(بمناسبة اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني29نونبر) الأيديولوجية المعاصرة المهيمنة اليوم ليست دينا ولاعقيدة ولافلسفة واحدة، ولكن خليط من الأيديولوجيات والفلسفات والأطروحات الفكرية، يمكن تسميتها بالجامع بينها من الصفات المشتركة وهي (الاستهلاكية العالمية). لقد مرت هذه الاستهلاكية بأطوار تاريخية وتجلت من خلال مظاهر متعددة، اكتسحت البلاد والعباد في مرحلة الحروب الصليبية، ثم الاستعمار، وقطعت الكعكة(العالم الإسلامي والعربي) ليسهل اقتسامها، وحولت ثروات المستعمرات المعدنية لمصانعها، واستخدمت الإنسان المستعمَرعبدا (يدا عاملة ودماغا) خادما لمصلحة المركزية الأوروبية ، ولما استعصى عليها مضغ وقضم وبلع الكل، اقتطعت من الجغرافيا أرض فلسطين ومن السودان جنوبه، وسلمت بعض البلاد لمن يحكمها ممن يواليها؛ مثل العراق الذي أعطي لإيران ومازالت المحاولات مع اليمن، ومصر التي مُنحت لفرعون صغيرجديد، إحياء للفرعونية القديمة من باب تمجيد التراث الخالد لتظل مصر أم الدنيا؛ متحفا كبيرا للعالم بتحفها القائمة الشاهدة، في خزاناتها وفي سياساتها كذلك. ومازالت تحاول التهام مابقي عالقا بأنيابها مثل صحراء المغرب بمعونة زبانيتها وخدمها، أما تراث الأمة ومصادره فقد حاولت الاستهلاكية القضاء عليه إحراقا وإغراقا، فلما استعصى عليها النص الشرعي والنص التراثي، عملت على إبداع صناعة جديدة وهي إنتاج فقهاء جدد، ليس غرضهم القضاء على النص ولكن مهمتهم القضاء على روح النص ودلالاته الحقيقية عبر مناهج تأويلية، وقراءات جديدة، تحول النص إلى أداة استعمالية لصالح إنسان الاستهلاكية العالمية، التي بلغت بشرهها أنها ترغب في التهام كل شيء (المبنى والمعنى جميعا). أما فلسطين المسكينة فكرونولوجيا عذابها يشهد بالشره العولمي،منذ1917 تاريخ وعد بلفور وتسليم الأرض المقدسة لليهود، وانطلاق المقاومة لأجل التحرير منذ 1920، ومن عناصر المقاومة القوية حركة القسام المقاومة التي انطلقت منذ عام 1935. وفي 1947 تاريخ التقسيم تم تشريد مايزيد عن800.000فلسطيني وصمد آخرون. وفي 1948 تم الاعتراف ب"إسرائيل" في الأممالمتحدة، ثم جاء العدوان الثلاثي على مصر عام1956. وفي 1964 قامت المقاومة في إطار منظمة فتح بزعامة ياسر عرفات، وفي1964 تم تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة أحمد الشقيري في مؤتمر القمة العربي بقرار من جامعة الدول العربية. ثم في 1967 مُني العرب والتيار القومي اليساري بنكسة، أجهزت على ماتبقى من الأراضي في الضفة الغربية وقطاع غزة وسيناء والجولان وتم تهجير الآلاف لتقام المخيمات في لبنان والتي سينطلق منها النضال الفلسطيني. وفي 1973 سينتصر العرب على "إسرائيل" ذلك الانتصار الذي تحول إلى هزيمة. ويعلن مجلس الأمن قرار338 بوقف إطلاق النار وتنطلق مفاوضات السلام، ويبرم السادات اتفاقية كامب ديفيد 1978 إيذانا بانتهاء العهد الناصري، وتجميد مصروعزلها والقضاء على القضية. وفي صيف 1982 تم غزو لبنان وحصار بيروت وخروج المقاومة الفلسطينية من لبنان، وتم الاعتراف بحق:"إسرائيل" في الوجود كدولة و كواقع سياسي في مؤتمر القمة بفاس في نفس السنة بناء على خطة فهد. وكان اتفاق غزة أريحا مقدمة للتطبيع وفتح الأبواب على الاختراق الصهيوني الاقتصادي والثقافي والسياسي.