جاء في افتتاحية لتوفيق بوعشرين، بعنوان نقطة نظام، «دخل بلاغ «انتهى الكلام» إلى خانة البلاغات التاريخية، إلى جانب بلاغ «المنهجية الديموقراطية»، وبلاغات أخرى صدرت عن أقطاب الحركة الوطنية في الأربعة عقود الماضية، مثل بلاغ علال الفاسي الذي رفض الاستمرار في الحكومة 62 بعد طرد امحمد الدويري من وزارة المالية، وبلاغ عبد الله إبراهيم المتحفظ على المشاركة في الحكومة بعد دعوة مباشرة من الملك الحسن الثاني في السبعينات، وبلاغ عبد الرحيم بوعبيد حول رفض الاستفتاء في الصحراء في الثمانينات، الذي ذهب من أجله إلى السجن مع رفاقه، وبلاغ الكونفدرالية الديموقراطية للشغل الذي دعا إلى الإضراب العام»، أخبار اليوم- العدد 2184 الأربعاء 11 يناير 2017. قد نقبل أن يكون بوعشرين من المؤلفة جيوبهم، شريكا إعلاميا لبنكيران في مشروعه السياسي وناطقا رسميا فوق العادة باسم العدالة والتنمية... وقد نقبل تنازله عن كرامة الصحفي النزيه والمستقل مقابل مكاسب وغنائم لا تعد ولا تحصى... وقد نقبل تطليقه لشروط المهنية وتسخير جريدته لخدمة أجندة العدالة والتنمية وتلميع صورة قائدها، والهجوم الشرس والوقح على جميع الأحزاب السياسية وزعمائها، طبعا مع استثناء نبيل بنعبد الله تابع بنكيران إلى يوم الدين... وقد نقبل أن تتحول الصحافة معه إلى سخافة... قد نقبل هذا ونقبل الكثير من الخبث الذي تضمنته كل افتتاحياته السابقة، لأننا نعلم، وهو يعلم أكثر منا، أنه ضعيف أمام المال والامتيازات، ولهذا اختار أن يكتب تحت الطلب، والإغراءات تبرر الإملاءات... ولكن لن نقبل إطلاقا، الآن وغدا، لن نقبل ولو من باب التنكيت، أن يمس بوعشرين، بتفاهاته وشطحاته، قدسية التاريخ وعظمة صناعه... لن نقبل منه أن يدخل بنجاسته وانتهازيته معبدا لا يدخله إلا المطهرون... لن نقبل منه أن يشوه ويمسخ بلاغات تاريخية ومواقف شجاعة، صادرة عن قادة أسطوريين، زعماء لهم من الكاريزما، من المصداقية، من الشرعيات، من الأخلاق... ما أهلهم ليدخلوا التاريخ من أبوابه الواسعة.. كانوا فاعلين حقيقيين في التاريخ... أحياء في التاريخ، بل التاريخ حي بهم، علال الفاسي، عبد الله إبراهيم، عبد الرحيم بوعبيد وعبد الرحمان اليوسفي كانوا رجال دولة بجميع المقاييس، رجال سياسة ورجال فكر، أصحاب عقل وحكمة... تعالوا عن خسة المصالح الشخصية ونزوعات الحزبية الضيقة وعانقوا رفعة المصالح العليا للوطن، ودفعوا الثمن غاليا، ولكن التاريخ أنصفهم واحتضنهم ونالوا الاحترام في الداخل والخارج... وإن البلاغات الصادرة عنهم، وعن مؤسساتهم الحزبية، كانت بلاغات تعبر عن مواقف سياسية، شجاعة وحكيمة في لحظات حاسمة ومحطات مفصلية في تاريخ المغرب... بلاغات ساهمت في نقل المغرب سياسيا ومؤسساتيا، من منظومة الفكر السياسي الأنواري، وساهمت في التأسيس لمسلسل ديموقراطي شاق وعسير، قد يتعثر أحيانا ولكنه اختيار ناجع ولا رجعة فيه... إن البلاغات الصادرة عن هؤلاء العظماء الرموز، «أقطاب الحركة الوطنية» كما جاء في افتتاحية بوعشرين، وما أظن أن بنكيران واحد منهم وما ينبغي له أن يدعي ذلك، بلاغات تاريخية، لأنها فعلا حركت تاريخ المغرب، ودفعت به إلى الأمام ورسمت له خارطة الطريق نحو الديموقراطية والحداثة... إن بلاغ «المنهجية الديموقراطية» حرك الحقل السياسي، ومازال، واحتاج إلى أكثر من وقفة تأمل، وكان له حضور قوي في دستور 2011، ويحضر الآن في النقاشات السياسية المتعلقة بالتشكيل المعطل للحكومة... إن مفهوم المنهجية الديموقراطية في الخطاب الاتحادي له حمولة سياسية قوية، نضالية واحتجاجية، إنه المفهوم الحدث الذي وشم المسار السياسي ببلادنا، بدلالاته وتحذيراته، وهو المفهوم الذي أعفانا من قراءة الكثير من البيانات والمقالات والتحليلات، لقد كان مفهوما دقيقا ودالا، مركزا وعميقا... وكان