كورنيش "المرقالة" بطنجة؛ ذلك الفضاء الرابط بين الميناء ووسط المدينة، أصبح عنوانا يؤمه كل يوم وعلى مدار السنة العديد من سكان المدينة الذين بات يستهويهم التجوال على رصيفه المواجه لسجادة زرقاء ممتدة أطرافها حتى الأفق البعيد ... يقولون إن ذلك الكورنيش يحنو على مرتاديه ويمنحهم الدفء حتى لو كان الجو باردا ... يقولون إن ذلك الفضاء الوديع البديع يخفف تعب ضيوفه ويكنس من قلوبهم أرق الروتين اليومي الذي يزيد من سطوته ما تكابده المدينة من ضيق ممجوج. يقولون إن ذلك الكورنيش يغسل نفوس زائريه من شوائب المدينة ويهدي مقلهم ومهجهم وهم يسرحون في رحابه متعة لا تضاهى؛ لأجل ذلك قدر له أن يكون جزءا من الحياة اليومية لمرتاديه من أهل المدينة بمختلف أعمارهم ومستوياتهم، تحملهم إليه مركباتهم أو أقدامهم فرادى ومثنى وجماعات ليوزعوا خطواتهم على مهل فوق رصيفه الممتد على مسافة مديدة رواحا ومجيئا... فهذا طفل يغافل أمه المنشغلة بالحديث مع مرافقتها ويفلت من يدها ثم ينطلق في خفة راكضا في صياح ومرح قبل أن تلحق به وتسحبه من يده، وهذه امرأة تغدو متأبطة ذراع زوجها أو خطيبها في ألفة وانسجام وهما يسيران متجاورين يجيلان بصرهما في أرجاء المكان المترع بالأنس وبرائحة البحر ... وأولئك فتيات وشبان يخبطون بأحذيتهم الرياضية على الرصيف في هرولة أو جري وقد وضعوا سماعات هواتفهم على آذانهم ...وعلى طرف الرصيف الممتد نفسه ينتحي جانبا عاشقان يتناجيان ويهمسان لبعضها في خفر وحياء من غير أن يبيحا لنفسيهما ما هو مباح من ضم وعناق فوق بساط رمال الكورنيش الرئيسي للمدينة...وهناك على قارعة الرصيف اتخذ عجوز لنفسه مكانا وقد وضع بين قدميه قفة تقليدية محشوة ببعض أصناف المكسرات التي يعرضها على المتنزهين والمتنزهات مقابل دراهم معدودة ... إنها مشاهد مألوفة في رصيف كورنيش المرقالة لا تخطئها عيون الغادين والرائحين، لاسيما في آصال الربيع والصيف الدافئة . وبدوري صار يطيب لي أن أفزع في بعض الأوقات الوادعة إلى هذا الكورنيش وأتواجد فيه وأتمشى وسط تلك الأجواء وأدير ظهري على غرار باقي مرتاديه لرتابة المدينة الكبرى التي أصبحت لا تتحدث إلا لغتين اثنتين؛ لغة الإسمنت ولغة الاختناق. وعلى رصيف ذلك الكورنيش البهي أصبح يروقني أن أنقل خطواتي في تؤدة وأستمتع بسيمفونية المكان، فتارة أرهف سمعي إلى هدير البحر واصطفاق أمواجه، وطورا أصغي إلى حديث النوارس وهي تنسج رقصتها بين إقبال وإدبار في سماء المكان. وليست سيمفونية المكان وحدها ما تشدني إليها في ذلك الفضاء؛ بل هناك مشهد آخر يأبى إلا أن يستوقفني ويحرضني على التأمل، مشهد مضمخ بأريج تاريخ جزء من المدينة العتيقة، إذ يبدو على الطرف المقابل لكورنيش المرقالة مرتفع مكلل بمعالم وأسوار وأبنية متراصة، ضاربة في القدم، هاجعة في صمت، لم يعف عنها الزمان بعد، تسمو مشرئبة بهامتها نحو البحر وكأن سطوحها وشرفاتها في مناجاة مستمرة معه. للتاريخ حضور في تلك الأبنية العتيقة التي وقع الكثير