لئن كان مسار التفاوض حول تشكيل حكومة ما بعد انتخابات 2016 قد اتخذ منحى غير مسبوق، وجعل رئيس الحكومة المعين أمام صعوبة بالغة في استمالة بعض الأحزاب السياسية التي يحتاجها الوصول إلى النصاب القانوني الضروري لتصويت مجلس النواب على برنامج حكومته، فقد فتح الباب على مصراعيه للتساؤل حول ما العمل في الحالة التي قد يتأكد فيها عجزه عن الوصول إلى الهدف الذي عين من أجله. وهو سؤال يجد مصدره في اكتفاء واضعي دستور 2011 بالنص على تعيين الملك لرئيس الحكومة من الحزب المتصدر للانتخابات وعلى أساس نتائجها (الفقرة 1 من الفصل 47)، وعدم توقعهم، بالتالي، إمكانية تعذر حصوله على التأييد الحزبي الذي قد يعطيه إشارة الضوء الأخضر لاقتراح فريقه الحكومي والشروع في تحضير البرنامج الملزم بعرضه على أنظار مجلس النواب، كمحطة أخيرة لاستكمال حكومته لكافة مراحل تشكلها القانوني. فهل يعني ذلك أن هذه الإمكانية هي الوحيدة القائمة، وأن كل تفكير خارجها يعتبر خرقا للدستور وإنكارا لمقتضى صريح داخله، وخروجا عن "المنهجية الديمقراطية"، كما ينم عن عدم احترام الإرادة الشعبية المعبر عنها من خلال تتويج الحزب المذكور على رأس جميع الأحزاب السياسية، بل ويجسد استمرار "مؤامرة" الإطاحة به التي كانت قد بدأت قبل الانتخابات، كما يقول بعض المقربين من "الحزب الإسلامي"؟ جوابا على هذا السؤال، يمكن القول إنه حتى مع الإقرار بأن دستور 2011 يسمح بإمكانيات أخرى لتجاوز مأزق من هذا النوع، فإنها إما تواجه صعوبات فعلية من أجل تجسيدها على أرض الواقع، وإما تنطوي على كلفة سياسية بالغة يصعب على الفاعلين السياسيين، وفي مقدمتهم الملكية، تحملها على الأقل في الوقت الراهن: أولا أن اللجوء إلى شخص آخر من نفس الحزب المتصدر لنتائج انتخابات مجلس النواب غير أمينه العام، إذا كان خيارا يتيحه الدستور، بالنظر إلى أن هذا الأخير لا يلزم الملك بتعيين شخص محدد من الحزب السياسي في هذا المنصب، فإنه يصطدم بصعوبتين: تمسك الحزب بأمينه العام، ورفضه لتعيين أي شخص آخر من داخله، خصوصا عندما يكون هذا الحزب السياسي قد عمد إلى تمديد موعد تنظيم مؤتمره لكي يتيح لقائده إمكانية الاستمرار في هذا المنصب، ثم عجز الشخص الجديد المعين رئيسا للحكومة هو الآخر عن إيجاد الحلفاء السياسيين الذين يسمحون له بتشكيل الأغلبية المؤيدة لحكومته، إما لأنه ظل مثل سلفه متمسكا بعدم تقديم تنازلات لحلفائه المفترضين أو لاستمرار الأحزاب السياسية الضرورية لاستكمال أغلبيته في طرح شروط تبدو تعجيزية ، يظهر من خلالها أنها لا تعترض على شخص معين في حد ذاته وإنما على الحزب ككل. ثانيا إن حل مجلس النواب وتنظيم انتخابات سابقة لأوانها وإن كان يبدو من الناحية النظرية المخرج الأكثر وضوحا لحل مأزق من هذا النوع، على اعتبار أن الدستور يعطي للملك صلاحية حل المجلس وتنظيم انتخابات سابقة لأوانها ينبثق عنها مجلس جديد خلال مدة لا تتجاوز شهرين على الأقل من تاريخ الحل (الفصول 51 و96 و97 من الدستور)، كما يجسد الصيغة المناسبة لتحكيم الشعب في الخلاف القائم بين القوى السياسية