بعد "بلوكاج" سياسي غير مسبوق في تاريخ الديمقراطية الاسبانية، تجاوز أمده عشرة شهور دون التوافق حول تشكيل الحكومة الاسبانية، نجح "الحزب الشعبي"، أواخر شهر أكتوبر الماضي، في انتزاع ثقة البرلمان في حكومة يمينية ذات أقلية، وبالتالي الخروج ولو إلى حين من الدائرة المفرغة لإعادة الانتخابات وتعطيل مؤسسات الدولة. في المقابل، فإن المغرب وبعد الانتخابات التشريعية لسابع أكتوبر، دخل بدوره لأول مرة متاهة "بلوكاج" تشكيل الحكومة، وبالتالي فلا بأس من مقارنة بين ما حدث في اسبانيا وما يحدث في المغرب، رغم الفارق الكبير بين ملكية برلمانية في اسبانيا يسود فيها الملك ولا يحكم، وبين ملكية دستورية في المغرب يسود فيها الملك ويحكم وتحظى فيها مؤسسة رئاسة الحكومة بصلاحيات واسعة إذا تم تفعيلها. هاته المقارنة تجد تبريرها في كون النموذج السياسي الأقرب للمغرب الذي يمكن الاستفادة من بعض دروسه وكذلك أخطائه هو النموذج الاسباني، ليس لكونه الأقرب جغرافيا للمغرب فقط، بل كذلك للقرب الوجداني. فعندما ينظر المغاربة إلى بعض النماذج الملهمة والناجحة لا يجدون في الجوار العربي والإفريقي أي نموذج ملهم، وعند النظر جهة الديمقراطيات الغربية، يبقى الانتقال الديمقراطي الاسباني مرجعا قريبا ومفيدا؛ لأنه تم في إطار نظام ملكي وفي إطار الإصلاح لا الثورة والقطيعة. وكذلك فإن الملكية البرلمانية في اسبانيا تبدو أقرب من مثيلاتها في بلجيكا وبعض الدول الإسكندنافية والمملكة المتحدة، وبالتالي فإن القول بالخصوصية المغربية هو قول صحيح إذا ما اتسم دائما باحترام الديمقراطية وكرامة الإنسان. أما إن خرج عن ذلك؛ فإنه يكون أداة مقنعة لممارسة بعض مظاهر الاستبداد والخروج عن مقتضيات احترام القانون. هل هناك "بلوكاج" وماهي علاماته؟ في اسبانيا كان هناك "بلوكاج" حقيقي ومسلسله قد يعود في أي وقت؛ لأنه "بلوكاج" سياسي حقيقي نابع من الحقائق التالية: نهاية الثنائية القطبية بصعود حزبين قويين هما "حزب بوديموس" و"حزب المواطنين". هناك خلاف إيديولوجي عميق بين الأحزاب اليسارية واليمينية، خصوصا بين "الحزب الاشتراكي" و"الحزب الشعبي" من جهة، وبين "الحزب الشعبي" و"حزب بوديموس" من جهة أخرى. هناك خلاف عميق وجوهري بين أحزاب ذات نزعة وطنية (الحزب الشعبي، الحزب الاشتراكي وحزب المواطنين...) وأحزاب ذات نزعة قومية وانفصالية من قبيل الأحزاب الكتالانية والباسكية، إضافة إلى أحزاب مساندة لأطروحاتها مثل "حزب بوديموس". وجود خلاف حاد في البرامج والسياسات بين الأحزاب الرئيسية. استقلالية القرار الحزبي واحتكامه إلى الحزب وليس إلى دوائر خارجية. عدم وجود صراع من اجل الاستوزار واقتسام الغنائم والترضيات، والدليل على ذلك أن "حزب المواطنين" دعم "الحزب الشعبي" بأصواته دون الدخول في الحكومة، بل اشترط التزام الحزب الشعبي" بتنفيذ مجموعة إصلاحات. صلاحيات الملك المحدودة التي تجعله ملزما باحترام الدستور وما تتوافق عليه الأحزاب باعتبار شرعيتها الانتخابية. وبالتالي كان "البلوكاج" طبيعيا وحقيقيا، وكانت تعقيداته تعبر عن التحولات العميقة التي تعرفها اسبانيا في كل المجالات، بل إنها شكلت فرصة لما أطلق عليه بعض الساسة الاسبان الحاجة إلى توافق جديد من أجل "انتقال ديمقراطي ثاني". في المقابل، فإننا نطرح السؤال التالي، هل "البلوكاج" الذي تحدث عنه البعض في المغرب هو "بلوكاج" حقيقي أم إنه مزيف؟ في اعتقادي انه "بلوكاج" مزيف لعدم وجود مسبباته: ليس هناك خلاف إيديولوجي أو قيمي بين الأحزاب المتنافسة، والدليل على ذلك العلاقة القوية التي تجمع حزبي "العدالة والتنمية" و"التقدم والاشتراكية". عدم وجود أحزاب قومية أو انفصالية، فكلها أحزاب وطنية ووحدوية. ليس ثمة خلاف على البرامج والسياسات، والدليل على ذلك أن حتى المتخصصين لا يجدون فوارق تذكر في البرامج، خصوصا وأن كثرة الوعود الوهمية أفقدت البرامج قيمتها، كذلك فإن "حزب الأحرار"، وحسب التسريبات، لم يتحدث عن البرامج وإنما اشترط عدم مشاركة "حزب الاستقلال" دون وجود خلافات بنيوية، إيديولوجية أو تاريخية. تهافت الأحزاب على المشاركة في الحكومة وتسريبات بكون بعضها ناقشت ترشيحات وزراء قبل أي شيء آخر. تم الحديث عن "بلوكاج" ولم يمر حتى شهران على الانتخابات التشريعية، وهو حيز زمني معقول وغير كاف للقول بوجود "بلوكاج" من عدمه. عدم استقلالية القرار الحزبي لجل الأحزاب، وهي نقطة سوداء تدفع إلى تساؤلات أخرى، لكن اقتصر على تساؤل واحد: من في مصلحته تعثر تشكيل الحكومة؟ الجواب على هذا السؤال ألاّ أحد يحب الخير لهذا الوطن في مصلحته ذلك، ليس لكون "العدالة والتنمية" نجح في فرض نموذجه وذاته، أيا كان موقعه في المعارضة أو الحكومة، ولكن لكون البلاد تواجه تحديات جمة، وقوة البلاد الخارجية رهينة بقوة جبهتها وإصلاحاتها الداخلية. كذلك فإن مقتل الشاب محسن فكري وتداعيات ذلك أظهرت هشاشة الإصلاحات وأن الطريق لازال وعرا وطويلا في جواب لمن قد يبحث عن مخارج غير ديمقراطية وغير دستورية ل"بلوكاج" مزيف. النموذج الاسباني في الخروج من عنق الزجاجة: يعزى الفضل في نجاح الاسبان في مسلسلهم الديمقراطي، رغم الصعاب التي لازالت في انتظاره، إلى: احترام مقتضيات الدستور من قبل كل المؤسسات والرجوع إلى الناخبين الذين عاقبوا الاشتراكيين عند إعادة الانتخابات، فكان ذلك أحد أسباب أزمة الاشتراكيين وتليين موقفهم بالسماح "للحزب الشعبي" بتشكيل الحكومة. إن المشرع الدستوري أوجد حلولا تسمح لأحزاب أخرى، في حال فشل الحزب الفائز في تشكيلها، بأن تحاول تشكيل الحكومة؛ وذلك دائما في إطار كسب ثقة البرلمان. إن المشرع الدستوري اشترط الأغلبية المطلقة في التصويت الأول، فإن لم تتوفر فتكفي الأغلبية النسبية في التصويت الثاني التي قد تتأتى بامتناع البعض عن التصويت أو تغيبه، وهو ما سمح للحزب الشعبي" بقيادة حكومة ذات أقلية". إن الدستور وضع آجالا في حدود الشهرين بعد فشل التصويت بالثقة والدعوة إلى إعادة الانتخابات، وبالتالي فإن الحديث عن "بلوكاج" من عدمه يتم عند بلوغ الآجال المعلومة دون حدوث توافق. كذلك فإن القانون التنظيمي الذي يعتبر مكملا ومتتما للدستور قد أطر عمل حكومة تصريف الأعمال، وتكفي الإشارة إلى أن حكومة تصريف الأعمال اليمينية التي كان يقودها ماريانو راخوي، مدة عشرة أشهر، قد جاءت بنتائج اقتصادية مشجعة ونمو اقتصادي فاق 3 بالمائة في 2016. في المقابل، فان هاته النقاط تستوقف المشرع الدستوري المغربي وتطرح الأسئلة التالية: لماذا جاء الفصل 47 من الدستور ناقصا ولم يحدد، مثل نظيره الاسباني، بالمكتوب حالات الفشل في تشكيل الحكومة، والآجال وكذلك الأغلبية اللازمة كانت أغلبية مطلقة أو نسبية؟ لماذا وجد المغرب نفسه بدون "حكومة تصريف أعمال"؟ بحيث إن الوضع الحالي هو بعض وزراء تصريف الأعمال وليس حكومة تصريف الأعمال بعد استقالة عدد كبير منهم وجلوس رئيس الحكومة في بيته في انتظار التوافق حول "الأغلبية المطلقة"، وهو ما من شأنه أن يضعف من "مؤسسة رئاسة الحكومة" لا أن يقوي دورها في إطار قوة دولة المؤسسات. ربما تكون الإجابة في خصوصية النظام السياسي المغربي التي قد يرغب البعض في تأويلها بما لا تحتمل، لكن مع ذلك ما الذي يعيب التنصيص على كل ذلك دستوريا لتفادي بعض التأويلات وبعض الأعراف غير الديمقراطية التي قد لا تعدو أن تكون خروجا عن مقتضيات الدستور وإضعافا له. وأخيرا، فإن الملك المغربي، وبخلاف الملك الاسباني، ضمانة مهمة ضد أي "بلوكاج حقيقي". كذلك فإن الإصلاحات التي يقودها من شأنها أن تبوئ المغرب نادي الاقتصاديات والديمقراطيات الصاعدة.