له ما بعده... وما يحدث الآن مع تعيين عبد الإله بنكيران رئيسا مكلفا بتشكيل الحكومة، وما حدث في 2011 لما تم تعيين بنكيران رئيسا للحكومة هو دسترة لمفهوم المنهجية الديموقراطية، وكان البلاغ بلاغا تاريخيا. «وبلاغ عبد الرحيم بوعبيد حول رفض الاستفتاء في الصحراء في الثمانينات، الذي ذهب من أجله إلى السجن مع رفاقه» فلقد كان بلاغا تاريخيا بحمولة وطنية وروح وحدوية... إن بلاغ المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي كان دفاعا عن مغربية الصحراء وتشبثا بالوحدة الترابية والسيادة المغربية، بلاغ مؤسس على ذكاء سياسي يستشرف المستقبل، وقد كان بلاغ الشجعان، وكان له ما بعده كما أكد السي عبد الرحيم في المحاكمة الشهيرة.. واللاحق من الأحداث والتطورات أكد نباهة عبد الرحيم وإخوانه، والجميع اعترف بصحة وصدق الموقف، وكان الأمر يحتاج إلى تقديم الاعتذار، وهو ما حصل، وكان البلاغ بلاغا تاريخيا... إذن، هل يرقى بلاغ «انتهى الكلام» إلى مستوى البلاغات التاريخية، التي ذكرنا بعضها؟ طبعا لا، وسنبين لماذا. لننتظر! - إنه بلاغ متسرع، أملاه المزاج الانفعالي لبنكيران، ويحمل بين ثناياه تهور وغضب لا يليقان برجل مسؤول في حجم رئيس الحكومة، وهو بلاغ منفعل يعكس الحالة النفسية المتأزمة التي يمر منها الرجل الذي يحمله الجميع مسؤولية تعثر مسار تشكيل الحكومة، ويعيب عليه طريقة مفاوضاته الغريبة، والذي لا يستطيع اتخاذ أي قرار قبل العودة إلى الأمانة العامة للحزب التي أضحت المخاطب الوحيد لزعماء الأحزاب، بدل مؤسسة رئيس الحكومة المعين. - إن ما أسماه بوعشرين تعسفا وبهتانا، بلاغا تاريخيا، هو فقط لازمة شهيرة يرددها بنكيران في كل أحاديثه، وهي تعني أن لا تعقيب أو تفاوض أو نقاش، إنها تكثيف لغوي دال لكل مساره الشخصي المستفرد بالقرارات وسلطة الحسم، وتصاحبه مقولة «انتهى الكلام» في تعامله مع أعضاء حزبه، مع الوزراء في حكومته السابقة، مع الشركاء الاجتماعيين، واليوم يستعملها بطيش في تدبير المشاورات والمفاوضات مع زعماء الأحزاب، مما يؤكد أن بنكيران يعدم جميع إمكانيات التعايش والثقة بين الأطراف المتفاوضة، في وقت تتأسس أدبيات المشاورات الحكومية في جميع البلدان على تغليب منطق العقل والصبر وتقبل «المناورات» بصدر رحب، والاستعانة بالمواجهة والحوار المباشر والصريح، بدل لغة البلاغات والبيانات الملتوية حمالة الأوجه والمصاغة بمداد القبلية الحزبية. -إن مقولة «انتهى الكلام» تعكس الشخصية السلطوية لبنكيران، والشخصية السلطوية دائما ما تفضي إلى نشوء صفات تتأسس على بناءات نفسية واجتماعية وثقافية كابحة لعنصري العقلانية والموضوعية، والاتزان على المستوى السلوكي، حيث يكثر الانفعال والاندفاع والعناد والتصلب في الآراء والانغلاقية حول الأفكار والرؤى والتصورات، ونحن ندرك جيدا أن الانفعال شيء يأتي من الأحشاء وليس من العقل ويعتبر كقوة سلبية، وبالتالي يعد بحق كمعيق لصناعة القرار الجيد ويؤدي في العادة إلى مخرجات غير عقلانية، وسيادة أيضا أحكام القيمة المسبقة، وعدم الثقة في الآخرين، بمعنى أن الشخصية السلطوية دائما ما تضمر العدوانية للآخر، وتعمل على مهاجمة الخصوم، وتكثر من العنف اللفظي، وهذا هو حال بنكيران الذي تحكمه نزعة تكريس «الزعيم الأوحد والملهم» أو «الزعيم المنقذ». - مقولة «انتهى الكلام» مجرد آلية دفاعية يستعملها بنكيران ضد الخصوم والمنافسين، بفعل القلق الدائم الذي يرتابه والخوف الذي يشعر به والتوجس الذي ينتابه، مما يسقطه في حالة من الاندفاعية وعدم الاتزان، والمرفقة بهستيريا كلامية. - مقولة «انتهى الكلام» زلة من زلات اللسان البنكيرانية، وهي كثيرة، ولا يسع المجال هنا لذكرها، تلقى تبعات سياسية كبيرة سواء على المستوى الداخلي في علاقته مع الخصوم السياسيين، أو الزلات