من الأجانب في شرك غرامها بعد أن حظيت بزيارتهم ونفضت إليهم دخيلتها الشاعرية وأسرارها المعمارية. أحيانا حينما أجوب رصيف كورنيش المرقالة جيئة وذهابا يتفق أن أطاوع رغبة جسدي في الجلوس ترويحا عن النفس، فأصطفي صخرة أنحدر إليها ثم أجلس عليها وأشرع في توزيع نظراتي تارة على صيادي السمك الذين عادة ما أجدهم منتشرين فوق الصخور الشاطئية، وطورا على البساط الأزرق الفسيح، حيث تبدو لي بعض الزوارق الصغيرة تتهادى مترنحة فوق صفحة البحر، تتمايل مع الرياح وهي تمخر عباب الماء آيبة من رحلة صيد إلى ميناء المدينة. يطيب لي أن أتبوأ مكاني في كورنيش المرقالة على مقربة من صيادي السمك وأعاين نشاطهم بمتعة ونشوة ... أحب مجالسة من تربطني بهم علاقة صداقة والحديث إليهم وسماع حكاياتهم المسلية مع الصيد. بعض الصيادين من طبعهم إيثار الصمت، لكن نفوسهم مروضة على الصبر والحلم، لذلك ترى الواحد منهم ممسكا بقصبة صيده ينتظر في غير كلل ولا ملل، لا يتحرك ولا ينبس..فهو حينما يلقي بصنارته في البحر فإنه بلا شك قد يلقي معها بتعب مسه، أو بهم اجتاحه أو ربما يمارس هروبا من واقع أو ينشد متعة أو يطلب رزقا... وفي كل الأحول فإنه يرقب في استغراق بنظرات شاردة وفكر هائم أن يمن عليه البحر ببعض الأسماك. كثيرا ما أخبرني بعض الصيادين والحسرة تعلو وجوههم أن بحر المرقالة لم يعد جوادا معهم كما كان في سابق عهده، إلا أنه لم يتوقف عن العطاء، لكن بلا سخاء. ولذلك أصبح من المألوف أن يقفل الواحد من هؤلاء إلى بيته إما خاوي الوفاض أو حاملا بضع السميكات. أحيانا ولبرودة الطقس أو لسورة غضب تنتاب البحر يندر أن أجد الصيادين فوق الصخور التي اعتدت أن أجدهم يحتلونها، فلا أملك بعد ذلك إن طاوعت رغبتي في العثور على أحدهم إلا أن أذرع رمال شاطئ المرقالة الصغير، حتى تفتح لي صدرها سلسلة من الصخور الشاطئية التاريخية التي تسكن أسماء بعضها في ذاكرتي منذ كنت طفلا صغيرا، منها صخرة "الكاريان" وصخرة "الزهاني". ومن من أبناء طنجة لا يعرف هاتين الصخرتين اللتين مازالتا شامختين ثابتتين في وجه الأمواج العاتية، لا تريمان مكانهما رغم تعاقب السنين الطوال؟. حينما أتواجد على مقربة من تلك الصخرتين تتحقق غالبا رغبتي في لقاء صياد لا يلهيه عن ممارسة هوايته شيء، ولا يكترث لحر ولا لقر ولا لريح ولا لتقطيب بحر؛ فأتخذ بعد ذلك لنفسي مكانا على صخرة قريبة منه. وهناك أشرع في تتبع نشاطه وفي التحديق في جغرافية الفضاء وفي الاستمتاع ببهاء المكان وبوشوشة الأمواج حتى أكاد أنسى حاضري بعد أن يجنح بي الخيال نحو عوالم الطفولة، فتتمثل لي صور جميلة من الماضي مازالت معششة في كينونتي.. صور تحملني على أجنحة الطفولة اليافعة فأنطلق سادرا في ذكريات خلت كان ذلك الشاطئ الصخري مسرحا لها. كم أحب أن أحل ضيفا على ذلك الشاطئ الذي يحمل جزءا من فترة طفولتي! طالما نقبت على سطح بعض صخوره عن بقايا نقش نحتته أناملي في طفولتي، لكني عبثا كنت أفعل، فالأمواج العالية والرياح العاتية