لأول مرة في تاريخ الديمقراطية الاسبانية، يتم حل البرلمان الذي لم تدم ولايته أكثر من 111 يوما، وتتم الدعوة إلى إعادة الانتخابات العامة في يونيو المقبل بسبب تعذر تشكيل حكومة ائتلافية تحظى بثقة أغلبية الأعضاء في مجلس النواب. فسيفساء من حوالي 16 حزبا ممثلا في المجلس كما هو معلوم، شكلت نتائج الانتخابات العامة في دجنبر من العام الماضي سابقة في تاريخ الاستحقاقات الاسبانية؛ حيث كسرت قاعدة الثنائية القطبية التي هيمنت على المشهد السياسي الاسباني لأكثر من ثلاثة عقود، وساهمت في تبوئ أحزاب حديثة مراتب متقدمة، على غرار حزب "بوديموس" وحزب "المواطنين" اللذين حصلا لوحدهما على حوالي 109 مقاعد من 350 المشكلة لمجلس النواب، كذلك جاءت تلك الانتخابات في مناخ متسم بمسعى الحكومة الكاتلانية إلى الدفع بإجراءات أحادية الجانب من أجل استقلال كاتالونيا عن اسبانيا، دون أن ننسى تأثيرات الأزمة الاقتصادية وفضائح الفساد بالجملة التي ضربت الزعامات السياسية، وخصوصا العشرات من قيادات "الحزب الشعبي" الحاكم، وهو ما ساهم في تعقد المشهد السياسي وتأزمه. في المقابل، فان الإخفاق في تشكيل الحكومة كان منتظرا للأسباب سالفة الذكر ولمعطيات مرتبطة بالإيديولوجيات المتباعدة للأحزاب، بين ما هو يساري متشدد وآخر معتدل وبين ما هو يميني وآخر وسط، وبين أحزاب جهوية ذات مطالب انفصالية وأخرى دستورية وحدوية ملتزمة باحترام مقتضيات الدستور، كذلك تباين في مشاريع وبرامج أحزاب ذات توجهات تقدمية وأخرى تنعت نفسها بالإصلاحية. دروس وعبر من الإخفاق في تشكيل الحكومة - الالتزام الإيديولوجي: ظهر جليا مدى التزام مجموعة من الأحزاب بإيديولوجيتها وبوعودها الانتخابية ولم تنجر وراء تشكيل حكومة بأي ثمن، ويتجلى هذا في موقف "حزب بوديموس" الذي لم يرغب في التحالف مع "الحزب الاشتراكي" و"حزب المواطنين" على اعتبار هذا الأخير حزبا يمينيا يعد امتدادا "للحزب الشعبي"، ودعا إلى تحالف اليسار التقدمي لتشكيل الحكومة، كذلك رفض "الحزب الاشتراكي" بشكل قاطع الدعوات المتتالية من "الحزب الشعبي" لتشكيل تحالف يميني يساري، يجمع بينهما لأول مرة. الرجوع إلى القواعد: فعلت الأحزاب الاسبانية ديمقراطيتها الداخلية ولجأت إلى مناضليها في اتخاذ بعض قراراتها بخصوص التحالف الحكومي من عدمه، وتجلى ذلك خصوصا في الاستشارات التي قام بها كل من "الحزب الاشتراكي" و"حزب بوديموس". - أحزاب وطنية وأخرى انفصالية: أبان "الحزب الشعبي" و"الحزب الاشتراكي" و"حزب المواطنين"، الأحزاب التي تمتلك غالبية الأصوات، أنها أحزاب دستورية ووحدوية وأنها لا تزايد على وحدة البلاد وترفض إجراء أي استفتاء لتقرير المصير في جهة كاتلونيا. - سيادة لغة الحوار: رغم صعوبات المرحلة وخصوصيتها، فقد أبانت اللحظة عن وعي ونضج الطبقة السياسية وعدم تسرعها في التوافق من أجل التوافق، ولكن هناك توافقا على الحوار وعلى الالتزام بالدستور أولا، ومن ثمة فإن التوافق السياسي لا بد أن يأتي في حينه وميقاته. - الدور الايجابي للمؤسسة الملكية: يلعب الملك فيلب السادس في هذه الفترة الصعبة دوره الدستوري بامتياز؛ بحيث إن قراراته التي اتخذها إلى حين الساعة تحظى بكثير من الإجماع، وخصوصا عندما كلف "بيدرو شانزيس"، زعيم الاشتراكيين، بمحاولة تشكيل الحكومة، لكن هذا