامتياز، في مقاربة إشكالاته التاريخية، وفي تشريح قيمه الثقافية والحضارية العميقة. لقد ظلت سيرة المعتمد بن عباد تكتسي راهنيتها الثقافية على هامش كل الأسئلة التي تسعى إلى تفكيك مكونات الهوية المركبة التي تميز راهن المشهد الثقافي الوطني. ولعل هذا ما نجح عبد الدين حمروش في القبض بتلابيبه، عبر رؤى تأملية فاحصة، وقراءة نسقية متجددة، لا شك وأنها تعيد قضايا حضور المكون الأندلسي / الموريسكي إلى واجهة البحث والتحري والتأمل، عبر تحيين الأسئلة النقدية والتفكيكية لوقائع السيرة الذهنية للمعتمد بن عباد، الغائب / الحاضر في وعي الكثير من التعبيرات الثقافية التي تنتجها نخب المرحلة الراهنة. هي تعبيرات تخلص في استحضار " نكبة " المعتمد، وفي تمثل قلق الغربة، وفي تحيين الدلالات الإنسانية العميقة لصوت ابن عباد وهو يناجي ذاكرتنا الجماعية، بأبياته الشعرية التي تنتصب فوق قبره، حاملة لواء الإباء في شخصية مبدعها، ومختزلة لمعالم التوهج داخل المنجز الشعري لهذه الشخصية. يقول المعتمد بن عباد في قصيدة " الغريب": " قبر الغريب سقاك الرائح الغادي حقا ظفرت بأشلاء ابن عباد بالدهر في نقم، بالبحر في نعم بالبدر في ظلم بالصدر في النادي نعم، هو الحق وافاني به قدر من السماء فوافاني لميعاد ". وبعد، إنه " ميعاد " المعتمد، ميعاد متجدد يخلص في تحيين القيم والأبعاد الجمالية التي صنعت / وتصنع معالم الخصب في " ذاكرتنا الأندلسية " المشتركة، بالأمس واليوم.