التي تفتح عليه النار من الخارج، والتي تؤدي إلى تأزيم العلاقات بين المغرب والدول الأخرى، كما هو الشأن في تصريحاته ضد روسيا بشأن سوريا، فهو في كثير من الأحيان لا يميز بين قناعاته ومواقفه الشخصية وفي كونه رئيس الحكومة الذي يفرض نوعا من الاحتراس في إطلاق الكلام على عواهنه. - إن مقولة «انتهى الكلام» تعكس نمط العلاقة التي يريد بنكيران أن تربطه بالأحزاب، فهو لا يريدها علاقة تكافؤ، إنما علاقة امتثالية، علاقة أوامر سلطوية، تستجيب لها الأحزاب بنعم امتثالية والنموذج هو نبيل بعبد الله! فكأن بنكيران لا ينطق إلا ليأمر وكأن الأحزاب الأخرى لا تتكلم إلا لتقول نعم، وهذه العلاقة تستلزم إلغاء دور فكر ووجود وتعدد الأحزاب، لأن دورها، كل دورها هو أن تقول نعم وتصمت، فبنكيران هو الكامل بلا ضفاف، وزعماء الأحزاب المنافسة هم الناقصون بلا ضفاف. - مقولة «انتهى الكلام» تعكس عجز بنكيران عن بناء خطاب عقلاني منطقي متماسك، وعجزه عن بناء نسق لغوي قوي شكلا ومضمونا... وليداري عجزه يحتمي بالاستفزاز اللفظي الحامل للعدوانية الدفينة والعنف المتأصل... لا مفر لبنكيران، إذن، من التوسل إلى العنف اللفظي ليسعفه بعدوان اللسان بغرض إسكات الآخر المختلف، وقصد إلهاب وجدان الأتباع وإشعالهم تصفيقا وولاء وتأييدا لبنكيران الذي هو «دائما على حق»... وكل من يختلف أو يعارض بنكيران يعتبر ضد الإصلاح... فالمختلفون والمعارضون تماسيح وعفاريت... لماذا؟ لأن هؤلاء يحدثون خللا، شرخا، جرحا في سلم القيم وفي إطار الإسناد الذي يحتكم إليه بنكيران والذي يقيس «عظمته» بما يسيله من دماء الأكف عن طريق التصفيق أو بتدمير الأحبلة الصوتية التي تهتف باسم القائد، الأمين العام ورئيس الحكومة. - مقولة «انتهى الكلام» تؤكد تشبع بنكيران بمرحلة العمل السري التي عاشتها «الشبيبة الإسلامية» وبعدها «الجماعة الإسلامية»، ففي مثل هذه التنظيمات المغلقة يصقل الأعضاء على الانصياع، وعدم الاختلاف والقبول بسطوة الزعيم.. ومما ساهم في صنع شخصية بنكيران التحكمية، الفترة التي كان فيها خطيبا في المساجد، وتنبني فكرة الخطابة على وجود شخص أعلى مرتبة يلقي كلامه في جموع المؤمنين الأقل معرفة بأمور دينهم ودنياهم، إنه المالك للحقيقة والآخرون متلقون لها لا يناقشون أو يعترضون، ما ينتظر منهم هو الحفظ والولاء.. وهو ما يكرر استنساخه بنكيران في التجمعات الحزبية، ونفس المشهد يحاول أن يستنسخه في المشاورات والمفاوضات مع الأحزاب بهدف تشكيل الحكومة. - مقولة «انتهى الكلام» تؤكد أن فكرة الإسلام السياسي تتعارض مع الديموقراطية، ولا يمكن لأحد أبدا أن يرى بعكس ذلك، فالمجتمع الذي يخطط له الإسلام السياسي، لا يؤمن أبدا بالتعددية، ولا يؤمن بالرأي الآخر، تؤكد ذلك تشريعات كثيرة تضعه، والتنظيمات والجمعيات التي تنظر له، أمام حرج كبير، فمن الحرية الفردية، إلى حرية الاعتقاد، إلى مبدأ تداول السلطة، كل ذلك لا يمكن أن يقول أحد بقبول «الإسلام السياسي» له، لأنه لو قال بذلك فهو تلقائيا يخرج من الفهم الذي يولده وهو «الولاية الإسلامية» و»إقامة الشرع والشريعة» الذي يرى بأنه هو الصواب الوحيد، بل وفكرة قيام المشروع نفسه مبنية على هذا، ومبنية على ولايتها المطلقة على الناس... إن التحصن بصناديق الاقتراع يخفي إيمان الإسلاميين بأن العملية الديموقراطية هي مجرد مرحلة انتقالية لإقامة الخلافة الإسلامية. بلاغات أقطاب الحركة الاتحادية، هي بلاغات المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي، هي بلاغات تاريخية لها امتداداتها في الحاضر، وبلاغ المكتب السياسي الأخير يؤكد هذه الامتدادات، ولبوعشرين أن يقارن بين بلاغ المكتب السياسي وبلاغ «انتهى الكلام»، «لا قياس مع وجود الفارق»، بنكيران سيتراجع وسيتكلم ولنترك التاريخ لصناعه الحقيقيين.