لا يمنع من أن المسلسل لا يزال مفتوحا ومعرضا لكثير من التعقيدات. - عدم تناسب الحملة الانتخابية السابقة مع طبيعة النتائج: قادت الأحزاب السياسية الاسبانية الحملة الانتخابية الأخيرة بطريقة الانتخابات السابقة نفسها، لكن الخلاف الأساسي هو أن الانتخابات السابقة كانت تفرز حزبا فائزا صاحب أغلبية مطلقة قادرا على تشكيل الحكومة لوحده دون الحاجة لأحزاب أخرى، أما اليوم فالأحزاب عليها أن تختار من تهاجم ومن تهادن لتبقي على خيط الود حتى يبقى لها مجال لتحالفات مع أحزاب أخرى، خصوصا وأن أي حكومة مقبلة تحتاج في تشكيلتها إلى تحالف ثلاثة أحزاب فأكثر، وبالتالي عدم توجيه الاتهامات يمنة ويسرة. - زعامات مرنة وأخرى متعنتة: ساهمت هذه المرحلة في إبراز الطريقة التفاوضية للقيادات السياسية، وخصوصا الجديدة على المشهد السياسي؛ حيث بدا جليا من استطلاعات الرأي الأخيرة استحسان الناخبين لأداء زعيمي "حزب المواطنين" و"حزب اليسار" الموحد في مقابل نزول شعبية "بابلو اغليسيس" زعيم "بوديموس"، لكن المفاجأة التي أظهرها استطلاع الرأي الذي أنجزه "مركز الأبحاث الاجتماعية"، والذي تم نشر نتائجه هذه الأيام، أن جل الزعامات السياسية لم تحصل على معدل مقبول؛ أي إن تقديرها أقل من 5 من عشرة. انتخابات26 يونيو القادمة: تجري إعادة الانتخابات الاسبانية العامة في شهر يونيو المقبل في مناخ يتسم بعدم رضا الناخبين الإسبان عن الوضع السياسي الحالي. فحسب استطلاع الرأي نفسه، فإن أزيد من 81 في المائة يعتبرون الوضع السياسي العام سيء أو أكثر سوء، في مقابل أقل من واحد في المائة يعتبرون الوضع السياسي جيد جدا. كذلك أظهر الاستطلاع أن تذمر الإسبان وغضبهم هو في درجة أكبر مرتبط بالوضعية السياسية أكثر منه بالوضعية الاقتصادية. في هذا المناخ المعقد تعمل جل الأحزاب على تقييم المرحلة والاستعداد للانتخابات العامة، وهي تعلم من خلال استطلاعات الرأي المختلفة أن النتائج ستكون، بشكل أو بآخر، قريبة من نتائج الانتخابات السابقة، وبالتالي الحاجة إلى التوافق وإلى حكومة ائتلافية. كذلك لا يبدو في الوقت الراهن تغيير في ترشيحات زعاماتها، فرئيس الحكومة الحالي "ماريانو راخوي" مازال هو مرشح "الحزب الشعبي" وكذلك الشأن لباقي زعامات الأحزاب المتنافسة، غير أن جديد هذه الانتخابات يكمن في مفاوضات تحالف انتخابي يجمع بين حزبي "بوديموس" و"اليسار الموحد"، وهو ما من شأنه، إن تأكد وبحسب استطلاعات الرأي، أن يؤدي إلى فوزهما بالرتبة الثانية على حساب "الحزب الاشتراكي"، وهو ما سيضعف من موقع هذا الأخير أكثر مما هو عليه الآن. وخلاصة القول إن الانتخابات المقبلة مازالت تحمل التشويق، ليس بسبب النتائج، بقدر ما إدارة الأحزاب لجولة جديدة من المفاوضات من أجل تشكيل الحكومة والتأسيس لنموذج سياسي يرتكز على التعايش والائتلاف الحزبي، بدل عقلية الهيمنة والأغلبية المطلقة التي سادت لعقود خلت. كذلك، فإن استيعاب النخبة السياسية لطبيعة المرحلة سيظهر من خلال حملتها الانتخابية المقبلة، والتي يبدو أن حرب التموقعات المستقبلية ستكون حاضرة، وسيحاول الساسة استثمار معطيات المرحلة والعمل بذكاء لإقناع الناخبين الذين أبانوا في اسبانيا عن قدرتهم على خلخلة وقلب قواعد اللعبة السياسة متى وجدوا لذلك سبيلا. *باحث في الشأن الإسباني