وفي مؤتمر القمة العربي1987 بعمان تم الإقرار بإعطاء الأولوية لدعم العراق في حربه مع إيران وهمشت القضية الفلسطينية، لكن الجماهير الشعبية أخذت المبادرة وفجرت الانتفاضة وفاجأت عرفات ومن معه، وقد خلفت الانتفاضة خسائر اقتصادية فادحة على الكيان الصهيوني وانعكاسات نفسية على أهله وفرار جنوده من الخدمة العسكرية ومطالبة أركان الجيش القيادة باللجوء للحلول السياسية السلمية. ومثل هذا الرعب الذي أحدثته الانتفاضة مازالت آثاره في النفسية الإسرائيلية لدرجة نسبة الحرائق الأخيرة غير المسبوقة التي تعرضت لها "إسرائيل" إلى "فعل فاعل" كما صرح بذلك وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي(جريدة المساء عدد3146،بتاريخ:26-27نونبر2016)، ومن تدابير القدر أن تأتي هذه الكوارث بعد إقرار الحكومة الصهيونية قانون حظر رفع الآذان عبر مكبرات الصوت واستعدادها لتمريره في البرلمان، والذي إن نفذ وطبق فقد يكون مقدمة لانتفاضة جديدة. فإن الغدر وإن لان عاجله، واستحليت فروعه، مر العاقبة، بعيد المهواة، وخيم المزلقة. نعود للتسلسل التاريخي للأحداث في القضية الأم، فقد تم إعلان قيام الدولة الفلسطينية أثناء انعقاد المجلس الوطني في نوفمبر1988بالجزائر تحت قيادة ياسر عرفات، كل ذلك في ظل الاعتراف بالكيان الصهيوني، والتعهد بتخلي المنظمة الفلسطينية عن كل أشكال "الإرهاب"، من منطلق أن الواقع السياسي الدولي أكبر من الطموحات. ليأتي غزو العراق للكويت في غشت1990، فتقلب موازين القوى لصالح الكيان الصهيوني بشكل مطلق. وتم الاتفاق الفلسطيني الإسرائيلي على أساس الإعتراف المتبادل سنة1993.مقابل إعطاء الفلسطينيين حكما ذاتيا يبدأ بقطاع غزة وأريحا. وبدأت سلسلة المفاوضات. ماهي النتيجة؟ قوتان سياسيتان في فلسطين، تعكسان الصراع الحاصل في كل البلاد العربية والإسلامية، وحالة التعارض والتناقض بغير اتفاق على مشروع موحد! لقد مر الصراع العربي الإسرائيلي بعدة محطات يمكن الخروج منها بالنتيجة الآتية : إن غلبة إسرائيل لم تكن بسبب قوتها الذاتية، ولكن بسبب الدعم الخارجي الغربي، والعامل الأكبر هو هشاشة الصف العربي. لقد كان هاجس الاستهلاكية العالمية كيف يتم إدخال "إسرائيل" في عمق الأمة العربية والإسلامية، (كما فعلت بشأن إيران وقد أفلحت في ذلك باعتبار إيران عدو/نقيض الداخل، وكيان إسرائيل عدو/نقيض الخارج)،وجعلها جزءا من الشرق الأوسط باعتبارها قاعدة للنظام العالمي الإمبريالي الاستعماري الجديد. ولذلك لابد أن يتعاظم الدور السياسي والاقتصادي ل"إسرائيل" بهدف العمل على تنزيل مشروع التجزئة، لتصير الأرض بلا توجه حضاري ورقعة بلاتاريخ ولاهوية ولاذاكرة، وتقسم إلى دويلات تدور في فلك مصلحتها الضيقة فلامصالح عربية مشتركة ولا استراتيجية إسلامية، وتفتيت