المختلفة التي لم تنجح في الوصول إلى توافقات فيما بينها بخصوص تشكيل الحكومة، فإنه لا يظهر كذلك من الناحية الواقعية، ليس فقط لأن لتنظيم انتخابات جديدة بعد مرور مدة وجيزة له تكلفة مادية وتنظيمية، وربما سياسية، بالنظر لما قد يعطيه من انطباع بوجود أزمة سياسية، وليست حكومية فقط، وما قد يكون له من تداعيات على مستوى تراجع مشاركة ناخبين قد ترهقهم كثافة الأجندة الانتخابية، وإنما لأنه قد يؤدي إلى الدوران في حلقة مفرغة عندما يقود من جديد إلى تصدر نفس الحزب لنتائج الانتخابات دون أن يتمكن من الحصول على الأغلبية المطلقة، ودون أن تتغير مواقف الأحزاب السياسية الأخرى منه ومن إمكانية الاصطفاف بجانبه في تركيبة حكومية مشتركة. ثالثا أن الاستعانة بفصول أخرى من الدستور، وعلى وجه التحديد الفصل 42، الذي يجعل من الملك الحكم الأسمى بين مؤسسات الدولة، كما يؤكد على دوره في السهر على حسن سير المؤسسات الدستورية، لا يستقيم هو الآخر، من جهة أولى، لأن التحكيم الملكي لا يفترض وجوده إلا في حالة وجود نزاعات بين المؤسسات الدستورية، أي بين البرلمان والحكومة، والحال أننا بصدد خلاف حزبي، وإلا لكان الملك قد استجاب من قبل لطلب حزب الاستقلال بعد نزاعه مع العدالة والتنمية في أول حكومة منبثقة عن دستور 2011، ومن جهة ثانية، لأن كل استعمال لهذا الفصل قد يعيد إلى الأذهان الممارسة السابقة للفصل التاسع عشر الشهير، ويؤشر على عدم القطع مع عهد الازدواجية الدستورية التي ميزت الممارسة الدستورية والسياسية السابقة، وبالتالي عدم الانتقال بكيفية واضحة من ملكية فوق الدستور إلى ملكية مؤطرة بالدستور ومحكومة بنصوصه ومقتضياته.. رابعا أن اللجوء إلى تفسير الدستور ولو أنه يعد من مستلزمات القانون الدستوري، وأضحى أمرا لازما في ظل الغموض الذي قد يكتنف بعض القواعد الدستورية المدونة أو الاقتضاب أو النقص الذي يعتريها وكذا تقادم الزمان عليها، بكل ما يتيحه هذا التفسير للمفسر، أكان جهة سياسية أو قضائية، من إمكانية لتطوير النص بهدف الاستجابة لمتطلبات محددة، والإسهام في معالجة وإيجاد حلول لمشكلات وصعوبات قائمة في الواقع السياسي، فإن مشكلته هو صعوبة استجلاء مقاصد المشرع الدستوري واستبيان نيته وحقيقة مراميه. إذ في ظل غياب الأعمال التحضيرية الخاصة باللجنة التي تولت وضع الدستور، يصعب معرفة الاتجاه الحقيقي للمشرع الدستوري: - هل كانت هذه الصيغة التي جاء بها الفصل 47 من الدستور مجرد سهو من أعضائها في ظل سباق المسافات القصيرة نحو إخراج الدستور إلى حيز الوجود؟ - هل كانت تعكس تقديرهم أن الشخص الذي يعينه الملك في هذا المنصب يجب بالضرورة أن يحصل على الأغلبية التي تسمح له بتشكيل حكومته؟ - هل كان أعضاء اللجنة، فعلا مقتنعون بأن تشكيل الحكومة لا يمكن أن يكون إلا بقيادة الحزب المتصدر لنتائج انتخابات مجلس النواب؟ خامسا أن الاهتداء بما هو موجود في التجارب المقارنة قد لا يسعف كثيرا في هذا المجال، بالنظر إلى أن الوثائق الدستورية في أغلب الدول إما أنها لا تنص صراحة على ضرورة تعيين رئيس الحكومة من الحزب المتصدر لنتائج الانتخابات، وتكتفي بالنص على أن يتولى رئيس الجمهورية تعيين الوزير الأول وإنهاء مهامه بناء على تقديم هذا الأخير استقالة الحكومة، كما فعل الدستور الفرنسي (المادة 8 من دستور 1958)، أو الدستور البرتغالي عندما نص على تعيين رئيس الجمهورية لرئيس الوزراء بعد استشارة الأحزاب الممثلة في الجمعية الوطنية الجمهورية، ووفق نتائج الانتخابات( المادة 187 من دستور 1976)، وكذلك الدستور الإسباني، الذي يعطي للملك، صلاحية اقتراح مرشح لرئاسة الحكومة في كل مرة ينتخب فيها مجلس نواب جديد وفي باقي الحالات المماثلة التي ينص عليها الدستور، بعد أن يكون قد أجرى مشاورات مسبقة مع الممثلين الذين تعينهم الأحزاب الممثَّلة في البرلمان (المادة 99 من دستور 1978)، وإما أنها عندما تنص على تعيين رئيس الحكومة من الحزب المتصدر لنتائج الانتخابات، فإنها تحدد مسطرة خاصة وجد مفصلة لمعالجة الحالة التي قد يفشل فيها رئيس ذلك الحزب في الوصول إلى النصاب القانوني الذي يتطلبه تشكيل حكومته، والمثال الواضح على ذلك الدستور اليوناني لسنة 1975 (المادة 37)، عندما ينص على تعيين رئيس الحزب السياسي الذي يحصل على الأغلبية المطلقة من المقاعد في مجلس النواب، أو رئيس الحزب السياسي الحاصل على الأغلبية النسبية في حالة تعذر حصول أي حزب سياسي على الأغلبية المطلقة، أو رئيس الحزب الثاني إذا ما تعذر على الحزب الأول الحصول على النصاب القانوني الذي يسمح له بتشكيل حكومته، ثم رئيس الحزب الثالث في حالة تعذر الأمر على رئيس الحزب الثاني، قبل أن يؤد تعذر تشكيل الحكومة خلال مدة محددة برئيس الجمهورية إلى دعوة رؤساء الأحزاب السياسية في محاولة منه لتشكيل حكومة مكونة من جميع التشكيلات السياسية الممثلة في المجلس، على أن يقود فشل هذه المحاولة إلى تولي رئيس مجلس الدولة أو رئيس محكمة النقض أو رئيس مجلس الحسابات مهمة تشكيل حكومة تحظى بقبول واسع، لكي تتولى الإشراف على تنظيم انتخابات جديدة وحل المجلس. سادسا إن التفكير في هذا المأزق ،يمكن أن يطرح فرضية تعديل الفصل 47 من الدستور حتى يصبح متناغما مع الحاجة إلى وجود أكثر من إمكانية لتعيين رئيس الحكومة، حيث يعطي الدستور للملك الإمكانية للمبادرة بتعديل بعض مقتضياته عبر البرلمان، ولا يشترط في اعتمادها سوى تصويت البرلمان عليها بأغلبية الثلثين في كل مجلس من مجلسيه، لكنها إمكانية تبدو هي كذلك مكلفة بالنسبة للملكية لأنها ستعيدها إلى أجواء التعديل الدستوري، وستذكرها بسياق سياسي كان قد أرغمها على اتخاذ مبادرة ظلت تمانع في الإقدام عليها أو على الأقل مترددة في ذلك. علاوة على أن مبادرة من هذا النوع، وفي هذا الظرف بالذات، قد يظهرها كما لو أنها قد خرجت عن "حيادها" إزاء مختلف الفاعلين السياسيين، وهي التي حرصت، من خلال الإسراع بتعيين الأمين العام لحزب العدالة والتنمية في كل مرة تصدر فيها حزبه نتائج اقتراع مجلس النواب، على الظهور بمظهر المؤسسة التي تحترم المنهجية الديمقراطية وتقف على نفس المسافة إزاء الجميع. *أستاذ القانون الدستوري كلية الحقوق السويسي