كشفت الإحصائيات التي قدمها المرصد الوطني للعنف ضد النساء في تقريره الأول بخصوص سنة 2014، عن خطورة الظاهرة التي جعلت المجتمع يُطبّع مع الاعتداء على النساء في الأماكن العمومية مثلما طبّع مع تعنيفهن في البيوت الزوجية. فأن تبلغ نسبة العنف الجسدي ضد النساء في الأماكن العمومية 53.7% ، ونسبة العنف الجنسي 66.4% ، مؤشر خطير على الوضع الذي آلت إليه حقوق النساء في المغرب . وقد لعبت حكومة بنكيران دورا مباشرا في التشجيع على انتشار الظاهرة وشرعنتها بسلسلة من الإجراءات والإشارات التي تُنسف كل ما راكمته الحركة النسائية من مكاسب حقوقية واعتبارية ،وكذا ما جاء به دستور 2011. وعلى الرغم من الدعم الأوربي للحكومة من أجل مكافحة العنف ضد النساء ، ظلت الحكومة تتلكأ تارة ، وأخرى تصدر قوانين تكرس التمييز والظلم ضد النساء كما هو الشأن بالنسبة لمشروع القانون الجنائي الذي يشرعن جريمة قتل النساء باسم الشرف ويحمي مرتكبيه أيا كانت قرابتهم للضحية ، وقانون العاملات الذي يجيز تشغيل الأطفال ؛ وفي أحسن الحالات تخرج مؤسسات منخورة وصورية ليست لها أدنى الصلاحيات التي ينص عليها الدستور كما هو الحال بالنسبة لقانون هيئة المناصفة . من هنا يمكن التشديد على أن العنف ضد النساء هو ثقافة متفشية في المجتمع منذ قرون وقد تغذى على التراث الفقهي وتلبّس بالدين فصار جزءا منه .وما يزيد من خطورة ظاهرة العنف ، أن الفتاوى الفقهية والمواعظ التي تبثها منابر الجمعة والقنوات الفضائية والإذاعات الرسمية والخاصة ، كلها تشرعن العنف وتتصدى لمناهضيه من الهيئات النسائية والحقوقية . وكل تلك الفتاوى الفقهية تركز على شيطنة المرأة ، ومن ثم تجعل تعنيفها شريعة إلهية من ناهضها ناهض الدين والشرع. ومن مساوئ الحكومة التي رأسها بنكيران أنها شجعت فقهاء البداوة على اعتلاء المنابر ونشر تُرهاتهم التي يرى فيها حزب العدالة والتنمية جزءا من العقائد التي يؤمن بها ويترجمها إلى مشاريع قوانين تصير ملزمة للمجتمع . وما يقوم به الفقهاء والخطباء إياهم هو تكامل الأدوار وخدمة لإستراتيجية بدْوَنة المجتمع وأخونته. وكون الحكومة تسكت عن الترويج الواسع للكتب ذات المحتوى المتطرف والعنصري ضد النساء ، ليس له من معنى سوى تكريس واقع العنف وسرعنته وحماية الجناة . ولا سبيل لمواجهة هذا الوضع الذي تعانيه النساء سوى بسلسلة من الإجراءات الحازمة يأتي في مقدمتها : 1 وضع تشريعات وقوانين صارمة تلزم الدولة ومؤسساتها وعموم المواطنين بضرورة احترام المرأة كإنسان داخل المنزل وفي أماكن العمل وفي الأماكن العمومية . ومن شأن الصرامة في تطبيق القوانين أن يردع ميولات الأفراد التي تغذيها ثقافة الجواري الموروثة عن عهود السبي والاسترقاق حيث كانت الجواري والسبيات ملكا مشاعا يتصرف فيه بكل حرية أبناء القبيلة . ثقافة الجواري هذه هي التي تجعل الذكور يعتقدون ويتصرفون كأنهم أفراد قبيلة لهم كامل الحق في احتكار استعمال الأماكن العمومية واستغلال جسد النساء اللائي يخرجن دون محْرم أو مالك . ذهنية الاسترقاق ظلت تعيش وتتغذى على الأعراف الاجتماعية التي تهين النساء وتختزلهن في الجنس والمتعة . ولعل تلكؤ الحكومة في إخراج القانون المجرّم للعنف ضد النساء في الأماكن العمومية تعبير صريح عن تشبع رئاستها بنفس الثقافية التبخيسية للمرأة وقيمها البدوية التي تساوي بين المرأة والبهيمة . فالمفروض في القوانين أن تؤطر المجتمع وترقى بسلوك الناس ليرقى تفكيرهم وتسمو قيمهم . فما تحققه القوانين على المدى القريب لا تحققه الثقافة إلا على مدى أجيال . ومجتمعنا بحاجة إلى الموازاة بين التشريعات القانونية الزجرية وبين القيم الثقافية النبيلة التي تسمو بالسلوك الأخلاقي وبالذوق العام . 2 مراجعة التراث الفقهي مراجعة شجاعة وحقيقية تستهدف غربلته من كل الفتاوى والاجتهادات التي تشرعن الأعراف الاجتماعية وتلبسها لبوس القدسية . وليكن دليل هذه المراجعة النقدية الشاملة للتراث الفقهي : أ البُعد التكريمي الذي ينص عليه القرآن الكريم (وكرمنا بني آدم) دون تمييز جنسي أو عرقي أوديني ، بما يحقق المساواة بين الجنسية في أسمى المسئوليات وهي الولاية ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) (إنما النساء شقائق الرجال ) . والغاية من استحضار هذا البعد هو إبعاد كل الفتاوى والمراجع الفكرية والفقهية التي تتعارض مع قيمة التكريم وتعطل البعد القيمي للدين في تحقيق المساواة بين الجنسين في الاضطلاع بكل المهام مهما كانت جسيمة وكذا الحظوة والتمتع بالاحترام والتقدير ، خاصة بالنسبة للمرأة في المجال الخاص كما العام . إذ لا يعقل أن تظل الآراء الفقهية المحرضة على إهانة النساء وتحقيرهن موضوعا للتداول على نطاق واسع وتنشرها المنابر الدينية والمواعظ الفقهية ، ومنها الأحاديث المنسوبة للرسول الكريم (النساء حبائل الشيطان.) (إذا كان الشؤم في شيء، ففي الفرس والمرأة والمسكن)، ( لا يُسأل الرجل فيما ضرب أهله!) (علّقوا السوط حتى يراه أهل البيت فإنه أدب لهم). ب البعد الحقوقي/الإنساني كما بلورته الاجتهادات والتجارب الإنسانية لدى شعوب الأرض . وهذا يقتضي أنسنة الفقه الإسلامي والارتقاء به ليستوعب ويساير الأجيال الحقوقية في سموها .فصلاحية الدين الإسلامي لكل مكان وزمان تقتضي فتح باب الاجتهاد للمواءمة بين الإنتاجات الفقهية في بعدها القيمي والأخلاقي والإنساني وبين قيم العصر وحقوق الإنسان كما هي حركيتها وتطورها وبُعدها الكوني .