الجغرافية إلى طوائف وأجناس وأصول قومية ومذاهب أي إعادة صياغة المنطقة لتصير فسيفساء من أقليات إثنية ودينية، يستمر بينها قدر من الصراع المعقول الذي يمكن التحكم فيه، لتستمر الحركة الاقتصادية من بيع وشراء وإنتاج واستهلاك واقتسام الثروات والأسواق، لأن الكيان الصهيوني لم يعد فقط قاعدة للاستعمار الغربي بل صار ممثلا للحضارة الغربية في "دار الإسلام". لذلك فكل من يعول على العلاقات التطبيعية مع هذا الكيان لحل قضية الصحراء فهو واهم، وهذا ما صرح به منسق (مجموعة العمل الوطنية من أجل فلسطين) خالد السوفياني في حوار أجرته معه جريدة السبيل (في عددها228-24نونبر2016) حيث قال بأن الكيان الصهيوني والمخابرات الصهيونية والمخابرات الأمريكية ليست من مصلحتها أن تنتهي قضية الصحراء، لأنها البقرة الحلوب لابتزاز المغرب وابتزاز الجزائر وابتزاز المنطقة بكاملها ،وإذا تم حلها يعني فقدانهم خيطا أساسيا من خيوط التحكم في المنطقة. والقضية ليست فقط مسألة تطبيع عادي إنه من أكبر من ذلك فالتطبيع مدخل لتقسيم المغرب، وانظر في مظاهر معلنة لذلك ممن وضعوا علما ونشيدا خاصين بهم بدعم من الخارج. ولذلك فالعدو الأول للنظام العالمي هو كل من يقف ضد الاستهلاكية العالمية،أي الإسلام كمذهبية إنسانية عالمية. وتشترك بعض النظم العربية في هذا التوجه باعتبارها الأصولية الإسلامية عدوها الرئيس. والمقصود هو حل القضية الفلسطينية بمعزل عن التوجه الإسلامي. إن حقيقة الصراع ليست فقط بين شمال وجنوب ولكن بين قوى تناضل من أجل الاستقلال الحقيقي أي التحرر من المركز الغربي والانطلاق من الذات الحضارية للأمة التي يمثل الإسلام جوهرها، وقوى لاترى لمجتمعاتها من مستقبل خارج التبعية للمركز الغربي والرهان على التطور والتقدم في سياقه، وهي مستعدة من أجل فرض منظورها هذا أن تمارس على شعوبها الوصاية والقهر وتزييف الانتخابات والتحالف مع إبليس باسم الحداثة والتقدمية ومقاومة التطرف والأصولية، هذا هو سر الصراع الداخلي بين الأحزاب والقوى السياسية في البلدان العربية في فلسطين وفي غير فلسطين، ومادام المسجد الأقصى في مشكلة فستظل مساجد المسلمين في مشاكل، ومادامت الدولة الفلسطينية بغير أرضها كاملة وفي ظل الكيان الصهيوني تقيم، فستظل الأنظمة العربية في تبعيتها للمركزية الغربية ونظام الاستهلاكية العالمية شبرا بشبر. وستوظف وتصنع فرق ومذاهب تنتج صراعات داخلية تنخر في بناء الأمة، هذه الفرق منها الذاتي المنبعث من الفكر الظاهري السطحي لبعض المسلمين ومنها المخطط لها من أعداء الإسلام والمشهد يسفر عن مكونات غريبة بأسماء غير مسمى"المسلمين" هذا الاصطلاح القرآني الذي لايعوضه أي اصطلاح بشري آخر، ومنها مايدعي انتسابه لطائفة من طوائف الماضي، ومن ينتسب لعرق تاريخي وانظر الى العناوين الآتية وماأحدثته في جسد الأمة من شروخ ودماء:الشيعة في الخليج والشام،والمدخلية في شمال افريقيا، والداعشية في بلاد الرافدين، وسيتمخض المستقبل عن ولادات جديدة كلما استنفد عنصر من عناصر الأزمة أغراضه. [email protected]