للديموقراطية في بلدي حكايات و روايات، بعضها غريب و كثير منها مريب. حاضرة بقوة في النقاشات والكتابات وغائبة أو تكاد في الممارسات والمعاملات. البلد الوحيد في أرض الله الواسعة، الذي وضع للديمقراطية مسلسلا لا بداية ولانهاية له، هو بلدي. و هو الوحيد الذي " يلصق " مفهوم الديمقراطية بالبشر و الحجر. في طفولتي سمعت كثيرا عما يسمونه " المسلسل الديمقراطي" وها أنا اليوم أقارب الستين من عمري الدنيوي، ولا زالت حلقات هذا المسلسل الطويل و الرديئ تعرض علينا بمناسبة وبغيرها، تذكرني بما قاله أحد الظرفاء متهكما على هذا " المسلسل " الذي لا ينتهي " إما أن هذا المسلسل لانهاية له، وأن حلقاته المملة لا معنى لها، أو أننا متفرجون سيئون ". في العهد القديم، كانوا يرهقون آذاننا المتعبة بنعوت وأوصاف الديمقراطية، رغم أننا لم نكن نعرف معنى للديمقراطية. فالديمقراطية الوحيدة التي كنا نعرف أو التي تم الترويج لها، هي" الديمقراطية الحسنية" التي ابتدعها بعض المتملقين من السياسيين الرديئين. فالبلد الوحيد الذي كان "يلصق" الديمقراطية بالأشخاص في تاريخ البشرية أو على الأقل منذ ان اشتقت هذه اللفظة من المصطلح الإغريقي ( ديموس/ كراتوس) ( سلطة الشعب) في القرن الخامس قبل الميلاد، هو بلدنا. بعد رحيل الحسن الثاني، بقيت الديمقراطية التي عرفناها،أو بالأحرى تلك التي كانوا يروجون لها، في زمن الرصاص يتيمة و وحيدة، لا ولي لها، لأن الجميع بمن فيهم المتملقون و البكاءون وجدوا أن ما روجوا له كان وهما و سرابا، إلى أن جاء العهد الجديد - الذي أراد في البداية ألا يساير المتملقين من السياسيين وغير السياسيين - بمفاهيم جديدة أكثر واقعية وأكثر إنسانية، كالمفهوم الجديد للسلطة و المصالحة الوطنية. كما اتجه نحو اختيار هيئات و مؤسسات قريبة جدا من الديمقراطية تنبني على مبادئ دولية وحقوق كونية، كالمجلس الوطني لحقوق الإنسان والوسيط، بل ذهبت المملكة المغربية بعيدا عندما اعتبرت الديمقراطية ثابتا من ثوابت الأمة، وألحقت في دستور 2011 الاختيار الديمقراطي بالثوابت الثلاثة المتعارف عليها وطنيا، الأمر الذي قد يدفعنا لتعديل النشيد الوطني و شعار المملكة، بإضافة لفظة الديمقراطية، رغم أن هذا الثابث أصبح متحولا أو يريديون أن يكون كذلك، ليصبح الفائز منهزما، و المنهزم متحكما، و المتحكم قائدا و القائد تابعا منكسرا و متوسلا. منذ أيام، أثارني عنوان إحدى اليوميات المغربية الذي جاء فيه أن "الحكومة معلقة والهدف إنهاك ابن كيران". فتذكرت قصة من قصص كليلة و دمنة "أكلت يوم أكل الثور الأبيض". فابن كيران بدل أن يستثمر ذلك الحراك الشبابي لحركة 20 فبراير و ذلك المد الجماهيري الذي كان سيساعده، في تقوية مكانته كرئيس حكومة وتقوية صلاحياته وموقفه تجاه الدولة العميقة وتقوية المؤسسات الدستورية، ومن خلالها تقوية الديمقراطية، ساهم في إضعافه، بل في أفول نجمه، دون أن يدرك أنه في المستقبل قد يؤكل كما أكلت حركة 20 فبراير سنة 2011. كما أضاع خلال سنوات حكمه الخمسة، استثمار " المشروعية الشعبية " التي أوصلته الى الحكم للتفاوض بشكل مريح نسبيا مع المؤسسة الملكية، بل قام بما قام به سلفه عبد الرحمان اليوسفي سنة 1999 مع الراحل الحسن الثاني، لينتهي به المطاف، نهاية مأساوية خارج المنهجية الديمقراطية بعد برلمانيات 2002 رغم حصوله على المرتبة الأولى. فإذا كان التاريخ يعيد نفسه، فإننا نعيد غباءنا و جبننا، لأن المخزن حي لا يموت. بنكيران ومنذ تعيينه لقيادة حكومته الأولى بذل مجهودا أسطوريا في إرسال اشارات مباشرة وغير مباشرة، بمناسبة وبغيرها في العديد من خرجاته المحسوبة وغيرالمحسوبة، لطمأنة الجهات المعنية بأنه لم يأت لينافس ولم يأت ليحكم أو ليتحكم وأنه "مجرد رئيس حكومة" وأنه مستعد للتنازل عن اختصاصاته وصلاحياته لصالح المؤسسة الملكية، معتقدا أن هذه التنازلات المجانية ستعزز ثقة الدولة العميقة في شخصه. لكنه للأسف ساهم بوعي كبير في إنهاك الديمقراطية و إفراغ مؤسسة رئاسة الحكومة من كل مضامينها التي ناضلت من أجلها حركة 20 فبراير، رغم أنه لم يكن في حاجة لذلك، و تصرف كأن له دين تجاه هذه الجهة أو تلك. نعتقد أنه لو تعامل بنكيران بجدية أكثر مع الجهات المعنية، لما كان في الوضعية المحزنة التي هو عليها الآن، رغم أنه حصل على عدد المقاعد التي لم يسبق لأي حزب أن حصل عليها منذ ستينيات القرن الماضي، إذ يكاد يتوسل بعض الهيئات السياسية وخاصة منها الإدارية التي لم تكن تلعب إلا دور عجلة الإحتياط السياسي للحكومات السابقة. كنت دوما معجبا بإحدى مقولات الراحل الحسن الثاني "كبرها تصغار". فلو"كبرها" بنكيران مع الدولة العميقة خلال سنوات حكمه، لتعاملت معه بمنطق آخر أكثر احتراما وأكثر إنصافا، تماما كما فعل السياسي الكبير و الشجاع الأستاذ امحمد بوستة، أحد زعماء حزب الاستقلال الكبار و المحترمين، الذي رفض عرض الراحل الحسن الثاني، و ما أدراك ما الحسن الثاني، لقيادة حكومة 1993، لأنها كانت تضم من بين وزرائها الراحل ادريس البصري، رغم تنازل الراحل الحسن الثاني عن كل وزراء السيادة آنذاك. ولكن كيفما كان الحال، ما يقع اليوم من محاولة الالتفاف على هيأة سياسية نجحت في الانتخابات ، يعتبر عملا بيئسا وحقيرا، سيساهم في إضعاف الديمقراطية وليس في إنهاك بنكيران. رغم أن هذا الأخيرأنهك نفسه قبل أن ينهكه زمن التحكم. [email protected]