تعشق صقل الصخور. أحيانا يخيل إلي أن ذلك الشاطئ الصخري يحسن وفادتي ويكرم ضيافتي؛ فحينما أنزل ضيفا على سطح إحدى صخوره تنضحني أمواج البحر في الغالب برذاذ ناعم وكأنها تبذل لي الود، وتبش في وجهي، فأحسب ذلك الرذاذ عربون ترحيب. يستهويني في ذلك الحضن الصخري أن أرمي ببصري إلى بساط البحر العريض، سواء أكان ساجيا أو مقطبا... يحلو لي في ذلك الحضن أن أناجي صخرة "الكاريان" التي كانت في مرحلة طفولتي قبلتي المفضلة كلما اشتدت الحرارة في فصل الصيف ... فمن فوق سطحها تجاسرت يوما حينما كنت صغيرا وألقيت بجسدي بتحفيز من بعض أقراني من فوقها نحو أعماق البحر. كان بالنسبة لي ذلك اليوم مشهودا. يخيل إلي اليوم أنني لو استنطقت تلك الصخرة لروت لي قصة شقاوتنا أنا وأصدقاء الطفولة حينما كنا نعتليها ونتجمع فوق سطحها ونحن في ميعة الحبور والمرح نلهو في تضاحك وتصايح ...أذكر أنه حينما كنا أطفالا كنا نرمي بشكل جنوني بأجسادنا الغضة الواحد تلو الآخر من فوقها نحو الماء. وإن أنس فإنني لا أنسى حدثا كانت تلك الصخرة مسرحا له في زمن الطفولة، ذلك أن أحد الأطفال كان حديث العهد بمعرفتنا في تلك الفترة واتفق أن رافقنا في يوم قائظ إليها، ورغم أنه كان يجيد السباحة إلا أنه لم يكن يجترئ على القفز على غرارنا من أعلاها نحو البحر، ففوجئت بأحد أصدقائنا يمسك بيده على حين غرة ثم يقفز به عنوة نحو البحر. وأذكر أنه بعد ذلك الحدث انقشعت عن نفس ذلك الصديق رهبة القفز. والحق أن ذلك الحدث مازال يستفيق في ذاكرتي كلما تواجدت في ذلك المكان، كما تستفيق في ذاكرتي صور لأماكن وئدت ووريت تحت ماء البحر كصخرة "للاجميلة" التي كانت في عهد مضى مزار العوانس اللواتي كن يرتدنها ويمارسن طقوسا بالشموع والديكة وأشياء أخرى، أملا في جلب فرسان الأحلام. سقى الله أيام الطفولة وحفظ ما تبقى من صخور شاطئ المرقالة التي مازالت حتى اليوم في حوار متواصل مع أمواج البحر. والحق أن إحساسا جميلا مفعما بالنشوة ينتابني كلما تواجدت في ذلك المكان الذي يسكن ذاكرتي. لذلك حينما أزوره يحلو لي أن أمكث فيه حتى يشرع في الاتشاح بردائه الأسود. حينئذ يكون النهار قد انقضى وصفحته قد طويت...بعد ذلك أعود لتحملني قدماي من جديد إلى كورنيش المرقالة الذي يكون إيقاع حركة التجوال في رحابه في تلك الأثناء قد بدأ ينحسر رويدا رويدا ليرتسم على امتداده مشهد من نوع آخر يفيض سحرا وجمالا، مشهد يختزل حكايات لا تخلو من احتفاء ومن همس ومن همهمات .... فالكورنيش يضع عطر بداية الليل ويتزين بعقد لؤلؤ ليبدي خفايا مفاتنه الليلية تحت إيقاع وشوشة الأمواج الناعمة، حيث تبدو المصابيح المصطفة أعمدتها على امتداد جنبات الرصيف كسوار متوهج، وكأن المكان على موعد زفاف ... لكن في بعض أطراف الكورنيش التي يخفت فيها النور تنزوي بعض السيارات منعزلة في هدأة ليأخذ أصحابها داخلها حصتهم من احتفاء من نوع آخر، على إيقاع حميمية الليل. حينئذ أكون قد أعلنت مبارحة المكان الذي بلغت في عشقه عتيا.